بعد الجزء الأول من «تاريخ التكفير في تونس» (2018) الذي خصّصه لتكفير الزعيم الحبيب بورقيبة (1903ــ 2000) وعبدالعزيز الثعالبي (1874ـــ 1944)والطاهر الحداد (1899-1935)، والجزء الثاني (2019) المخصّص لـ «أبناء بورقيبة» أولاد أحمد (1955-2016) ومحمد الشرفي (1936-2008) ويوسف الصديق (1943)، صدر الجزء الثالث من «تاريخ التكفير» للأكاديمي والأديب شكري المبخوت. هذه المرة، خصّص المبخوت الكتاب للتكفير في الجامعة التونسية، وتحديداً للدكتور محمد الطالبي (1927-2017) أحد مؤسسي الجامعة التونسية والمتخصّص في التاريخ الإسلامي.

في هذا الكتاب الصادر عن «دار مسكلياني» (تونس) التي أصدرت الجزء الأول والثاني، يتتبع شكري المبخوت مواقف وآراء محمد الطالبي في تكفير عدد من المثقفين والجامعيين التونسيين أمثال حمادي الرديسي، وعبدالمجيد الشرفي، والعفيف لخضر، وقبلهم الزعيم الحبيب بورقيبة. يقدّم المبخوت في الكتاب نماذج من مواقف منشورة لمحمد الطالبي في كتبه مثل «عيال الله» (1992) و«ليطمئن قلبي» (2007) و«أمة الوسط» (1996)، و«قضية الحقيقة» آخر ما صدر للطالبي في عام 2016 قبل وفاته بعام واحد. كما استشهد بمواقف وآراء لمحمد الطالبي منذ سبعينيات القرن الماضي وهي آراء موزعة بين مقالات وحوارات صدرت في صحف ومجلات.
الصورة التي يكتشفها قارئ هذا الكتاب عن واحد من مؤسسي الجامعة التونسية ودعاة تجديد الخطاب الديني، تبدو مفاجئة. فقد عرف الطالبي بدعوته لـ «التسامح» و«حوار الأديان». والمفارقة العجيبة أن محمد الطالبي كان ضحية التكفير بعد ما يُعرف بـ «الثورة» في تونس، إذ هدّده المتشدّدون بالقتل وخضع لحراسة أمنية مشددة في سنواته الأخيرة بعد ظهوره في برامج تلفزيونية وأبدى مواقف من بعض المسائل الخلافية مثل شرب الخمر والصوم وغير ذلك من «المقدّسات».
وفي هذا السياق، يقول شكري المبخوت: «ولئن كان الطالبي ضحيّة أخرى من ضحايا التكفير بعد الثورة؛ إذ فوق كلّ ذي تكفير مكفّر وعلى الباغي تدور الدوائر كما قال الشاعر القديم، فذهب قوله مثلاً؛ فإننا سنكتفي في هذا الجزء الثالث بعرض ملفّه الثقيل في تكفير من اعتبرهم منسلخين عن الإسلام باحثين عمّا يقع وراء هذا التكفير من قضايا فكرية مهمة بالنسبة إلى سؤال التحديث والعلاقة مع النّص الديني».
انقلب الدكتور محمد الطالبي من داعٍ لتجديد الخطاب الديني إلى «شيخ» كفّر زملاءه بالجملة


ابتدع الدكتور محمد الطالبي مصطلحاً جديداً. ففي كتابه «ليطمئن قلبي ـــ قضية الإيمان»، بيان للأسباب التي لم تدفعه إلى طريق الانسلاخ من الإسلام، مؤكداً أن الصّفة التي نحتها «انسلاخسلاميون» تجنّبه استخدام عبارة «مرتد» باعتبارها مصطلحاً فقهياً، وهو يرفض حكم الردّة الذي يناقض القرآن ويؤمن بحرية الفكر والتعبير وحقوق الإنسان رغم أن الانسلاخسملاميّة «إجرام سافر» (ليطمئن قلبي ص9). وحسب هذا المفهوم الذي أسّسه الطالبي، قام بتكفير عدد من الجامعيين والمثقفين التونسيين والعرب أمثال نائلة السليني، وحمادي الرديسي، وعبد المجيد الشرفي، وعياض بن عاشور، وآمال قرامي، وهشام جعيط، والعفيف لخضر، ومن الجزائر محمد أركون ومالك شبل… بل ذهب أبعد من ذلك: إذ كفّر «حزب نداء تونس» (أسّسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في عام 2012 وفاز في الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2014) عبر تكفير الجامعيين الذين صاغوا برنامجه الفكري. وهو ما يذكّرنا بتكفيره للزعيم الحبيب بورقيبة وفق ما يقول المبخوت الذي يستشهد بما كتبه الطالبي عن الزعيم بورقيبة في كتابه «قضية الحقيقة» الذي «لا شكّ فيه أنّه لم يكن مسلماً بأيّ وجه من الوجوه. لا أرحّم عليه لأنّه كان يشتم الرسول ويشتم القرآن… فكيف أرحّم على من أهانني في ديني وأجتهد اجتهاد النفاق ليجليه عن أرضي وبلادي». وهنا يضع الطالبي نفسه في الموقع نفسه مع زعيم حركة «النهضة» الإسلامية راشد الغنوشي ومنظّر الوهابية في السعودية ابن باز، وكلاهما كفّر بورقيبة بالمنطق نفسه.
يقول شكري المبخوت: «أوصل صدام واضح للطالبي مع مخالفيه كان مع حمّادي الرديسي (أستاذ العلوم السياسية مهتم بالعلاقة بين الدين والسياسة في التراث الاسلامي) بعدما اعتبره منسلخاً عن الاسلام». ويضيف: «والواقع أن الطالبي لم يتحدّث عن حمّادي الرديسي فقط، بل عدّ أركون وجعيّط كذلك في سياق التأكيد على أنّ «الإسلام لوجي» يمكن أن يكون منسلخاً عن الإسلام أو غير مؤمن ولكنّه يقوم ببحوث عن الإسلام كما يريد». والضحيّة الثانية لمحمد الطالبي هو تلميذه عبدالمجيد الشرفي الذي حصل على أطروحة الدكتوراه تحت إشراف محمد الطالبي سنة 1986 حول «الفكر الإسلامي في الرّد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع هجري العاشر ميلادي».
رغم علاقة الاحترام والتقدير بين الأستاذ الطالبي وتلميذه الشرفي، اتهم الطالبي في مقال نشره في المجلة التونسية الفرنسية «جون أفريك» في عام 2006؛ الشرفي بأنه يقود مدرسة لنزع «القداسة عن الإسلام» مقرها كلية الآداب والفنون والإنسانيات في منوبة. وقال: «في كلية الآداب في منّوبة (تونس)، توجد مدرسة حقيقية لنزع القداسة عن القرآن مؤسسها هو الأستاذ عبدالمجيد الشرفي». وشبّه هذه المدرسة بـ «ما يوجد في الغرب من انسلاخ عن المسيحية ومن لائكية».
ومن المواقف التي أثارت حفيظة الطالبي في علاقته بتلميذه الشرفي ما يتعلق بـ «انتقال القرآن من المشافهة إلى الكتابة، معتبراً أن لفظ القرآن لا يطلق إلا على الرسالة الشفهية. أما جمعه وتدوينه، فهما من عمل الصحابة، خصوصاً عثمان». ورأى الطالبي في ما قاله الشرفي «إمّا الجهل وإمّا السفسطة وفي الحالتين تبرز الغاية منها وهي هدم الثقة في القرآن جملة وتفصيلاً». ويقول في موقع آخر متحدّثاً عن الشرفي: «الإسلام الذي ينظّر له إسلام بدون آخرة. الآخرة غائبة في كتابه؛ لا لها ولا عليها؛ وهذا يكفي ليخرجه من الدائرة الإسلامية».
هذا الكتاب كشف عن جوانب من شخصية محمد الطالبي لم ينتبه لها كثيرون، بخاصة أنه تعرّض للتكفير بعد ما يعرف في تونس لـ «الثورة» عندما أصبح شخصية عامة في الشارع التونسي بعد ظهوره في فضائيات وإذاعات تحظى بمتابعة عالية من التونسيين. إذ كان قبل «14 يناير 2011»، غير معروف لعامة الناس لصفته الأكاديمية ومقاطعة وسائل الإعلام له بسبب انحيازه إلى المعارضة ضد نظام بن علي بعد عزله من اللجنة الثقافية الوطنية (أعلى هيئة ثقافية في تونس) في عام 1993.
يقول المبخوت: «وهذا الموقع الجديد النّضالي الدعوي هو الذي أثار استغراب الجامعيين والمتابعين للشأن الديني، فخلخل ما استقر في أذهانهم عن الطالبي المجدّد في مسائل الفكر والدين والمؤرخ المحترف الذي يعرف مناهج النّقد التاريخي وأخلاقيات البحث فيه». ويضيف: «هذا الذي عدّ مفكّراً إسلامياً مجدّداً بآراء جريئة بالنسبة إلى السياق الفكري العربي والتونسي ينقلب داعيةً بسيطاً يناضل شاهراً سيف التكفير ضدّ المنسلخين عن الإسلام. وعادت به دعوته إلى إسلامه الطرقي القادري الذي تشرّبه من العائلة، فتناسى ثقافته العلمية واطّلاعه على ما يدور في العالم من نقاشات حول الظاهرة الدينية».
انقلب الدكتور محمد الطالبي من داعٍ لتجديد الخطاب الديني وداعٍ للتسامح إلى «شيخ» كفّر زملاءه بالجملة، والتقى في مواقفه من الزعيم الحبيب بورقيبة أحد روّاد الإصلاح والتجديد في العالم العربي والإسلامي مع رموز التشدّد الإخواني الوهّابي مثل ابن باز والغنوشي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا