عمل السّيد عومار الزاهي بالقنصلية الجزائرية بمدينة تولوز، جنوب غرب فرنسا، لأكثر من خمس سنوات. وصل نهاية السبعينيات، ليعود بعد ولادة ابنته الثانية عام 1984. كان شتاء بارداً، وهو لم يُغيّر من طريقة لبسه. في البِلاد لم يكن يلبسُ شيئاً فوق القميص الأبيض، فقط الجاكيت أو المعطف، حسب الطقس، واستمر في تولوز كذلك.
مرض بعد أول أسبوع، لم يُقاوِم. صباح ثاني يومٍ من الويكاند كان ممدّداً في الصالون، يرتعشُ تحت الأغطية، زوجته كانت تتحدّث مع الجارة الجزائرية التي تسكُن الطابق الأرضي، عجوزٌ تُقيم في فرنسا منذ الخمسينيات، كان الحديث يصلهُ مشوشاً بسبب طنينٍ لازم أذنيه كحلق. فجأة وقفت عند رأسه العجوز الجزائرية، قالت له كلمتين: «يا ولدي ما تعملش كيفهم، هوما يشربوا في كل وقت ما يبردوش، أنت ألبس تريكو صوف تحت القمجة، وهكا ما تفسّد لبسك، ما تبرد... وبالشفى عليك». هذا ما بقي في ذاكرته من أيامه الأولى بتولوز. صار يلبس تريكو صوفي تحت القميص الأبيض، ثم يضع ربطة عُنق فلا يظهر الّا قميصه المكوي. يسمّيه تريكو لم يقل كنزة صوفية في عُمره، هو مدرّس اللّغة العربية السابق لسنوات عديدة، قبل أن يلتحق بوزارة الخارجية بعد أن ساعده صديق والده في نتائج اختبار دخول بسيط، كلمة كنزة لا تعني له شيئاً، عدا كونها اسم بنت أخته. ثم أنّ الأمر لم يقتصر على كنزة فقط، كلمات كثيرة في حياته كانت غير حيادية، كمغناطيس تجذب المشاكل والتساؤلات، أوّلها اسمه. صحيح أنّه كان مدرّس لغة عربية (رغم أنّه توظّف صدفة، كما توظّف غيره في تلك الفترة رئيساً) الاّ أنّ الأمر لا يحتاج لشخصٍ مُختصٍ في اللّغة ليعرف أن اسم «عومار» ليس اسماً صحيحاً، في الأصل هو تعريبٌ للّفظ الفرنسي لإسم عُمَر: omar/ أومار. وعندما كان هو في تولوز نهاية السبعينيات، خرج فيلم مرزاق علواش الأشهر «عومار قاتلاتو» وكان كلّما قدّم نفسه (بصفته موظفاً جديداً) لأحدٍ في القنصلية، يرُدّ ضاحكاً: قاتلاتو، الكل صار يناديه مُسيو «قاتلاتو»، وحتى أصدقاؤه العرب، الذين كان يضطر أن يشرح لهم معنى عُنوان الفيلم، وأنّ «قاتلاتو» تعني «قَتَلَتْهُ» والهاء تعود على الرجولة في إيحاء الى تصرفات وطريقة عيش أولاد العاصمة في تلك الفترة، حتى هؤلاء كانوا يتهكمون على اسمه بعد أن يشرح لهم. يُفترض بالأسماء أن تكون جِراء صامتة، يودِعُنا الأهل في عهدتها وتظلّ هي صامتة ما دمنا لم نخترها، لكن اسمه كان نباحاً، غير حيادي. لم يغضب يوماً، تعوّد المزاح الثقيل من النّاس منذ سنٍ صغيرة، اسمه الكامل: عومار الزاهي، وهو ما يُحيل الى أحد أشهر مُغنّي الشعبي «أعْمُر الزاهي»، والذي (خلافاً لمئات الألوف من النّاس) لم يكُن السيّد عومار يحبّه، وكان يفضّل الهاشمي قروابي، النُسخة الطاووسية (والأقل موهبة حسب مئات الألوف نفسهم) مِن أعمُر الزاهي الزاهد الكاره للظهور، لكنّه لم يدخل يوماً في نقاش حول هذا الموضوع، يكرُه الخوض في نقاشات حول من هو الأفضل ومن هو الأجدر، مهما كانت صفة هذا الـ «هو». كان يقتبسُ عبارة «الهاشمي في كلامُه قيّاسْ» من أغنية «آش أداني لاش مشيت» للهاشمي قروابي نفسه، عندما يُريد أن يمدحه أمام شخصٍ مقرّب، يقولها وهو يبتسم ثم يسكُت، كأنّه يُثني على إحدى بناته. لو سمّوه الهاشمي، كان ليُحب الإسم. بعد تولوز بقي السيّد عومار مدّة في الجزائر، توقّف النّاس عن مناداته بـ «قاتلاتو». لم يعُد إلى فرنسا إلا سنة 1991، وصل مع عائلته لقضاء عُطلة قصيرة عند صديق له. انتظره سائقٌ في المطار، «السّي عومار؟»، «أي نعم» لم يبدُ السائق سعيداً بالإجابة. ثم لماذا يجب أن يكون سعيداً، قال السيّد عومار في سِرّه. في الطريق لبيت صديقه طلب من السائق أن يتوقف أمام كيوسك ليشتري السجائر، هناك سيفاجأ بعناوين الصُحف، كلّها كَتبت نفس العبارة باللّون الأحمر، كان متفاجئاً ولم يُصدم: *OMAR M’A TUER. ابتسم. لم يكلّف نفسه شراء صحيفة واحدة، لِيفهم الموضوع. المُهم أنّها ماتت.

*جريمة معروفة، وقعت في فرنسا عام 1991، صُنِعَ منها كُتبٌ وأفلام وظلّت غامضة. وُجِدت غزلان مارشال مقتولة في غرفة نومها، وعلى ظهر الباب كُتب بالدم «عومار قتلني»، عومار كان مهاجراً مغربياً مُعدَم الحال يشتغل عندها، يهتّم بأمور البيت الكبير والحديقة.