في تقديمه لكتاب «انتعاشة اللغة» (منشورات المتوسط) للمفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، يرفع الكاتب المعروف عبد الفتاح كيليطو من مقام الكتاب وصاحبه، إلى درجة أنه صرّح بأن بنعبد العالي غيّر نظرته إلى موضوع الترجمة في مؤلفة الجديد. وحين يصدر مثل هذا الاعتراف من أحد أقطاب النقد والثقافة الأدبية في عالمنا اليوم، فهذا يدعو إلى الانتباه، ببالغ التقدير، لمشروع عبد السلام بنعبد العالي الفكري.يعتبر كيليطو أنّ دراسة بنعبد العالي «الجادّة والمبدِعة» هي أوَّل دراسة فلسفية أُنجِزَت عن الترجمة في الثقافة العربية المعاصرة، ويضفي على المفكر المغربي صفة الفرادة والجنوح إلى البحث العميق والهادئ الذي ينأى عن الخطاب الجمعي، ويفضل الصوت الخفيض في التفكير، بعيداً عن ثقافة الصراخ والشعار: «من الكُتَّاب مَنْ يُشعِرُكَ منذ كلماته الأولى أنه يخاطب جماعة، ويتكلم باسمها. ليست هذه حال عبد السلام بنعبد العالي الذي يتحدث إليك بصوت ذي نبرة خاصة، وطابع فريد، ويجعلك تتخيّل أنه يخاطبك شخصياً، ويكتب من أجلك. وفي ثنايا أسلوبه الهادئ الرّصين، تحسُّ سخرية مكتومة ومعاناة خفية مستترة، معاناة الفيلسوف الذي يخالف الأفكار الجاهزة، ويطرق المواضيع الأساسية».


في فصل «الكتابة والترجمة»، ينطلق عبد السلام بنعبد العالي من فكرة لكيليطو نفسه، تدعو إلى الكثير من التأمل، مفادها أن الكاتب لا يمكن أن يكتب بلغة واحدة ما دام يعرف أكثر من تلك اللغة، فثمة أشياء تتسرب من اللغة الأخرى، وإن لم يكتب بها. ويمكن الوقوف عند نماذج من الكتّاب المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية فقط. إن الكثير من خصائص لغتهم العربية تنفذ إلى داخل كتاباتهم بوعي أو بغير وعي. وحتى الذين يكتبون بالعربية أدباً حديثاً. ولا يتوقف كيليطو عند التعابير اللغوية الأجنبية التي تتسرب إلى نصوص الكتّاب العرب المعاصرين، بل يرى أن «نماذجهم الأدبية هي نماذج أجنبية في جزء منها».
ويدعم بنعبد العالي فكرة كيليطو بفكرة موازية للسوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي الذي كان يرى أن كل لغة هي لغة أجنبية عن نفسها لأنّ «الأدب ينغرس في شجرة أنساب نصية». إن ما يكتبه كاتب اليوم هو نتاج تقاطع ثقافته مع ثقافات اللغات الأخرى، وبالتالي فثمة تلوينات لغوية يوظفها هي في الأصل قادمة من أكثر من لغة، وإن اطّلع عليها بلغة أجنبية واحدة، أو بلغته الأصلية. ونقصد هنا بالأساس النصوص التي عبرت بين لغات عديدة. فالترجمة جسر كما هو مشاع، لذلك اختار بنعبد العالي أن يضع لكتابه مدخلاً أدبياً للفيلسوف الفرنسي ميشال سير: «على جسر كيهل، نرقص في الوقت ذاته في ألمانيا وفي فرنسا، نرقص، لا في فرنسا، ولا في ألمانيا. ليس في واحدة، ولا في الأخرى، فيهما معاً». الرقص على الجسر هو بمعنى آخر متعة الترجمة، تلك المتعة التي قد تفوق أحياناً متعة الكتابة باللغة الأصلية ومتعة القراءة باللغة المترجَم إليها.
إضافة إلى المتعة، ثمة امتيازات ينبغي أن تتوافر في المترجم، وربما هذا ما جعل إميل سيوران يصرح مرةً أنه التقى بمترجمين أذكى من المؤلفين الذين ترجموا لهم، مؤكداً أنّ الإنسان يحتاج إلى العقل أثناء الترجمة أكثر من احتياجه له خلال الإبداع.
ما يقصده بنعبد العالي بانتعاشة اللغة، هو ما يقع للكثير من الآداب التي قد تذبل في موطنها الأصلي، لكن تعود إليها الحياة من جديد في بلد آخر، حين تنتقل عبر الترجمة إلى لغته، وتنفتح بالتالي على ثقافات أخرى وتفاعلات قرائية مختلفة في الغالب عن تلك التي حدثت في البلد الأصلي للكتابة. فالترجمة، حسب بنيامين، هي ما يضمن للنص الديمومة والبقاء.
وبما أن الترجمة جسر، فقد ارتأى المؤلف أن يتوقف عند مفهوم الجسر، واختار بطبيعة الحال المنظار الفلسفي، فأورد تعريفات لبعض الفلاسفة وتوسّع في مناقشتها. غير أن هذا الجسر بقدر ما يسعى إلى تقريب المسافة بين لغتين، يوطّد في الآن ذاته حقيقة الاختلاف. فالنص الذي وصل إليه المترجم ليس هو النص الذي أراد الكاتب كتابته، لو أنه كان يعرف لغة المترجم. هذا ما يؤكده بنعبد العالي وهو يرى في الترجمة امتحاناً مستمراً للمترجم. والحقيقة أن التحدّي الذي يلازم المترجم على الدوام هو تقليص حجم الاختلاف بين النص وترجمته والحفاظ على الكثير من مائه الذي يضيع قسط منه بالضرورة وهو ينتقل بين كفوف المترجمين.
يتساءل المفكر المغربي عمّا إذا كان التعدد اللغوي واختلاف الألسن رحمة أم عقاباً. ولا يهرع إلى الإجابة، إنما يتركها للقارئ وينير طريقه نحوها بأفكار متداخلة ومتنافرة لجيل دولوز وهومبولت وشيشرون وأمبرتو إيكو وحنّا آرندت وهايدغر وغيرهم. وإن ترك الإجابة عن سؤال الاختلاف اللغوي معلّقة، فهو في المقابل يؤكد على أن مهمّة الترجمة هي تدبير هذا الاختلاف. يطرح بنعبد العالي إشكالية في غاية الأهمية تتجلى في تساؤله عن سعي المترجم إلى تقريب النص من اللغة التي يترجم إليها، بدل تقريب هذه اللغة إلى اللغة الأصل. ويستند في ذلك إلى رأي استقاه موريس بلانشو من أحد المنظرين الألمان يستغرب فيه حرص المترجمين الألمان على «تجميد» حال لغتهم، بدل المساهمة في انتعاشتها عبر تلك التفاعلات المتأتية إثر اللقاء بلغة الضفة الأخرى: «إن أحسن ترجماتنا الألمانية تنطلق من مبدأ خاطئ، وهي تزعم إضفاء الطابع الألماني على السَّنسكريتيَّة والإغريقية والإنكليزية، بدل العكس، أي إعطاء الألمانية طابعاً سنسكريتياً وإغريقياً وإنكليزياً». وعليه فالترجمة بقدر ما هي إحياءٌ لأدبِ اللغة المصدر، هي في الآن ذاته تجديد للّغة الهدف.
يطرح بنعبد العالي مسألة بالغة الأهمية تخص ترجمة الكتب العربية إلى لغات أجنبية. ويورد حدثاً فيه الكثير من الطرافة السوداء. فقد عبّر مرةً المترجم الألماني هارتموت فندريش لصحيفة عربية عن تأسفه لكونه لم يتلقّ طوال مسيرته الثقافية أي اتصال من العالم العربي لتقديم كلمة شكر له لأنه ترجم الكثير من الأعمال العربية إلى الألمانية. وحين سئل عن الأطراف التي كان ينتظر أن تصله منها كلمة شكر، أجاب بأنه كان ينتظر ذلك من السفراء العرب. يرى المفكر المغربي أن هذا الموقف يتسم بنظرة استعلائية، لأن المستعرب الألماني يعتقد بأنه يقدّم معروفاً أو مساعدة إنسانية للعالم العربي لأنه ينقل بعضاً من آدابه إلى لغة دولة عظمى هي ألمانيا. في المقابل، يستحضر نموذج يوهان غوته الذي لم يكن يرى في ترجمة النصوص الأجنبية إلى الألمانية إنقاذاً لتلك النصوص، بل تطعيماً للغة الألمانية نفسها وثقافتها.
يتوقف بنعبد العالي عند الحالة التي تنتقل فيها الترجمة إلى مستوى الإبداع، ممثلاً بنموذج فيتزجيرالد الذي نقل رباعيات الخيَّام إلى الإنكليزية، ومستحضراً إشادة بورخيس في هذا الصدد، حين اعتبر أن ترجمة فيتزجيرالد للخيام أنتجت شاعراً ثالثاً مذهلاً لا يشبههما بالضرورة. ينبهنا الكاتب أيضاً إلى حالة الكتّاب الذين يكتبون وعيونهم على الترجمة إلى لغة الآخر باعتبار أنها اعتراف، مفككاً علاقة الكاتب بمترجمه.
اعتبر بورخيس أنّ ترجمة فيتزجيرالد للخيّام أنتجت شاعراً ثالثاً مذهلاً لا يشبههما بالضرورة


يعتبر بنعبد العالي أن الترجمة قضية فلسفية في الأساس، ذلك أنّ تعدد اللغات بحدّ ذاته إشكال فلسفي. ويتوقف عند صفة الخيانة التي صارت لصيقة بالترجمة، متعقباً منابع هذه الصفة التي يرى فيها فضيلةً، على عكس ما يوحي به التأويل الأخلاقي لها. فإذا كانت الخيانة زيغاً عن طريق الصواب، فالكتابة برمتها قد تكون خروجاً عن هذه الطريق. يؤكد رولان بارت أن الكتابة خيانة للغة. ويعمّق بنعبد العالي الإشكال حين يفتح موضوع «الخيانة المضاعفة»، ويقصد بها ترجمة النصوص عن ترجمات أخرى، إذ يصل النص إلى قارئه متنقلاً بين أكثر من لغتين. ويمثل بكتب الفلسفة الألمانية التي وصلت إلى العالم العربي في معظمها عبر لغات وسيطة. ويختار الكاتب لهذه الترجمات اسماً طريفاً: «الترجمات الحفيدة».
يشير بنعبد العالي إلى مفارقة تنجم عن توجّه الكاتب العربي، وهو يكتب بلغة أجنبية، إلى القارئ العربي بدرجة أولى. فرّبما أحسن تقدير للنص العربي هو أن يصل إلى القارئ العربي مُترجَماً من لغة أخرى. في المقابل، يتساءل إن كان الأصل يُغني عن الترجمات، متوقفاً عند ظاهرة المنشورات المزدوجة اللغة، التي يرى أنها موجهة في الأساس إلى قارئ من نوع خاص: «قارئ غير مُولَع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يُولِّد نصّاً ثالثاً بعقد قران بين النَّصّيْن واللّغتيْن».
يتوقف المفكر المغربي عند الحالة التي تتفوق فيها الترجمة على الأصل، مشيراً إلى نماذج الروايات العربية التي صارت في لغات أجنبية أفضل من أصولها حين تخفّفت من الأخطاء والركاكة، وعند نماذج من الكتب الفلسفية الألمانية التي صارت أكثر وضوحاً في ترجمتها إلى الفرنسية.
يناقش الكتاب إشكالات الترجمة، ويحسّ القارئ أن عبد السلام بنعبد العالي قد قال كلّ شيء تقريباً عن هذا الموضوع الشائك والمتشابك في 272 صفحة. كما يكتشف من يقرأ الرجل لأول مرة أنه ذو معرفة هائلة بالآداب العالمية، هو القادم من حقل الفكر والفلسفة. ويبدو الملمح الأدبي حاضراً بشكل لافت في طريقة كتابة بنعبد العالي، ثم إنه يملك خاصية ندر أن نجدها في بناء كتب الفلسفة والفكر، وهي التشويق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا