انتهينا في مادة الأسبوع الماضي إلى أن الجمل والحية رمزان لوجهي الكون القرينين والمتعاكسين. لكننا قلنا إنّ الحية مثيل الحمار ميثولوجياً. ولدينا أدلة على أن الحية عديل للحمار ميثولوجياً. فهناك نحت حثي يمثل كائناً نصفه حيوان ذو حافر، ونصفه الآخر حية. وهو ما يؤكد ارتباط ذوات الحافر (حمار، بغل، فرس) بالحية ميثولوجياً. وهو ما يعني أن هذا الحيوانات تمثل إلهاً، أو آلهة، من الطابع نفس.بذا يمكن القول أيضاً بأن وجهي الكون يتمثلان جملاً وحماراً. من أجل هذا، انقسمت النبوات في منطقتنا إلى طرازين: نبوة ركاب حمير ونبوة ركاب جمال. جاء في سفر أشعيا في الكتاب المقدس: «فرأى ركاباً أزواج فرسان. ركاب حمير. ركاب جمال» (أشعيا 21: 6-7). والجميع يعرف، بما في ذلك المصادر العربية القديمة، أن هذه الآيات تتعلق بالنبوات. أما نبوة يسوع المسيح فمرتبطة بالحمار، لا شك. فقد دخل القدس على حمار تحقيقاً لنبوءة النبي زكريا الشهيرة: «لا تخافي يا ابنة صهيون، فإن ملكك قادم إليك راكباً على جحش ابن أتان» (زكريا: 9:9). لذا يقول إنجيل لوقا «وأتيا به [بالجحش] إلى يسُوع، وطرحا ثيابهُما على الجحش، وأركبا يسُوع» (لوقا 19: 35). أما في إنجيل يوحنا، فقد جاء: «ووجد يسوع جحشاً فجلس عليه كما هو مكتوب» (يوحنا 12:14).
وتعتقد المصادر العربية أنّ الحديث عن ركاب الجمال عند أشعيا إشارة مباشرة إلى النبي محمد ونبوته. يقول ابن الجوزي عن أشعيا نقلاً عن ابن إسحق «هو الذي قال... أبشري أوري شلم، يأتيك الآن راكب الحمار، يعني عيسى، ويأتيك بعده راكب البعير، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم» (المنتظم، ابن الجوزي).


وهناك شبه إجماع على هذا في المصادر العربية. لكن هذا غير صحيح مطلقاً، إذ لا يمكن التوصل إلى طبيعة نبوة النبي محمد من خلال النظر إلى مراكبه في الحياة الواقعية. وفي هذه الحياة كان يركب الجمل والبرذون والحمار. ذلك أن كلام أشعيا لا يجري على المستوى الواقعي، بل على المستوى الرمزي الديني. بذا يجب البحث عن رحلة رمزية دينية لتحديد طابع نبوة أي نبي. فقد رحل يسوع المسيح إلى القدس على ظهر حمار، لأن طراز نبوته يقتضي ذلك، وليس لأنه صادف، أو أن تلاميذه صادفوا، حماراً فأتوه به. يدل على هذا ما جاء في سفر متى:
«ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون، حينئذ أرسل يسوع تلميذين قائلاً لهما: «اذهبا إلى القرية التي أمامكما فللوقت تجدان أتانا مربوطة وجحشاً معها فحلاهما وأتياني بهما. وإن قال لكما أحد شيئاً فقولا: الرب محتاج إليهما. فللوقت يرسلهما» (متى 21 : 1-2). إذن، فالجحش كان موجوداً في مكان معروف للمسيح في القرية، ولم يكن هناك مصادفة. وهو يطلبه من تلاميذه لأن الرحلة إلى القدس يجب أن تتم على ظهره. فالرب يحتاج إلى الجحش لا غيره.
بالتالي، فربط نبوة النبي محمد بالجمل لأنه كان في الحياة الواقعية يركب جملاً أو ناقة، أو لأن عرب الجزيرة العربية مرتبطون بالجمل، ليس مدخلاً صحيحاً لفهم طابع نبوته. فالذي يحدد طابع النبوة هو نوع الرحلة. فرحلة المسيح إلى القدس كانت رحلة دينية، رحلة ملك إلى مملكته الدينية. بذا فالجحش- الحمار الذي أخذه إلى هناك يجسد طابع نبوته. من أجل ذلك يجب عدم البحث عن الحيوان الذي يرمز لنبوة النبوي محمد من خلال رحلة تجارية مثلاً، أو من خلال رحلة هجرته هارباً إلى يثرب، بل من خلال رحلة دينية مؤكدة.
أما الرحلة الدينية المركزية في سيرة النبي محمد فهي رحلة الإسراء والمعراج. بالتالي، فالدابة التي ركبها النبي في هذه الرحلة هي التي تحدد إن كانت نبوته نبوة راكب حمار أو نبوة راكب جمل. والحال، أن النبي أسرى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى على ظهر حيوان يدعى «البراق». وما زلنا إلى اليوم نسمّي حائطاً من حوائط المسجد الأقصى باسم هذا المركوب (حائط الراق). فهناك في هذا الحائط كان مربط براق النبي. بذا فنبوته مرتبطة بالبراق لا بالجمل.
وما هو البراق حقاً؟ إنه حيوان بين والبغل والحمار: «دابة ركبها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليلة المعراجِ، وكانت دون البغلِ وفوق الحمارِ» (القاموس المحيط). يضيف ابن عربي: «وإنما جاءه جبريل عليه السلام بدابة دون البغل وفوق الحمار تسمى البراق» (ابن عربي، الفتوحات المكية). وكلمة «دون» هنا لا تعني الحجم فقط، بل تعني أن البراق مركب من حمار وبغل. لهذا اعتبره ابن عربي دابة برزخية: «والبراق دابة برزخية فإنه دون البغل الذي تولد من جنسين مختلفين وفوق الحمار الذي تولد من جنس واحد، فجمع البراق بين من ظهر من جنسين مختلفين وبين من ظهر من جنس واحد لحكمة علمها أهل الله» (ابن عربي، الفتوحات المكية).
والحق أنّ هناك حديثاً نبوياً مروياً عن ابن عباس يؤيد أن البراق حيوان فوق الحمار ودون البغل. يتحدث النبي في هذا الحديث عن مراكب الأنبياء، مركزاً على مركبه هو: «أما أنا فعلى البراق، وجهها كوجه الإنسان، وخدها كخدّ الفرس، وعرفها من لؤلؤ ممشوط، وأذناها زبرجدتان خضراوان، وعيناها مثل كوكب الزهرة تتقدان مثل النجمين المضيئين، لها شعاع مثل شعاع الشمس، بلقاء محجّلة تضيء مرة وتنمي أخرى، ينحدر من نحرها مثل الجمان، مضطربة في الحلق أذناها، ذنبها مثل ذنب البقرة، طويلة اليدين والرجلين، وأظلاف البقر من زبرجد أخضر، تجدّ في مسيرها تمرّ كالرّيح وهو مثل السّحابة، لها نفس كنفس الآدميين، تسمع الكلام وتفهمه، وهي فوق الحمار، ودون البغل» (ابن منظور، تاريخ دمشق).
يمكن القول بأنه ليس للجمل علاقة دينية بنبوة النبي محمد ولا بالإسلام كدين


وهكذا فالبراق حيوان بين الحمار والبغل، الذي هو نصف حمار، أي إننا في الواقع مع حمار ما. وكل هذا يشير بوضوح إلى إلى أن نبوة محمد هي من طراز نبوة المسيح. لقد دخل الاثنان القدس على ظهر دابتين متشابهتين: الحمار والبراق.
انطلاقاً من هذا، يمكن القول بأنه ليس للجمل علاقة دينية بنبوة النبي محمد ولا بالإسلام كدين. يؤيد هذا بقوة أنّ جدلاً دار بين المسلمين واليهود في يثرب بعد الهجرة حول أكل الرسول للحم الجمل؛ إذ قال اليهود للرسول: «كيف تقول إن ملاكك جبريل، وجبريل يحرم أكل الجمل؟» وهو سؤال كاشف. فلو كان الجمل هو الحيوان الرمزي للإسلام، لكان من المفروض تحريم أكل لحمه على المسلمين. وقد ردّ الرسول، أو المسلمون، على اليهود بالقول إن جبريل لم يحرم لحم الجمل، بل إسحق. وهذا هو الصحيح. ملة يعقوب، أي اليهودية الأصلية، هي التي تحرم أكل الجمل لا ملة جبريل. كما أن جبريل ليس ملاك الملة اليهودية أصلاً. ملاك ملة اليهود هو ميكائيل، وهو ما أكده الحوار حول لحم الجمل في يثرب؛ إذ أعلن يهود يثرب أن ملاكهم هو ميكائيل المسالم لا جبريل الحربي. الملل الإبراهيمية، مثل المسيحية والإسلام، التي ملاكها جبريل، هي التي حيوانها الرمزي هو الحمار. من أجل هذا، فالإسلام يحرم أكل لحم الحمار. وفي الحديث النبوي: «ليس في الْجَبْهَة ولا في الكُسْعَة ولا في النُّخَّةِ صدقة». والكسعة هو الحمار. كما أن الحمار لا يزكّى ولا يذكّى في الإسلام. أي ليس فيه زكاة، ولا ينفع كأضحية. ليس لأنه نجس، بل لأنه في الأصل مقدس. لكن تحريم أكله جعله لاحقاً يبدو كما لو أنه ناتج عن نجاسته.
اليهودية الأصلية، التي لم تختلط بالإبراهيمية، إذن هي المرتبطة بالجمل لا الإسلام. ولهذا اقترحت أن اسم النبي داود (دود من دون تشكيل) على علاقة بالجمل. فقطيع الجمال الصغير في العربية يدعى ذود: «الذَّوْدُ: للقطيع من الإِبل الثلاث إِلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إِلى العشر؛ قال أَبو منصور: ونحو ذلك حفظته عن العرب، وقيل: من ثلاث إِلى خمس عشرة، وقيل: إِلى عشرين وفُوَيقَ ذلك، وقيل: ما بين الثلاث إِلى الثلاثين» (لسان العرب). والصلة اللفظية بين «دود» و«ذود» لا شك فيها. بالتالي، يمكن لي أن أفترض أن نبوة داود هي نبوة ركاب الجمال. بل يمكن لي أن أفترض أن هذا النبي جمل، كما أفترض أن نجمته (نجمة داود) هي نجمة سهيل اليماني، الذي يدعى بـ«الفحل»، أي الجمل الذكر. وهو ما يعني أن داود التوراة هو سهيل اليماني في نهاية المطاف.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا