إذا كانت النصيحة الأولى التي يُسديها جورج سوندرز (1958)، من أجل كتابة جيّدة هي القراءة، فإنه هذه المرّة يقدّم نصيحة مستفيضة لقراءة النتاج القصصي للأدباء الروس، خصوصاً بالنسبة إلى كتّاب القصص القصيرة. بعد عشرات القصص التي نشرها ضمن مجموعات أو في مجلّات (أبرزها «نيويوركر») وجعلته واحداً من أبرز قصّاص أميركا، لا يزال سوندرز يطارد السحر الأدبي الذي انتقل إلينا من روسيا القرن التاسع عشر. سوندرز نفسه هو قاصّ حاذق، يخرج السحر من يوميات أبطاله في وثائق تهكّمية وسوريالية عن أميركا المعاصرة.

معظم أبطال قصصه هم من الناس العاديين، يتكلّمون كثيراً وهم يعيشون يوميّات البلاد وانقساماتها العرقية والطبقية، والأهم حين يخوضون العلاقة الإكراهية مع مؤسساتها التجارية وإعلاناتها. الكاتب الذي منحته روايته الوحيدة «لينكولن في الباردو» جائزة «مان بوكر» (2017)، ينجز هذه المرّة كتاباً نقدياً بعنوان «سباحة في بركة تحت المطر» (صدر هذا الشهر عن Bloomsbury))، يأتي حصيلة عقدين من تدريسه مادّة القصّة الروسية القصيرة في جامعة «سيراكيوز» الأميركية. من بين كلّ النتاج الأدبي الروسي، اختار سوندرز سبع قصص لأربعة من عمالقته في القرن التاسع عشر هم تشيخوف، وغوغول، وتولستوي وتورغينيف. يوضح في مقدّمة مؤلّفه أنه لم يختر هذه الأعمال لأنها الأكثر أهمية في تجارب هؤلاء، بل كونها وثائق عن كيفيّة اشتغال الخيال وتطوّره، ولراهنيّتها في هذه الأوقات العنيفة. فالكتابة في روسيا القرن التاسع عشر، كانت مسكونة بأسئلة أخلاقيّة ووجوديّة تقع في صلب القصص المختارة، منها ما يورده اختصاراً في مقدّمة كتابه «كيف علينا أن نعيش هنا؟ ما الذي جئنا من أجل تحقيقه؟ ماذا الذي يجب أن نقدّره أكثر من سواه؟ ما هي الحقيقة، وكيف يمكننا التعرّف إليها؟». تركّز قراءة سوندرز على هذه المساحة التي تصبح فيها القصص القصيرة، سبيلاً إلى الحياة وكيفية العيش، وسبباً لشحن الفضول والدهشة لمراقبتها. يستسلم لمتعة القراءة هنا، لكنه لا يتخلّى عن عين الكاتب في تشريح هذه القصص تقنياً، لشكلها وحبكاتها وأساليبها. قراءة وتحليل ينطلقان أوّلاً من هاجس فردي بالنسبة إلى صاحب مجموعة «العاشر من كانون الأوّل»، وهي طمأنة نفسه بأن التواصل ما زال ممكناً رغم كلّ شيء.