عن الإسبانيّة: أحمد عبد اللطيف
لا يظهر في الحكايات الشعبية في تشيلي حوريات طيبات أو شريرات، لا غيلان ولا تنانين. فالدور الذي تلعبه الحوريات الطيبات في الحكايات الأوروبية، يتكفّل به في الحكايات التشيلية العجائز أو الحيوانات، وكثيراً ما تقوم به مريم العذراء أو القدّيس يوسف، أو الملاك الحارس للبطل، أو أي شخصية سماوية أخرى. أما الحوريات الشريرات، فدورهن محجوز للساحرات، وهن عادة سيدات عجائز وفظيعات، بينما يقوم العمالقة أو العصابات أو الساحرات بدور الغيلان، كذلك الحيّات أو أي نوع آخر من الحيوانات الخرافية؛ والتنانين يقوم بدورها ثعابين برأس واحد أو بسبعة رؤوس. أما السحرة الذكور، فلا يشغلون حيزاً. هنا نموذجان من هذه الحكايات.
(المترجم)


1. الأب السيّئ
هذه حكاية رجل كان لديه ثلاثة أبناء، بنتان وولد، لكنه كان يُظهر تفضيله لابنته الكبرى، وكان يسميها دائماً ملكة البيت، فلا يجب أن تعمل ولا تفعل شيئاً، لا من أجله ولا من أجل أخويها الأصغر منها.
وذات يوم أحد، ذبح الرجل معزاة، وبعدما علّقها، راح إلى القداس مع ابنيه الصغيرين، تاركاً ابنته الكبرى كحارسة للبيت.
حين عاد من القداس، وجد اللحم وقد أكله الكلاب، فسأل ابنته ماذا حدث، فحكت له أنّ بعض الكلاب قد جاءت وأكلت المعزاة، ولأنه قد منعها من فعل أي شيء، لم تهاجمها وتركتها تأكل اللحم. لقد فعلت ذلك حتى تبرهن لأبيها أنه يجب أن يسمح لها بالقيام بالواجبات المنزلية.
غضب الرجل لما حدث، وشاط أكثر حين قالوا له إن القرية لا مكان بها لشراء اللحم.
حين رأت البنت أباها غاضباً، فكرت:
— ماذا أقدم لأبي من طعام؟
حلّت المعضلة بقطعة لحم من ساقها، وطبخت عليها. حين تذوقها الأب، راقت له، وطلب منها أن تقدم له الطعام نفسه في المساء.
وفي اليوم التالي، ولعدم وجود اللحم بالقرية، قطعت الصبية قطعة أخرى من ساقها الأخرى، وقدمتها لأبيها مطبوخة.
وسأل الرجل الفتاة أين وجدت هذه اللحمة اللذيذة، فأجابته بأنها قطعتها من ساقيها، والآن لم يبق لديها لحم آخر.
حينئذ أخبرها بأنه سيقتل أحد ابنيه الصغيرين حتى يحصل على طعام.

طَوْطَمِيَّاتٌ وتمائم تشيلية تعود لما قبل غزو كولومبوس

فقالت الابنة الكبرى لأخويها، وكانت رقيقة القلب وتحبهما جداً، أن يرحلا، لأن أباهم يريد أن يذبحهما ليأكلهما، وأعطتهما خبزاً محمّصاً للطريق.
ركض الطفلان، وبعد سير طويل قابلا امرأة عجوزاً، فنصحتهما بألّا يشربا ماءً حتى يعبرا ثلاث بحيرات، لأنهما لو شربا من البحيرة الأولى سيتحولان إلى كلبين، ومن الثانية سيتحولان إلى خروفين، ومن الثالثة إلى معزتين.
واصلا سيرهما، ووصلا إلى بحيرة بمياه شفّافة تغوي بالشرب. ومع الحر والتعب، كان الولد يشعر بالظمأ.
— يا أختي، فمي جاف، سأشرب من هذا الماء.
— كيف ستشرب من هذا الماء؟ أجابته البنت، هل تريد أن تتحول إلى كلب؟ هيا نمشي من هنا.
وسحبته من يده، وجرّته وراءها.
بعد قليل، وصلا إلى البحيرة الثانية، وإن كان ماء الأولى شفافاً، فماء الثانية كان مرآة. وكان الولد يبكي.
— يا أختي، أنا لا أحتمل؛ سأموت من الظمأ.
وبجهد عنيف ومُلِّح، بدون أن تستطيع الأخت القدرة عليه، هرب منها، ونزل الماء حتى بطنه، وشرع في الشرب.
وبمجرد أن ابتلّت حنجرته بالماء الأول، تحول إلى خروف.
والحزن أصاب البنت وواصلت طريقها وخلفها الخروف الصغير.
هي أيضاً كانت تشعر بالظمأ الشديد، لكنها لم ترغب في الشرب حتى تعبر الثلاث بحيرات.
وبعدما سارا لعدة ساعات، قابلا سيدة أخرى عجوزاً، فسألت الطفلة إلى أين تذهب. والطفلة، بدموع في عينيها، حكت لها كل ما جرى، وقالت لها إنها لا تعرف إلى أين تذهب.
حينئذ قالت لها العجوز أن يبقيا معها، وإنه لن ينقصهما شيء. وافقت الطفلة، وهناك بقيت مع خروفها، وعملت في مساعدة العجوز الطيبة في أعمال البيت.
ونمت الطفلة في جسدها وجمالها، وكان جمالها كبيراً إلى حد أن ذاعت شهرتها في كل مكان وبلغت آذان الملك الذي أراد أن يقنع نفسه بالواقع.
وذات يوم، خرج الملك بصحبة رجال القصر، وتوجّه إلى بيت السيدة العجوز. في الدهليز المؤدي إلى الشارع، كانت إلينا (وهذا اسم الفتاة) جالسة على مقعد وبجانبها سلة مختاطة، وتخيط بهمة. كانت شاردة جداً في عملها، فلم تشعر بمجيء الملك وحاشيته.
لم يفعل الملك إلا أن رآها، فوقع في غرامها وتاه، وطلب من العجوز أن يتزوجها، فقالت العجوز:
— لو وافقت إلينا، ليس لديّ مانع.
ووافقت إلينا، بشرط أن يوافق الملك على أن تحمل معها الخروف الصغير، وأن يعتنوا به أشد العناية، وقالت للملك إن الخروف كان أخاها، وحكت له كل ما جرى.
ومرت أشهر من السعادة على العريسين، وكانا يتبادلان الحب بقوة، غير أنهم ذات يوم أعلنوا الحرب على الملك، واضطر للخروج على رأس جيشه.
وقبل أن يخرج، أوصى رئيس حرس القصر برعاية إلينا، وكلّفه بألا يسمح لأحد بالدخول إليها أثناء غيابه. وكان الملك يعرف أن لزوجته عدوات كثيرات حاقدات عليها لحظها، كن يكرهنها حد الموت رغم أفعالها الطيبة، وكان يخشى أن تتألم بأي طريقة.
وذات يوم جاءت أربع سيدات أنيقات جداً إلى باب القصر، وطلبن من رئيس الحرس أن يقودهن لمقابلة الملكة لأن لديهن أخباراً شديدة الأهمية عن الملك. لكن رئيس الحرس اعتذر لهن بذريعة أنه غير مسموح لأحد دخول القصر، لكن بما أنها أخبار مهمة للملكة، فلا مانع من أن يتركن لها الرسالة التي يوددن إرسالها. وهن قلن حسناً، وطلبن منه، بما أنه غير مسموح لهن الدخول، أن يترجى الملكة بأسمائهن أن تخرج لهن لدقيقة واحدة لتسمع إليهن، وبهذه الطريقة لن يعصي أحد أوامر الملك.
حمل رئيس الحرس الرسالة للملكة، ولأن إلينا كانت شديدة الطيبة، لم ترغب في كسر خاطر السيدات، فخرجت إلى الدهليز لتستمع إليهن. فقالت النسوة إن ما يوددن حكيه طويل وإنهن يحتجن إلى أن تكون بمفردها؛ ثم لماذا لا تصحبهن إلى الشاطئ وهناك يتحدثن بلا رقيب.
وقبلت الملكة، وخرجن جميعاً ومن ورائهن الخروف الذي لم يكن يترك أخته.
في الطريق بدأن يسردن على إلينا حكاية مشوقة للغاية، وهكذا ابتعدن عن القصر بدون أن تشعر، وخرجن في النهاية من المدينة، سيراً على ضفاف البحر.
وصعدن، وحين غدون في قمة مرتفعة، دفعن الملكة فاختفت عن العيون.
لكن في تلك اللحظة، كان ثمة حوت عند سفح الصخرة، وكان مفتوح الفم يتنفّس الهواء، فوقعت الملكة داخل فمه دون أن يصيبها أي سوء. فابتلع الحوت الملكة وغاب في عمق المحيط.
الخروف وحده استطاع أن يرى ما حدث حين دفعن الملكة، واعتقد أنها غرقت فعاد إلى القصر غارقاً في حزنه.
ورئيس الحرس، حين رأى أن الملكة لم تعد، قلقَ من أن يكون مكروهٌ قد وقع لها، جهّز نفسه وخرج للبحث عنها برفقة مجموعة من الحراس، وحين عاد الملك، ظافراً في الحرب إلى حد أن رفع أعداؤه الراية البيضاء، تقدم قواته ليبلّغ زوجته بنفسه بالخبر السعيد. سأل عنها رئيس الحرس، فلم يجد هذا مفراً من أن يحكي له ما جرى حتى خروج الملكة، فلا شيء آخر يعرفه، وعودة الخروف وحيداً وحزيناً.
حينئذ أمر الملك بإحضار الخروف. وحين وصل، ربت عليه وطلب منه أن يقودهم إلى حيث راحت أخته ويمأمئ.
فقادهم الخروف إلى الصخرة وتوقّف هناك، ومأمأ.
لكن ذلك لم يكن كافياً، إذ لم يكن في محيطهم أي أثر للملكة. حينئذ سحب الملك سيفه ومشّاه على رقبة الحيوان، فأزال جزءاً من فروته، كأنه سيذبحه، فتكلم المسكين من الخوف وقال:
— يا أختي يا إلينا، ها هم سيقتلونني.
وردت عليه إلينا:
— أنا في بطن الحوت.
— كيف يمكن أن أحررك؟
حينئذ أمر الملك بتجفيف البحر، وصيد الحوت، وأمر بفتح بطنه وأخرج الملكة منه، حرة وسليمة، وجميلة كما كانت من قبل.
ولكي تضحك الدنيا أكثر، انفكّ سحر أخي الملكة في اللحظة نفسها، وظهر وقد غدا شاباً جميلاً ومبتهجاً.
وحكت الملكة للملك وأمر الملك في الحال بالبحث عن النسوة الأربع. وحين عثروا عليهن، ربطوا كل واحدة منهن في ذيل بغلة، وضربوا البغلة كي تركض بأقصى سرعة، فتمزّقت النسوة.
وعاش الملك والملكة لسنوات طويلة، في سعادة غامرة، وأنجبا البنات والبنين.

2. هراوات خارقة
من أجل أن نعرف فنحكي، ولكي نحكي فنعرف.
هذه حكاية سيدة عجوز، كانت مشهورة بأنها ساحرة. كانت تعيش في قرية لا أقرباء لها فيها ولا معارف، إلا سيدة ثرثارة لا تعرف الصمت قط، وسيدة أخرى ماكرة وفاتنة.
ذات يوم راحت السيدة الثرثارة إلى بيت الساحرة، وقالت لها:
— يا سيدة، لماذا لا تمنحينني قدرة خارقة لأجلب على الأقل ما يسد رمقي؟ انظري كم أنا فقيرة!
والساحرة ردت عليها:
— لكن يا سيدة، أنتِ لسانك طويل جداً، ولا يحق لي أن أمنحك شيئاً، لأنك تحكين كل شيء.
والثرثارة تكلمت:
— لا يا راعيتي، أعطيني قدرة واحدة فقط، ولن أحكي لأحد.
- حاضر، قالت الساحرة، سأعطيكِ هذا الكيس، وحين تشعرين بالجوع، قولي: «أيها الكيس الخارق، الخارق بأمر الله، املأ لي هذه المنضدة بأشهى المأكولات.
وهكذا فعلت حين عادت إلى البيت، وامتلأت أطباقها بأفضل الطعام.
وجاء يوم الأحد، وحين كانت تتجهّز للذهاب إلى القداس، فكرتْ:
— كيف أترك كيسي هنا؟ أي أحد يمر من الشارع يمكن أن يدخل ويسرقه.
حينئذ خطر ببالها أن تسير به حتى سيدة أخرى تعيش بالقرب منها، وأخبرتها بالتميمة التي علّمتها لها الساحرة.
حين انصرفت الثرثارة إلى القداس، ألقت من الكيس التميمة، وقبل أن تنهيها كانت المائدة قد امتلأت بالطعام.
هذه السيدة، كما قلنا، كانت ماكرة، هكذا فكرتْ:
— سأكون حمقاء لو سلمت للثرثارة هذا الكيس الثري، سأبدله بآخر يشبهه.
وفعلت ما فكرت.
بانتهاء القداس، راحت السيدة الثرثارة لتسترد كيسها، والسيدة الماكرة أعطتها كيساً شبيهاً بكيسها، فحملته الثرثارة بهدوء وانصرفت.
عادت الثرثارة إلى بيتها بجوع كبير، ووضعت كيسها على المائدة وتلت التميمة:
— أيها الكيس الخارق بأمر الرب، املأ هذه المائدة بأشهى المأكولات.
لكن المائدة بقيت خالية كما كانت. كرّرت التميمة، وظلت المائدة خالية. حينئذ فهمت أنها بدّلت الكيس، ويائسةً، راحت إلى السيدة الساحرة، وحكت لها ما جرى.
غضبت الساحرة غضباً شديداً، ولم ترغب في أن تمنحها كيساً آخر خارقاً، لكنها ترجّتها فقالت لها في النهاية:
— لكن لا تفعلي ما فعلته مع الكيس! فلا تحكي لأحد. سأعطيك هذه الهراوات، وستصنعين أثاثاً لتبيعيه، وبثمنه كلي والبسي. قولي فقط: «اعملي يا هراوات»، وستعمل.
وهكذا فعلت، وكانت الهراوات تصنع الأثاث وكانت هذه متعة خالصة، ولم تكن تستريح إلا بحلول الليل.
وجاء يوم الأحد، وحين كانت تستعد للذهاب إلى القداس، فكرت:
— من يمكن أن أأْتمنه على هراواتي؟ إن تركتها هنا، أي أحد يمر بالشارع يمكن أن يراها، ولو أعجبته سيسرقها. لكن لو تركتها عند السيدة الماكرة ستبدلها كما بدلت الكيس. لكن سأتركها لديها بدون أن أخبرها بالتميمة.
وراحت لتودعها إياها، وكلفتها حفظها بينما تحضر القداس.
لكن السيدة الماكرة، وكانت شديدة المكر، كانت لاحظت أن السيدة الأخرى تصنع الأثاث وتبيعه من لا شيء، بعد أن كانت تموت جوعاً، فراحت لتتنصت عليها وذات صباح سمعتها تلقي تميمتها على الهراوات: «يا هراوات، اعملي»، وعبر ثقب رأت كيف كانت الهراوات تعمل: تقطع الخشب الذي تحضره هراوات أخرى، وتنشره، وتصمّمه، وتصنع منه أثاثاً. ولأن الخشبات كانت كثيرة، كانت تصنع أطقماً من الأثاث.
حين خمّنت السيدة الماكرة أن الثرثارة قد وصلت إلى الكنيسة، قالت للهراوات: «يا هراوات، هيا اعملي»، لكنها كانت تخشى ألا تنتهي الهراوات من صنع الأثاث قبل عودة السيدة الثرثارة، لذلك كانت تكرر كل ثانية: «يا هراوات، هيا اعملي»، وكانت الهراوات ترتبك فتعمل بسرعة، حتى ملأت البيت بكل نوع من الأثاث، ولأنها لم تجد مكاناً لمواصلة عملها، بدأت تعمل فوق السيدة العجوز نفسها. إحدى الهراوات نشرت شعرها، أخرى نشرت أنفها، وثالثة نشرت ضلوعها، ورابعة سمّرت يديها، وخامسة ضربتها، وسادسة ضربتها بالمنشار، في النهاية، كل هراوة قامت بعملها في العجوز كأن السيدة خشبة.
حين عادت السيدة الثرثارة من القداس، وراحت لتتسلم هراواتها، كانت الهراوات لا تزال تعمل فوق السيدة الماكرة، وقد حوّلها إلى تمثال لـ سان لثارو. كانت المسكينة تصرخ بكل فمها، وكان فمها كبيراً، وكانت تقول للهراوات: «يا هراوات، لا تعملي»، لكن الهراوات كانت تعمل بدون توقف.
كانت الثرثارة تشعر بالأسى، ولأنها لم تكن تعرف طريقة لإيقاف الهراوات عن العمل، راحت تركض إلى الساحرة لتطلب مساعدتها.
لم ترغب الساحرة بأن تصحبها في البداية، غير أنها وافقت في النهاية وأمرت الهراوات:
— توقفي يا هراوات، وعودي إلى صاحبتك.
وفي الحال توقفت الهراوات عن العمل، وتجمّعت ودخلت تحت ذراعَي الساحرة التي انصرفت في غضب.
وماتت السيدة الماكرة من الضربات والتقطيع، لكنها في النهاية شُفيت، وبقيت عليها آثار الضرب. وسواء السيدة الأولى أو الثانية، لم تستطيعا العيش إلا من بيع الأثاثات التي صنعتها الهراوات.

* حكايتان مجتزَأتان من كتاب رامون لابال: «حكايات وأساطير لاتينية» (ترجمة: أحمد عبد اللطيف) الصادر حديثاً عن دار «ذات سلاسل»، الكويت.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا