لم تساعده حواسه كثيراً حين رفع هاتفه الخلوي، إذ ما زال مخدّراً بنوم ما بعد الظهيرة، وقد كان متعباً بالفعل. — نعم. نعم.
— هل تسمعني، يا سيّد هانز؟
— أظنني كذلك.
— نأسف سيّدي، لقد فارقت زوجتك الحياة.
— ماذا؟ هل تمزح معي، أيّها..
مقاطعاً: ونظراً للجائحة، لن تستطيع إلقاء نظرة الوداع على زوجتك، وستتولّى سلطة الكونفدرالية مباشرة دفن الفقيدة مع جميع الموتى. علماً أنّها ستوارى الثرى غداً صباحاً في التابوت رقم 1334 بمقبرة بلدية لوتسرن. أرجو ألا تنسى هذا، يا سيّد هانز.
— ولكن..
كاد يظن ذلك كابوساً، لولا رسالة قصيرة دلفت إلى هاتفه الخلوي، لم يكلف نفسه عناء قراءتها كاملة، فكل ما غرس فيه نظره هو تابوت رقم 1334، فقط وفقط.
قَعَدَ متكوّراً ورأسه بين رجليه، وترك لدموعه العنان بأن تنزّ، وقد غرق في حزن عميق. كما لو كان طفلاً مصدوماً. مرَّت عليه ساعة لم يرَ فيها سوى عتمة صبغت ما حوله. لم يكن يتوقّع أن يهاجمه كابوس الموت في شريكة حياته التي أخلصت له الودّ والحبّ، وساندته في أحلك الظروف.
صحيح أنّه لم يكن مستقيماً كما كانت تتمنّى، لكنّه على كلّ حال كان زوجاً صالحاً ومحبّاً. هكذا كانت تقول عنه. وهذا بالضّبط ما جعلها تتغاضى عن المشاكل التي أوقع فيها نفسه. ومع هذا لم تتركه وحده حين زجّ به في السّجن لمحاولة سرقة بنك فاشلة.
ارتدى ملابسه، ولم يكن حريصاً على أن يبدو أنيقاً كالعادة. كانت الشّوارع الخاوية تتّشح بمعالم الجائحة التي غرست ندبة في كلّ جهة ورصيف. لكنّه لم يبالِ بلعنة هذا الوباء، ولم يكترث بالخوف الذي بذره في كلّ بيت، وهو يفكّر بمغامرة واحدة فقط يقوم بها من أجلها، وليحدث بعدها ما يحدث.

غوستاف كايّبوت ــــ «الرجل في الشُّرْفة»(زيت على قماش، 1880)

قطع ما يقارب أربعة كيلومترات مشياً على قدميه، حتّى انعطف على مبنى من أربعة طوابق. لا يبدو من لونه الباهت إلّا أنّه مسكن لذوي الدّخل المحدود، أو لمتشرّدين ابتسم لهم الحظ، فوجدوا لهم مأوى فيه.
نظر إلى السّلم، وإلى جداره الذي لطّخته الخربشات السّوداء، فاجتاحه غبن، وهو يكاد يصعد عتباته، لكنّه لم يُعِر ذلك اهتماماً، فهنا يقطن أصدقاء السّجن الذين قضى معهم سنوات ثلاث في الزنزانة رقم 77، وهنا سيجد السّاعد الذي يعينه على المغامرة المجنونة التي سيُقدم عليها.
وبصعوبة ارتقى عتبات السّلم، حتّى آخر الدور الثالث، وهو يزفر لهاثاً، ثم طرق بقوّة باب الشّقة 312. وللحق فقد أحدث ضجيجاً في المبنى الذي توارى فيه الجميع هلعاً من الكوفيد 19.
— حسناً، حسناً. لماذا كلّ هذا الإزعاج؟ ردّ أحدهم بنبرة متشنّجة.
بعد هنيهة فتح الباب، أطلّ من شق الباب شاب شبه عار، وهو يرتدي قميصه الأرجواني.
— أنت؟ ما هذه الزيارة المفاجئة؟ ادخل، ادخل؟
كان هانز في حالة مزرية، وعيناه الحمراوان تشيان بكارثة ألمّت به. لذلك وعلى الفور سأله سليم الآريتري الأصل:
— ماذا حدث؟
— إيلينا توفيت، منذ ساعة ونصف تقريباً. أظنّ هذا.
نظر إليه سليم بصمت، ثم اندفع نحوه، ضمّه بين ذراعيه. كان تأثره الشديد واضحاً، فهو يعرف مدى قوة العلاقة التي تربطهما، لكنه بارتباك سأل:
— وماذا ستفعل؟ لن يسمح لك هؤلاء الأوغاد حتّى بنظرة وداع. هذا مؤلم حقّاً.
هزّ هانز رأسه مؤيّداً، وصرخ:
— سأفعل. لن أدعهم يدفنونها كالحيوانات النافقة. سيكون لها قبر محترم كبقية الأموات، أليس للموتى احترام يليق بهم؟ سيكون لإيلينا ضريح قدّيسة.
ردّ سليم باستغراب:
— هل طار عقلك؟ مؤكّد هذا، فأنت تعرّض نفسك للهلاك.
— وهل بقي معنى للحياة بعد إيلينا؟ يمكننا خطف التابوت. أعرف رقمه. هو التابوت رقم 1334، لقد أخبروني بهذا. ستكون جميع التّوابيت بمقبرة لوتسرن، وسَتُوْأَدُ جميع التوابيت في مدافن جماعية في الصّباح.
— كفاك حماقة، هانز.
— لقد قطعت كل هذه المسافة؛ لتكون ساعدي. لا أعرف أحداً يستطيع فعل ذلك غيرك.
— اللّعنة هانز، أيّها المعتوه، أنت تمسكني من اليد التي توجعني، تبّاً لك.
صمت سليم للحظات، ثمّ أردف:
— حسناً، سأستعير سيارة صديقي، وسنرى كيف نفعلها.
في المساء كانت المقبرة موحشة، وغارقة في الصّمت. لا أحد في المكان سوى حارس الموتى الذي يمكث في غرفة الحراسة، ولا يخرج منها إلّا حين تصل سيّارة الموتى، غالباً قبل منتصف اللّيل بساعة أو أقل، وبعد أن يحصي عدد التّوابيت يعود ليستغرق في نومه كالموتى تماماً.
جلس هانز وسليم في السّيارة، يدخّنان لساعات، وهما يراقبان مدخل المقبرة التي بدا مطبقاً عليها الصّمت. لكن ولحسن الحظّ، سمعا بعد العاشرة صوت سيارة تقترب من المقبرة، كانت هي بالضبط سيارة نقل توابيت الموتى.
— كن مستعدّاً، قال سليم، وقد توسّعت عيناه، وبرزت غضون جبهته كرقط سمراء صغيرة.
مضت ساعة ونصف، تمكّن خلالها ثلاثة عمال من تفريغ الشاحنة من التّوابيت، ثمّ انطلقت بسرعة مجنونة. لم يمضِ وقت حتى أطفأ حارس المقبرة مصباح غرفته التي تحاذي مدخل المقبرة، بعد أن أوصد بوابة المقبرة.
— هيّا، ليس لدينا وقت نضيّعه، فالحانوتي بانتظارنا، بعد ثلاث ساعات في مقبرة بريمغارتن.
وبسرعة تسلّقا سور المقبرة.
— احرص على ألّا تُحدِث صوتاً يوقظ هذا الغبي في غرفته، قال سليم بصوت خفيض.
— حسناً، أنا سأبحث عن التابوت من هذه الجهة، وأنت خذ الجهة اليسرى.
— نعم، هانز.
لم تمضِ سوى ساعة أو أقلّ من ذلك، حتّى عثر سليم على التابوت رقم 1334، لكن في ذات الوقت سمعا صوت حارس المقبرة، وهو يصرخ:
— هل يوجد أحد هنا؟
ثمّ أخذ يتمتم لنفسه: لا شيء هنا إلّا الموتى وهذه التّوابيت اللّعينة، ماذا يفعل وغد بتوابيت يعشعش فيها الوباء؟ عليكم اللّعنة، لن أبالي لو التحقتم بهم أيضاً.
ثمّ كرّ عائداً لغرفته. كان هانز وسليم قد اختبآ وراء شجرة الزان النحاسيّة، ريثما يتوارى الحارس عن عيونهما.
وبسرعة حملا التّابوت، وأخرجاه من فوق سور المقبرة، واندفعت بهما سيارة يوكن، وقد بدا هانز أكثر هدوءاً، وهو يغبط نفسه لنجاحه في سرقته الثانية.
— يبدو أن سرقة جثّة أسهل بكثير من سرقة بنك! أليس هذا صحيحاً يا هانز؟
ابتسم هانز دون أن ينبس ببنت شفة.
في السّاعة الثّالثة وأربع وثلاثين دقيقة كان الحانوتي العجوز بانتظار الجثّة المسروقة في مقبرة بريمغارتن، وقد حفر قبراً خاصاً؛ لترقد فيه إيلينا مع الموتى المحترمين.
شعر هانز، وهو يضع إكليلاً من زهرة اللّوتس على القبر بأنّ إيلينا ابتسمت له، وها هو يعدها بزيارة ثانية.
لكنّ هانز لم يعد نهائيّاً، بعد أن تغوّلت الكورونا بغوغائيّة مفرطة.

* المنامة/ البحرين

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا