كثيرة هي المقارنات بين نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ذهب بعضهم إلى «الاحتفال» بالقضاء على الأول، لكن للكاتب الأميركي أندي كلارنو، وهو أستاذ مساعد لمادة السوسيولوجيا والبشر الملونين في جامعة «إلِنُويزْ» الأميركية الذي قضى أكثر من عقد في منطقة جوهانسبرغ والقدس، رأي آخر في المسألة. فنراه يقدّم في كتابه «الفصل العنصري النيوليبرالي ــــ فلسطين/ إسرائيل وجنوب أفريقيا بعد عام 1994» (منشورات جامعة شيكاغو ـــ 2017) دراسة إثنوغرافية مفصّلة عن تداعي الفقراء في بلدة ألكسندرا الجنوب أفريقية من جهة، وديناميكيات الاستعمار والتطويق في بيت لحم من جهة أخرى، وكذلك نمو الضواحي المحصّنة والأمن الخاصّ في جوهانسبرغ، ونظام التنسيق الأمني بين الجيش الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.

كما يتناول القيود المفروضة على التحرّر في جنوب أفريقيا، ويسلّط الضوء على تأثير إعادة الهيكلة النيوليبرالية في فلسطين، ويجادل بأن شكلاً جديداً من أشكال الفصل العنصري النيوليبرالي قد ظهر في كلا السياقين. بذلك، فإنّه يقوّض المفهوم الخاطئ الشائع بأنّ ما يسميه إسرائيل/ فلسطين وجنوب أفريقيا سلكتا مسارات متباينة في التسعينيات حيث أصبحت الأخيرة أنموذجاً للحرية والمساواة بعد القضاء على العنصرية. بدلاً من ذلك، فإنّه يوضح بأن تجارب الفلسطينيين الفقراء ومستويات معيشتهم، والسود الفقراء في جنوب أفريقيا محفوفة بالمخاطر وعرضة للعنف والتهميش.
يركّز أندي كلارنو في مؤلّفه هذا على كيفية تقاطع العنصريّة والرأسماليّة والاستعمار والإمبراطورية في هيكلة إبقاء الفلسطينيين والسود في جنوب أفريقيا على قيد الحياة، بالكاد، بين الضغوط المزدوجة للاستعمار الاستيطاني والرأسمالية الِعرقية، ويجادل بأن الشكل الجديد من «الفصل العنصري النيوليبرالي» يتميّز بعدم المساواة الشديدة والتهميش العنصري و«الأمننة» المتقدّمة والأزمات المستمرة، وهو ما يصف الأنظمة الحاكمة في كل من جنوب أفريقيا ما بعد الفصل العنصري وفلسطين/إسرائيل ما بعد أوسلو، مع عواقب وخيمة على الفلسطينيين العاديين والبشر السود في جنوب أفريقيا. وقد اعتمد الكاتب في تحليلاته على مزيج من علم الاجتماع التاريخي المقارن والإثنوغرافيا الحضرية المقارنة، وانهمك الكاتب في أكثر من ثلاث سنوات من البحث الإثنوغرافي والأرشيفي عبر كلا الموقعين الميدانيين، إضافة إلى أكثر من مئتي مقابلة.
يضيء على تأثير إعادة الهيكلة النيوليبرالية في فلسطين


نظّم الكاتب مؤلّفه وفقاً لموضوعَين رئيسيَّين يشكّلان نظريته للفصل العنصري النيوليبرالي: أولاً، التهميش وعدم المساواة، والثاني الأمننة والأزمة. يبدأ المؤلّف بنظرة عامة على تاريخ الاستعمار الاستيطاني والرأسمالية العرقية في كلا الموقعين، مع التركيز تركيزاً خاصّاً على الانتقال النيوليبرالي بعد التسعينيات من الاقتصاد الفوردي العنصري الذي حدث في فلسطين/ إسرائيل وجنوب أفريقيا. بعد ذلك، ينتقل في الفصلين الثاني «ألكسندرا: هشاشة الفقراء» والثالث «بيتلحم: استعمار نيوليبرالي» إلى استكشاف عمليات عدم المساواة والتهميش في جنوب أفريقيا وفلسطين/ إسرائيل، ويُجري مقارنة بين العمالة في ألكسندرا، حيث يتم احتواء السود المهمّشين من جنوب أفريقيا داخل «غيتو من الإقصاء»، بينما يتعامل سكان بيت لحم مع المحاولات النيوليبرالية لاحتواء السكان المستعمَرين من خلال الحصار. ويوضح أن توظيف العمالة الفلسطينية من قاطعي الحجارة في بعض تلال وسط فلسطين لاستخدامها في بناء مستوطنات إسرائيلية، هو إذلال مستمرّ يوضح ممارسات الاستعمار النيوليبرالي. ثانياً، يصوّب نظره في الفصل الرابع (مافيا مشرعنة: الخصخصة الأمنية في جوهانسبرغ) صوب ممارسات الأمننة بما في ذلك ظهور شبكات أمنية جديدة خاصّة واستراتيجيات للشرطة العنصرية التي تدعم الممارسات غير المستقرّة للفصل العنصري النيوليبرالي في كلا الموقعين. ففي جنوب أفريقيا، تستأجر الأحياء الثرية في ساندتُن قوات الأمن الخاصة لشن حرب عصابات منخفضة الكثافة ضد الدخلاء السود المحتملين، بينما ناقش في الفصل الخامس (احتكار العنف؟: التنسيق الأمني في الضفة الغربية) ارتباط ممارسات الأمننة المماثلة في فلسطين/ إسرائيل، بالمشاريع الإمبريالية الأميركية في الشرق الأوسط. يسلّط كلارنو الضوء على الحياة اليومية للعمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يعملون في هذه الأنظمة الأمنية، ومع ذلك يتم استقطابهم من السكان الذين تستهدفهم ممارسات الأمن هذه. تكشف التجارب المتناقضة لهؤلاء الرجال السود في جنوب أفريقيا وقوات الأمن الفلسطينية عن كلّ التوترات وعدم الاستقرار في المشاريع الرأسمالية الاستعمارية والعرقية الاستيطانية وتستحق مؤلفاً خاصاً بهم. يختتم كلارنو حديثه بـ «توضيح مفهوم الفصل العنصري النيوليبرالي، بحجّة أن التركيز المفرط على التعريف الدولي للفصل العنصري يتجاهل الأعمال المستمرّة للرأسمالية العرقية، ما يساعد على تفسير سبب أن انتهاء الفصل العنصري داخل دولة جنوب أفريقيا» لم يغيّر بالكامل حياة السود في جنوب أفريقيا مثل أولئك الذين التقى بهم في ألكسندرا.
أخيراً، يلفت الكاتب نظر القرّاء إلى أنه خارج جنوب أفريقيا وفلسطين/ إسرائيل، من الشائع الآن مواجهة جوانب الفصل العنصري النيوليبرالي في المدن والدول والمناطق في جميع أنحاء العالم. وقد أدّت مجموعات من الليبرالية الجديدة والاستعمار إلى عدم المساواة (غالباً مع ما يشبه المساواة)، والتهميش والأمننة والأزمات. وتعتمد أنظمة الفصل العنصري النيوليبرالية، من إمبراطورية الولايات المتحدة إلى النخب المحلية، على العنف للحفاظ على سلطتها في مواجهة عدم المساواة والتهميش العنصري غير المسبوق. وعلى الرغم من انتشار قوات الأمن، إلّا أنّ هذه الأنظمة لا تزال محفوفة بعدم الاستقرار. يمكن أن يسهم فهم طرق تورّط فلسطين/ إسرائيل وجنوب أفريقيا في هذه العمليات العالمية في تكوين حركات أوسع ضد الفصل العنصري النيوليبرالي العالمي.

Neoliberal Apartheid: Palestine/Israel and South Africa after 1994- University of Chicago Press

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا