«قومي، يا مريم!»
ينادي أبو سعيد، الثمانينيّ، زوجته، وقد تمدّدت على «الصوفا» بلا غطاء. الطقس شديد البرودة. والشمس تنزلق إلى مغيبها، ولا تزال تتحايل على الغيوم الباردة، تبرقع النافذة بالنور والظلال. تضطجع مريم قبالته، منذ بعض الوقت. لم يغفُ لها جفنٌ. يعرف. هي مغمضة العينين، لكنّ بؤبؤيهما لم يستكينا. المدفأة في وسط الغرفة، امتدّ تحتها بساط قديم، لا يكاد يغطّي بلاط الغرفة الوحيدة. «لو أنّها تمطر!» يقول أبو سعيد مخاطباً زوجته. تفتح عينيها، على مهلٍ، كأنّما تغالب النعاس. تنظر نحوه، يناديها رافعاً صوته:«قومي، يا مريم!» لكنّها تظلّ على صمتها، تنظر في نقطة محدّدة؛ في الدنتيلّا المهترئة الفالتة من شرشف السرير. من الذي يدري بم تفكّر؟! لطالما يتساءل زوجها إن كانت المسكينة تفكّر، أصلاً!«لو أنّها تمطر!» يقول لها. ثمّ يردف وهو يمدّ عكّازه إلى المدفأة، يضربها: «لانكسرت حدّة هذا البرد اللعين». يضرب. ويقول: «والله، وهي مطفأة تزيد من قسوة البرد!» يفكّر بحفيده وسام. «أين هو، الآن؟ تأخّر! لو أنّه هنا لقلب الأرض ليجدَ ولو ليتراً واحداً من المازوت! يا ليته الآن هنا، معنا، حتّى لو لم يفعل شيئاً! وهذه الحكومة المجرمة، ابنة الكلب! أولاد الحراميّة، لم يتركوا شيئاً إلّا وسرقوه!» يصرخ بسخط وقهرٍ، وهو يضرب المدفأة. ثمّ يهدأ. بضربها سيطيّرها من أرضها، وستملأ الدنيا سخاماً أسود! نحّى العكّاز جانباً، مسح دمعتين، وهو يقول: «قومي، يا مريم!» يخرج صوته متهدّجاً، يرتعش باللّامعنى، باللّاهدف.

أحمد أبو زينة ــــ ألوان تنتصر للحياة (مواد مختلِفة على قماش، 2018).

تعب، ولم تقم مريم. «مريم ستمرضين! تنامين بلا غطاء! قومي!» ثمّ ينظر في ساعته، ينتظر عودة الكهرباء. انقطعت منذ الصباح. عسى أن تأتي لأشغل المدفأة الكهربائية. رغم صغرها، تدفئ الغرفة كلّها، فيما لو أُغلق الباب الوحيد الذي يفضي إلى المطبخ الصغير والحمّام. هو ليس حمّاماً بالضبط، إنّما مرحاض صغير، وُضع فيه خلّاط دوش للاستحمام. هذا ما أمكنهم استئجاره! الغرفة صغيرة، تقشّر دهان جدرانها في بعض المطارح. تنثّ رائحة خزن قديم ورطوبة. لا تدخلها الشمس إلّا في أوقات قليلة، بعد الظهر، عبر نافذتها الوحيدة، المطلّة على الحارة. لا تكاد الغرفة تتسع لسرير وصوفا، ينام عليها وسام، وثلاث كراسٍ بلاستيكيّة وُضع بعضها فوق بعض، وأخرى قرب السرير. طاولة صغيرة، ثمّ خزانة قديمة تتسع لبعض الملابس وأوراق تخصّه، وأخرى تخصّ وسام. كان بيته في القرية رحباً بغرفه العديدة المشمسة، بحمّاميه، بشرفاته، وبستانه الكبير!
تنهمر دموعه وهو ينظر إلى صورة العائلة الصغيرة المعلّقة، حملها وسام من البيت، قبل خروجهم الرهيب. في الصورة، هو وزوجته وابنه سعيد طفلاً. لم ينجبا غيره. حكمة الله، وما قدّر! عبارة كان يردّدها لسائليه وبعض المستنكرين عدم زواجه من امرأة ثانية للإنجاب، على مدى أربعين عاماً! وحكمة الله، اقتضت، أيضاً، بأن يسترجع أمانته! مات سعيد في حادث سير، في الأربعين من عمره، مخلّفاً لهما ابنه وسام. تركته أمّه، تزوّجت وسافرت إلى بلاد الغربة. لعنها الله، في الدنيا والآخرة! كما يردّد. ولن يغفر لها. فاقت دناءتها حنانها لابنها! لا، لن يغفر لها، أبداً!
كان أهل قريته جميعهم يعرفون قصّته، ويتعاطفون معه. كان ذلك قبل الحرب والنزوح. في القرية، لا تغيب الرحمة من صدور الناس. أمّا هنا في هذه المدينة، فالرحمة قلّما تحضر في النفوس، وكلّ يقول: «اللهمّ أسألك نفسي!» لطالما يكرّر حديثه هذا لنفسه، لمريم، ولزائريه القليلين. ويضيف: «لو أن قلوبهم تعرف الرحمة، لرحموا أولاد بلدهم النازحين من غلاء الإيجار الحارق. تفووووه عليهم!»
ولكن، وللحقّ، فليكثّر الله خير جارتيهما، الآنسة نجاة التي تطلّ عليهما بحنان الابنة، والأخرى سامية، فهذه رغم أنّها تعتني بأمّها العاجزة، لا تنساهما. حتّى إنّهما أعطياها نسخة من مفتاح البيت، فلا أحد يدري ما قد يحدث، في غياب وسام. يرضيه أن يذكر ذلك لبعض زائريه، كي لا يبدو مجحفاً بحقّ الحارة، وناكراً للجميل.
يتململ في سريره يحاول النهوض! منذ فترة، بدأ العجز يضعفه! ساقاه لا تكادان تحملانه!
«أين أنت، يا وسام؟ تأخّرت يا جدّو. خيراً، إن شاء الله!»
«مريم! يصعب عليّ النهوض، بالله عليك قومي!» يقول لها بتوسّل. ويتابع: «غابت الشمس، عليك تناول الدواء، هو هنا، تعالي!» يمسك بكيس الأدوية، يريها إيّاه. صامتة، تحدّق في عينيه. عيناها لا تقولان شيئاً البتّة! فراغ يحدّق في الفراغ! «هنيئاً لك غياب عقلك! وآخ، ما أنحسني!» يخرج صوته حادّاً بخفوت يائسٍ كأنّما يخرج من قعر بئر، صوت غريق يعرف أن لا أحد يمرّ بهذه البئر! «أي والله أنا منحوس! أين هو؟ أين ضاع يا تُرى؟» منذ الصباح، كان يبحث عن فكّه الاصطناعي، يتذكّر أنّه ليلة أمس، نزعه من فمه، قبل أن ينام، وعلى حدّ علمه وضعه على الطاولة قرب السرير. لم يتذكّره قبل خروج وسام هذا الصباح، لكان بحث عنه إلى أن وجده له. «أين يكون يا تُرى؟ كان الفطور والغداء بلا طعم، ولم أشعر بالشبع. فأين يكون؟ آخ، يا مريم لو تقومين!»
يُنزل رجله اليمنى عن السرير. صوت انفجار غير بعيد! «قذيفة أخرى! يا ربّ، الطف بعبادك!» لم تكترث مريم في جمودها.
يهدأ، ينصت بترقّبٍ إلى ما يحدث في الجوار، فقد يتبيّن مرمى القذيفة. صوت مسجّل السوزوكي ينادي لبيع البرتقال. يتبعه صوت مسجل سيارة بيع مياه للشرب. أغانٍ تصدح من مكان ما. صوت درّاجة ديب الناريّة الجديدة يعلو ثانية، يتباهى بها. «القذيفة ليست قريبة!» يحار إن كان عليه أن يحمد الله! يفكّر بضحاياها المحتملين، حيث سقطت. «الفرج يا أَلله!» يصرخ.
يُنزل قدمه اليسرى، تلامس الأرض. ولا تزال دراجة ديب في أرضها، تمزّق الآذان بصوتها. يصرعهم بها ليلَ نهارَ. ديب اللعين، لو تأخذه قذيفة! كلّما ذكر أبو سعيد ديب، ينتابه شعور بوجوب شتمه والدعوة عليه، سرّاً وجهاراً! وذلك، منذ أن سمع في الحارة حكاية قتله لأخته الطفلة ندى. «لصون الشرف، قال! والعياذ بالله، ويا ويله من عذابه، عديم الشرف!» يمسك بالعكاز، يستند عليه. «مريم، قومي، أنا تعبان ومريض!» يحاول أن يسوّي جلسته، ينجح أخيراً. يظلّ ممسكاً بالعكاز بيمناه، وباليسرى يمسك بالكرسيّ البلاستيكيّة. تتزحزح الكرسي، تمنعه من السقوط. يلقي بالعكّاز، ويمسك بذراعيْها، يستند عليهما بمثل ما يستند على جهاز الووكر.
قبل أن يخطو، يلمح شيئاً ما تحت طرف البساط، جانب إحدى قوائم الطاولة. تتمسّك يسراه بالكرسي، ينحني بتؤدة، وبيمناه يمسك بالعكّاز، يمدّه، يرفع به طرف البساط. «الفكّ! إنّه الفكّ، يا مريم!» يضحك فرحاً. «مريم، لقد وجدته!» يضحك بصوت ارتفع أكثر. يسحب الفكّ بطرف العكّاز إلى أن استطاع رفعه بيده. «سأهنأ بطعامي بقيّة هذا اليوم وبعده!» قال، ولا يزال يضحك.«مريم، شوفي وجدتُه!» يقول وهو يحدّق بالفكّ بسرور وعتب. «وأخيراً، وجدتك! لن تغيب عنّي ثانية!»
يضع الفكّ في منتصف الطاولة، بعيداً عن أيّ احتمال لسقوطه. ثمّ عاد يمسك بالكرسيّ، ويمشي صوب زوجته. يضحك. يتشبّث بالكرسيّ وهو يمدّ يده إليها، يضحك، يهمهم يمازحها، كمن يلاعب طفلةً: «وأخيراً، أمسكت بك، يا هرّيبة! هيّا قومي!» تحدّق به، وتقول بصوت هادئ خفيض: «أريد أن أذهب إلى البيت». «طبعاً، ستذهبين إلى البيت. هيّا انهضي، وامشي معي!» تنهض مثل «المسرنمة»، من دون أن تضيف كلمة أخرى. هذا كلّ ما قالته هذا النهار، وربّما ما ستقوله بقيّة الليلة!
تضع يدها على كتفه، يتمسّك بذراعي الكرسيّ من جديد، ويخطو نحو السرير. تخطو مريم، بصعوبة، خطوة إلى الأمام، وأخرى إلى الشمال، ثمّ إلى اليمين، ومع كل خطوة، يتوقّف أبو سعيد «انتبهي، يا مريم! خلّي يدك على كتفي! لا تسقطي! ليس من يشيلك معي هنا! على مهلك!» تتثاءب مريم غير آبهة. ثمّ تتابع مشيها البطيء.
لا تبعد الصوفا عن السرير بأكثر من خمس خطوات. يشعر بها أبو سعيد الآن وكأنها ألف. «آخٍ، آخٍ يا مريم!» تحاول مريم أن تستدير، وهي تشير إلى الباب الخارجي. تفلت ذراع الكرسيّ ويمسك بها بقوّة، تكاد تسقط، تترنّح مريم، تنحني، وتتمسّك بطرف السرير. يقول: «عليك أن تأخذي الدواء، أوّلاً! اقعدي هنا على السرير!» لكنّ مريم تقف من جديد، تعبث بخيط انسلّ من كنزتها الصوفيّة، تحاول أن تعقده. «ما الذي تفعلينه؟ أهذا وقته الآن؟ دعيه، واجلسي!» قال بصوت فيه بعض نزق.«أكاد أسقط، اقعدي! سأعقد لك الخيط. اقعدي!» تنصاع مريم بهدوء، وتجلس. يسوّي الكرسيّ ويقعد. زجاجة الماء على الطاولة قربه. يصبّ الماء في كأس، يناولها إيّاها. يعطيها الدواء. ينظر في بقايا وجبة الغداء. وضعها وسام لهما، قبل خروجه. بعض صحون يبس الطعام على أطرافها. يغطّيها بمحارم ورقيّة. «حين يعود الغالي، سنتعشّى معاً! هه، سأعقد لك الخيط الفالت». يعقده. تمدّ يدها تحاول عقده. «ألم تري أنّه معقود؟ توّاً، عقدته؟»
يمسك بكفّيها، يمعن النظر في عينيها. تدمع عيناه. يقول متوسّلاً: «مشتاق لصوتك، يا مريوما! مشتاق لأحاديثنا، وحتّى لشجاراتنا. احكي. ساعديني على هذه المصائب. لا تتركيني وحدي، أحتاج إليك، سلّيني!» تنظر في عينيه والفراغ. يمسح دموعه. «والآن، هل بإمكانك، يا حلوة، أن تتمدّدي في الفراش». يقول وهو يصطنع ضحكة خرجت مثل طرطقة. تحدّق مريم في السقف. «ساعديني! الله يرضى عليك!» يمدّ ذراعيه ويحاول أن يمدّدها. تستجيب، وتتمدّد. توسّع له المجال كي يصعد إلى السرير. «ما أحلاك، يا مريوما! أنت لم تتغيّري أبداً، يا طيّبة، يا محترمة، يا آدميّة!»
يمعن النظر في وجهها، في عينيها التائهتين، في التجاعيد، وشعرها الخفيف الأشعث الشائب، الوهن، الهزال والألزهايمر! في البداية، شخّص أحد الأطبّاء الحالة على أنّها اكتئاب، وقرّر آخر أنّه الباركنسون، ليستقرّ أحدهم أخيراً على الألزهايمر. وذلك، بعد انقضاء أكثر من عام على إصابتها بالمرض!
غياب الذاكرة، الغوص في الداخل والصمت، والانقطاع عن العالم والحياة. المسكينة تناولت ما يملأ شوالاً كبيراً من الأدوية الخطأ! «كادت تهلك، يا شحّارها، ونهلك معها». حدث هذا فور نزوحهم من القرية، وقد نكبتها الحرب، ودمّرت فيها البشر والشجر والحجر! الحرب علّتْه هو الآخر، وتكاد تعجزه. اليوم، يشعر بأنّه متخشّب. غداً سيكون أفضل. يجب أن يكون أفضل! كان يُفترض أن يكبرا ويشيخا هناك، في بيتهما، أن يموتا في سريرهما، ويُدفنا في مقبرة القرية، إلى جانب قبر سعيد، وبين قبور العائلة. «يا لهذه الخاتمة الوخيمة! ومن يعرف متى سنعود! آآآآآخخخخ، يا مريم، من يعرف إن كان كُتب لنا عمرٌ لنرجع؟» يأخذ الفكّ عن الطاولة، يمسحه بمحرمة ورقيّة، ثمّ يضعه في كأس فارغة ويغمره بالماء. يبتسم. «خليك هنا، لن تضيع ثانية!»
تغرب الشمس، تاركة في الغرفة، برداً شرساً، وظلالاً تتعتّم، رويداً رويداً. بعد جهد، يتمكّن أبو سعيد من التمدّد في السرير. يمسك بطرفَي اللحاف والبطانيّة، يشدهما لتغطية جسديهما. جسد زوجته بارد بشدّة. يخلع طاقيّته الصوفيّة، ويلبسها رأسها. يلتصق بها، يدسّ ذراعاً تحت رقبتها، وبالأخرى يحتضنها، وهو يقول: «أنت بردانة. سأدفئك. نامي، يا حبيبتي، نامي! لن أشعل شمعة. سيعود وسام، بعد قليل. أنت بردانة». ثمّ يدخل في الصمت. يحدّق في النافذة الصغيرة. بينما العتمة تسوّدُ الزجاج، وتشحّر القلب بالرعب اليوميّ، بانتظار عودة وسام سالماً!
«اليوم، تأخّرتَ كثيراً، يا ولدي؟!»

(*) قصة من مجموعة بالعنوان نفسه، صدرت حديثاً عن «دار التكوين»، دمشق.
(**) دمشق

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا