في عام 1965، أدارت المخابرات المركزيّة الأميركية عملية سريّة أقدم خلالها الجيش الإندونيسي على قتل حوالى مليون (إلى ثلاثة ملايين) من المدنيين الأبرياء العزّل. كانت تلك عمليّة «نظيفة» بالنسبة إلى واشنطن. إذ لم تكلّف الأميركيين جندياً واحداً، لكنّها قضت على أكبر حزب شيوعي في العالم خارج الصين والاتحاد السوفياتي، وألهمت برامج التصفية الدمويّة لليساريين في البرازيل وتشيلي والأرجنتين والسلفادور وغيرها، وفتحت الباب لاحقاً لموجة الأسلمة التي أفرزت ذلك التحالف الثلاثي الآثم بين المخابرات الأميركية والجماعات الإسلامية والأنظمة العربية. هذه التجربة الساحقة النّجاح للمخابرات الأميركيّة تحوّلت نهجاً معتمداً غيّر مسار تاريخ القرن العشرين، وكان حجر الزاوية في حسم الحرب الباردة لمصلحة واشنطن، ونقلِ عدد كبير من دول العالم إلى حيّز الهيمنة الأميركية. لكنّ التفاصيل بقيت إلى حد كبير خارج الأضواء. الصحافي الأميركي المقيم في إندونيسيا فينسنت بيفينز يضع في كتابه «نهج جاكرتا» (Public Affairs Publishing, 2020)، تاريخاً ذكيّاً بلمسة استقصائيّة لتلك التجربة، بعدما أفاد من وثائق رسميّة رُفعت عنها السرية أخيراً، وأبحاث أرشيفية، وشهادات شهود عيان تجمّعت من 12 بلداً للكشف عن إجرام يفوق في بشاعته القنابل النووية الأميركيّة التي ألقيت على المدنيين في هيروشيما وناغازاكي

في أذهان الأغلبيّة، تظلّ تجربة الحرب الأميركيّة على فيتنام (يسميها الفيتناميّون «حرب المقاومة» ضد أميركا) النّموذج التاريخيّ الأهم لتدخل الإمبراطوريّة الدموي في العالم خلال مرحلة الحرب الباردة (1945 - 1990). لكنّ قراءة متمعّنة في كتاب فينسنت بيفينز مراسل «واشنطن بوست» في إندونيسيا المعنون «نهج جاكرتا: حملة واشنطن المناهضة للشيوعية وبرنامج القتل الجماعي الذي شكّل عالمنا» الذي يوثّق (مستفيداً من مراسلات رسميّة رُفعت عنها السرية أخيراً، وأبحاث أرشيفية، وشهادات شهود عيان تجمّعت من 12 بلداً) جانباً من التدّخل الأميركي السري في إندونيسيا في فترة 1965 -1966، قد يدفع كثيرين إلى إعادة حساباتهم. بينما كلّفت الحرب على فيتنام – بالنسبة إلى الجانب الأميركي حصراً ـــ عدة آلاف من القتلى الأميركيين، ومليارات الدولارات، وانتهت إلى هزيمة مذلّة للجيش الأقوى في العالم ألهمت حركات التحرر في كل مكان، وتسبّبت في تشقق المجتمع الأميركي وتراجع غير مسبوق لثقة المواطن العادي في الولايات المتحدّة بالمؤسستين السياسيّة والعسكريّة، فإن التّدخل في إندونيسيا لم يكلّف الأميركيين ولو جندياً واحداً. مجرّد زيادة تافهة لا تُذكر على مصاريف العمل العادي في محطّة المخابرات المركزيّة الأميركيّة في جاكرتا، انتهت بكل مقاييس لانغلي (حيث المقرّ الرئيسيّ للوكالة) إلى نجاح باهر. إذ مسحت من الوجود في وقت قياسيّ أكبر حزب شيوعي خارج الصين والاتحاد السوفياتي، وألهمت الأنظمة الفاشستيّة حول العالم اتباع النّهج الإجرامي ذاته، وتسببت في انتهاء حركة عدم الانحياز وحسم الحرب الباردة، وفتحت الباب لموجة الأسلمة الرجعيّة التي أفرزت لاحقاً ذلك التحالف الثلاثي الآثم بين المخابرات الأميركية والجماعات الإسلامية والأنظمة العربية، ناهيك بأن الدّاخل الأميركي لم يتأثّر بها قط.
كان سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا (حكم من عام 1945 إلى عام 1967) وبطل تحررها من الاستعمار الهولندي، يحاول جاهداً خلق توازن بين القوى الثلاث الرئيسة في البلاد: الشيوعيّون، الذين يريدون توسيع قاعدة ملكيّة الأراضي الزراعيّة وبناء مشروع اشتراكي لكل مواطنيه، ورجال الدين التقليديون، وقادة الجيش الذي تغلب عليه الاتجاهات اليمينية. لكنّ الولايات المتحدة وبريطانيا بدأتا تشعران بقلق متزايد من نوايا الرجل ولا سيّما بعدما زاد تقاربه مع الصين وشروعه في دعم فكرة تأسيس ميليشيا يساريّة مسلحة. لذا، عزمتا على التخلّص منه بالاغتيال أو عبر انقلاب (هناك مذكرة سريّة للمخابرات الأميركيّة في هذا الشأن تعود إلى عام 1962) وشرعت أجهزة استخباراتهما فعلاً بالتحضير لذلك. وقد حاول عسكريّون ذوو ميول يساريّة في 30 أيلول (سبتمبر) 1965 استباق ذلك، ونفّذوا عمليّة خاطفة اعتُقل على إثرها ستّة من كبار الضباط المتورطين في التحضير للانقلاب الأميركي، وأُعدموا بعد محاكمات ثوريّة عاجلة. لكن سوكارنو أنكرهم، وسمح لمجلس قيادة الجيش بإنهاء حركتهم، واستعادة السّيطرة على البلاد، ومنح سوهارتو، دمية واشنطن، اليد العليا في إدارة المرحلة التالية.
الأميركيون كانوا قد تجهزوا لتلك اللحظة منذ بعض الوقت، فاستقطبوا كبار الضباط عبر الرشاوى وغطاء التدريب المشترك ونظموا لهم الرحلات المدفوعة إلى الولايات المتحدة هم وعائلاتهم، وأوغلوا صدورهم بالحقد على الشيوعيين «أعداء الوطن والإسلام». وهم في خضم تحضيرهم لإزاحة سوكارنو، جهّزوا قوائم مفصّلة بأسماء الشيوعيين الذين ينبغي تصفيتهم فور تولي الجيش السلطة، وعيّنوا سفيراً للولايات المتحدة، متخصصاً في الأنشطة الانقلابية، وأغرقوا الإعلام عبر الصحافيين المرتشين بالدعاية الكاذبة ضد الشيوعيين، وأمدوا القوات المسلحة بالأسلحة والمساعدات الاقتصادية ومعدات الاتصال وخطط محددة لتطهير معاقل الحزب الشيوعيّ.
بدأت عمليّات القتل المنظّم قبل نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1965 واستهدفت بداية تطهير الجيش من اليساريين المتعاطفين مع سوكارنو، لكنّها سرعان ما امتدت إلى أسماء الآلاف الذين طلب الأميركيون تصفيتهم قبل أن تتحول إلى مذبحة شاملة وحوادث تطهير عرقيّ استهدفت كل أعضاء الحزب الشيوعيّ وعوائلهم والمتعاطفين معهم أو المحسوبين عليهم من الأقليّات العرقيّة، ولا سيّما المنحدرين من أصول صينيّة.
امتدت المذابح أشهراً عدة، وشملت كلّ أنحاء البلاد وبشكل خاص العاصمة جاكرتا، ولكن أيضاً جاوة الوسطى وجاوة الشرقية وبالي وسومطرة، مع تجاهل شبه تام من قبل الإعلام الغربي الذي اعتبر أن ما يجري حوادث كراهيّة عرقيّة محليّة في مجتمعات آسيوية متخلّفة لا تعطي قيمة لحياة الإنسان. التقديرات الأكثر تداولاً بشأن أعداد الضحايا أشارت إلى مقتل ما بين 500 ألف إلى أكثر من مليون شخص خلال ما يقرب 25 أسبوعاً، هذا سوى مليون شخص آخرين على الأقل انتهوا إلى سجون مرعبة. لكنّ التقديرات اللاحقة الأدق وضعت رقم القتلى في حدود الثلاثة ملايين شخص.
بعد المجزرة، استكملت إندونيسيا انحطاطها على يد الجيش اليميني والإسلام الوهابيّ الطابع


المذابح التي أدارها مستشارون أميركيّون ووصفوها في برقياتهم إلى واشنطن (أُفرج عنها بعد عقود) بأنها تفوق ما قام به النازيّون في الحرب العالميّة الثانية، كانت بمثابة تغيير جراحيّ لبنية النظام في البلاد، وانتهت إلى سقوط الرئيس سوكارنو (آذار/ مارس 1967)، وتسلّم المجرم سوهارتو مقاليد السلطة ليحكم لثلاثة عقود استكملت خلالها إندونيسيا انحطاطها السياسيّ والاجتماعي والثقافي على يد الجيش اليميني والإسلام الوهابيّ الطابع. وأصبح الأرخبيل منطقة نفوذ سياسي واقتصادي أميركي وغربيّ بلا منازع، ودولة رقابة يمينيّة ديكتاتوريّة مصابة ببارانويا دائمة، ووصمت الأفكار الشيوعيّة والاشتراكية بالعار المجتمعي والكفر، وهو أمر ما زال مستمراً إلى اليوم. وقد وصف الراحل أندريه فليتشيك الصحافيّ والمؤرخ الذي كان يعرف إندونيسيا جيداً أجواء العيش المتزمّت فيها بأنها أسوأ من مملكة آل سعود (ربّما قبل مرحلة التحول البن ـ سلماني الأخير).
نفت وكالة المخابرات المركزية دائماً تورطها في عمليات القتل، إلا أن وثائق رسميّة رُفعت عنها السرية عام 2017، أظهرت أن الحكومة الأميركية كانت على علم مفصّل بعمليات القتل الجماعي منذ البداية، ودعمت وأدارت بشكل مباشر أنشطة القتل، سواء تلك التي نفذها الجيش الإندونيسي أو فرق ميليشيات الموت الإسلاميّة الخاصة.
هذا النجاح الباهر لسياسة التدخّل السري في إندونيسيا (في وقت كان فيه التورّط العسكري المباشر في فيتنام يواجه صعوبات جمّة) دفع واشنطن إلى تبني ما سُمي لاحقاً بـ «نهج جاكرتا» كدليل للعمل على كسب الحرب الباردة وحماية النظام الرأسمالي من تفشي التوجهات الاشتراكية بين شعوب العالم الثالث. ويعتقد بيفينز بأن الأميركيين جرّبوا هذه الطريقة سابقاً في تايوان وكوريا الجنوبيّة، وأسفرت عن سقوط آلاف القتلى، لكنّها في إندونيسيا وصلت إلى حد الاحتراف التام. واستخدمت تلك الخبرة تالياً لإخفاء وتعذيب وذبح أعداد هائلة من المدنيين ذوي الميول اليسارية في جميع أنحاء العالم: الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وشيلي وباراغواي وأوروغواي في السبعينيات والثمانينيات حيث تجاوز عدد القتلى الـ 80 ألف شخص. وطُبِّقت كذلك في فيتنام في فترة 1968-1972 تحت اسم «عملية فينيكس» (50 ألف قتيل) والعراق 1963 و 1978 (5 آلاف قتيل)، والمكسيك 1965 (1300 قتيل)، والفيليبين 1972-1986 (3250 قتيلاً)، وتايلند 1973 (3 آلاف قتيل)، والسودان 1971 (بحدود 100 قتيل)، وتيمور الشرقية 1975-1999 (300 ألف قتيل)، نيكاراغوا 1979-1989 (50 ألف قتيل)، السلفادور 1979 و1992 (75 ألف قتيل)، هندوراس 1980-1993 (200 قتيل)، كولومبيا 1985-1995 (5 آلاف قتيل) غواتيمالا 1954-1996 (200 ألف قتيل)، وفنزويلا 1959-1970 (1500 قتيل).
هذه أرقام بيفينز، لكنّ القائمة ليست شاملة وشديدة التحفّظ، ولا ترصد مختلف التطبيقات لنهج جاكرتا الكامل في جميع أنحاء العالم لتحقيق الأهداف الاستراتيجيّة الأميركيّة وتغيير الأنظمة وسحق المعارضة من دون ضجيج.
يجادل بيفينز بأن «نهج جاكرتا» مدخل أساس لفهم انتصار واشنطن في الحرب الباردة وسقوط معظم العالم تحت مظلّة الهيمنة الأميركيّة. إذ بالنسبة إليه، لم يتم كسب الحرب الباردة، ولم تنتشر الرأسمالية، ولم يتم توسيع منطقة النفوذ في الولايات المتحدة من خلال القوة الناعمة للنظام الديمقراطي المزعوم أو حتى من خلال البروباغندا وهوليوود و«ديزني» وثقافة الاستهلاك السريع، ولكن بشكل أساسي من خلال إبادة أعداد هائلة من الرجال والنساء والأطفال ذوي البشرة الملوّنة في البلدان الفقيرة من دون تكبّد الأميركيين خسائر تُذكر في الأرواح أو التكاليف الماديّة. لقد انتصر الغرب بمحض القتل، وعلى جثث ملايين الشهداء شكّل إمبراطوريّته المعولمة وبنى اقتصاده النيوليبرالي المتوحّش.
يعيد بيفينز «نهج جاكرتا» إلى الموقع الذي يستحقه في سياق تاريخ القرن العشرين كنقطة تحوّل كبرى كان لها ما بعدها، ويضيء على الجانب الخفيّ من التحولات الكبرى الذي تمثله أدوار أجهزة الاستخبارات الغربيّة وتتوافق جهات عديدة على تجاهله وإسقاطه من سرديّة الأحداث. لكننا ونحن نقرأ نصّه السلس، ينبغي أن نتذكّر أنّه في النهاية كاتب أميركي وابن «واشنطن بوست» الأميركيّة جريدة نخبة العاصمة، رغم كل ما أشار إليه من فظائع مغلّفة بإيديولوجيا الأميركي العادي الأقرب إلى السذاجة، والحريص على الظهور كوطني مخلص. هو يتحدّث مثلاً عن نوايا حسنة لدى الرئيس كينيدي في ما يتعلّق بحركة عدم الانحياز وعن عيش الرئيس أوباما خلال طفولته في إندونيسيا ما بعد سوكارنو، وإطلالته على الحدث دائماً بعين الصحافي الاستقصائي، لا المؤرّخ المتمرّس بتفكيك المعطيات. ولذا، فإن «نهج جاكرتا» مجرّد تلميح خاطف إلى «هولوكوست» إندونيسي لم يُكتب بعد، ولم تُفتح ملفاته، ولم تجر بشأنه محاكمات أو حتى مراجعات تاريخيّة أو دراسات سايكولوجيّة للبحث في ماهيّة ذلك السواد الإيديولوجي الذي يسمح للنخب في النظام الرأسمالي بالتنصّل من كل إنسانيتها واقتراف جرائم هائلة ضد مجاميع من البشر من دون أن يهتزّ لأيّ من أفرادها جفن.

Vincent Bevins, The Jakarta Method: Washington›s Anticommunist Crusade and the Mass Murder Program that Shaped Our World, Public Affairs Publishing, 2020