جلست فاطمة وحيدة في مكتبها تصلها أصواتُ الجنادب مصحوبة بإيقاع ساعة البنْدُول. فكّرت بخيانة صديقها وبحقد الإمام وسعيه الدؤوب للإطاحة بها. ثمّ، وفي لحظة من لحظات التخلّي، غمست الريشة بالدواة وخطّت بيدها المرسومَ السلطانيَّ القاضي بتغيير العلم!
■ ■ ■

هكذا تجرّأت فاطمة، فعمدتْ إلى استبدال علمٍ تحاكي ألوانه العلم الفرنسيّ بالعلم العمانيّ الأحمر الذي رفرف طويلاً في سماء الجزيرة القمريّة. رأى العرب في الخطوة استفزازاً لمشاعرهم القوميّة، فجاء ردّهم عنيفاً أشرس العنف. إذ أحرقوا مزارع الإيلانغ لانغ في مختلف أنحاء الجزيرة وشنّوا هجمات واسعة على الثكنات والأبراج، استولوا خلالها على أسلحة ناريّة، ما لبثوا أن استخدموها في هجوم على قبائل ملغاشيّة في قرية والا.
أناييسْ مَايِّي ــ «منظر على ساحل زنجبار» (أكريليك على ورق، 2018)

استدعت فاطمة سكرتيرها الخاص وطلبتْ إليه دعوة وزرائها للاجتماع. كانت تعلم أنّهم يكرهونها، ويقولون، في ظهرها، إنّها لا تستشيرهم في شيء، لأنّها تُدار من قبل مربّيتها وعشيقها الفرنسيّ. هذا ما نقله إليها مارسيلين. رغم ذلك، أرسلت في طلبهم لاجتماع طارئ، علّهم يستطيعون، بما يملكون من حظوة لدى شيوخ القبائل، إصلاح ما اقترفته في لحظة غضب. كذلك دعت شيوخ القبائل العربيّة إلى القصر للتباحث في كيفية احتواء الأزمة. لكنّ الشيوخ ما لبثوا أن رفضوا دعوتها وتوجّهوا إلى جزيرة أنجوان القمريّة لعقد مؤتمر تأسيسيّ لحزب موهيلي برعاية سلطان العرب، الإمام سعيد بن سلطان، وبحضور كلّ من السفير ناصر والأمير محمد، ابن السلطان المخلوع.
افتتح السفيرُ المؤتمر بكلمة عبّر فيها عن دعم زنجبار للثورة الرافضة لفرْنَسة الجزيرة واضعاً مقدّرات السلطنة في خدمة الثوّار. ناقش المؤتمرون بعد ذلك مبادئ الحزب الجديد المتمثّلة برفض فرنسة الجزيرة وتغيير وجهها العربيّ عبر تهميش اللغة العربيّة والاستيلاء على أراضي الفلاحين العرب. كذلك أكّدوا تمسكهم بالعلم الأحمر كرمز أوحد للجزيرة القمريّة، مطالبين الثوّار برصّ الصفوف والاستعداد لمواجهة مفتوحة مع السلطانة الملغاشيّة التي تمادتْ في خدمة المصالح الأجنبيّة. في نهاية المؤتمر، طالب الشيوخُ السلطانةَ بالتخلّي عن العرش حقناً للدماء. على أن تأتي القبائل العربيّة بسلطانٍ عربيّ يخلفها إلى سدّة الحكم.
■ ■ ■

لم يتوقّع أحدٌ أنْ يتحوّل الاحتجاجُ على تغيير العلم إلى ثورة عارمة في مختلف أرجاء البلاد، لا سيما أنّ الشعب نفسه لم يُحرّكْ ساكناً يوم مصادرة أراضيه ومنحها للشركة الفرنسيّة. أمّا وقد اندلعت الثورة، فقد رأت زنجبار أنّ وقت التغيير قد أزِف.
وها هو السفير ناصر يَجْمع تيمور بالأمير محمد على هامش المؤتمر التأسيسيّ في أنجوان. ما إن رآه تيمور حتى فهم لماذا اشترط الإمام منذ سنوات بعيدة على موهيلي الإفراج عن الأمير الصغير وأبيه لاستئناف العلاقات.
تصافح الرجلان في جفاء، فتقدّم ناصر منهما وجمع يدَيْهما في كفّه قائلاً: - من الصعب أن ينسى المرء ماضيه ولكنْ ليس من العدل أن يتحمّل الأبناء وزر خلافات آبائهم.
تعلّق بصر تيمور بندبة في وجه الأمير. تكهّن أنّها تعود إلى يوم الانقلاب حين تعرّض للضرب على يدَي أبيه بَكاري. قال الأمير بنبرة صادقة: - نسيتُ الماضي وطويتُ الخلاف يوم علمتُ بما قام به تيمور من تخريبٍ في موهيلي بغية زعزعة عرش فاطمة.
غام وجه تيمور لأنّه لم يكن يبتغي من تخريب المزارع سوى إيلام غريمه جوزيف وإبعاده عن فاطمة. لم يتوقّع قطّ أن يمهّد بذلك لثورة قد تطيح بالتي يحبّ.
أسبل السفير جفنيه وتوجّه إلى الأمير محمد: - بلغني أنّ الثوّار العرب سيطروا على أغلب المحافظات والقرى. لذلك أرى أنّ الوقت قد حان للتوجّه إلى موهيلي لقيادة هذه الثورة. فبما أنّكَ وريث السلطان الشرعيّ الذي خلعه عبد الرحمن منذ سنوات، أرى أنْ تكون أول الداخلين إلى القصر السلطانيّ كي تطيح بفاطمة وتشرف بنفسك على اعتقالها تمهيداً لمحاكمتها أمام الشعب والتاريخ. - محاكمتها؟! نهايتُها يجبُ أن تكون أحقر من ذلك! نهاية امرأة خانت شعبها وأتاحتْ للآخرين خيانتها.. إنّ قتلها هو أقلّ ما يجب فعله.
أصبح تيمور على أسوأ حال. ودّ لو يسأله عن مبرّرٍ لكل هذا الحقد والتشفّي! ففي آخر المطاف لم تكن فاطمة يوم الانقلاب سوى طفلة.
أسبل السفير جفنيه مجدَّداً في خصلة بدا أنّه اكتسبها مؤخّراً: - ستجعلها بطلةً ملغاشيّة لو قتلتَها بيديك يا محمد، إذ سيقول شعبها بعد ذلك إن العرب قتلوا سلطانتهم، أليس كذلك يا تيمور؟
أومأ الرجل الأسود برأسه أن نعم. فاقترح الأمير: - فليقتلها تيمور إذن ما دام ملغاشيّاً مثلها!
ثمّ سحب من جنبيته خنجراً معقوفاً، اشترط وهو يمدّه أن يُحزَّ رأسها به، زاعماً أنّه خنجر أبيه السلطان. تأمّله تيمور مصدوماً بالكراهية التي تعتمل في صدره. داهمته ذكرياتٌ بعيدة يوم كانوا صِبْية يلهون في حديقة القصر. حينها كان ابن السلطان سلطاناً وفاطمة جارية محبّبة تؤدي بفرح دورها الوضيع. أمّا هو فكان الشرير الذي يسعى لاختطافها لا لشيء إلّا لتكون ولو للحظات قصيرة ملكاً له. كانوا في ذلك الوقت صغاراً، لديهم ترف اختيار أدوارهم في اللعبة. أمّا وقد كبروا الآن فقد خسروا ذلك الترف وصارت الحياةُ هي التي تختار لكل واحدٍ دوره.
قطع حبل أفكاره صوتُ الأمير: - هل أنت مستعد لقتلها؟
التفت تيمور نحو السفير الذي شجّعه بإغماضة من عينيه. عندها مدّ يده وأمسك الخنجر من مقبضه العاج. عندما لمع النصل في وهج الشمس حدس تيمور بالقدر البائس الذي ينتظره.
■ ■ ■

دخل مارسيلين قاعة الاجتماعات شاحباً مهدود القوى كأنّه يواجه وحده جميع الثوّار. قال للسلطانة بصوت خافتٍ: - لن يتمكّن الوزراءُ من المجيء، فقد قطع الثوّار جميع الطرق المؤدّية إلى القصر.
شقّ عليه أن يخبرها الحقيقة. فالوزراء اجتمعوا من دونها بحضور السفير والأمير وتيمور؛ رجال ثلاثة أحبّوها ذات يومٍ قبل أن تجمعهم المصلحة في التخلّص منها.
رفّ جفناها بتشنّج. سألته بصوت امرأة يفلت زِمام السلطة من يدها:
- أفهم من كلامك أنكَ فشلت في إخماد الثورة؟!
أطلق زفرة عميقة:
- إنّ تغيير العلم ألهب المشاعر القوميّة لدى الناس. والبندقية مجردُ اختراع معدّ لإبادة الجسد لا لإخماد المشاعر.
تطلعت إليه مرعوبة.
- العَلَم! من كان يتوقّع أنّ خِرْقةً بهذا الصغر قادرة على تدمير حلم لا حدود لاتساعه!
- لا أحد يعلمُ متى يخرج الشعبُ من قمقمه أو لماذا يثيره أمرٌ دون آخر. خرج الفرنسيّون في ثورة عارمة بسبب سرقة عِقد قيل إنّه لزوجة الملك، ماري أنطوانيت. علماً أنّه كان يجدر بالشعب أن يخرج على الملك يوم إهدائه لها العقود والجواهر، لا يوم سرقتها.
نظرتْ إليه مطوّلاً. ولأنّها قرأتْ هذا الكلام في رواية قلادة الملكة عقّبتْ:
- من المؤسف حقّاً أن يكتشف الشعبُ الفرنسيُّ بعد إعدامه ماري أنطوانيت أنّها رفضت هذا العقد وقالتْ لمن حمله إليها إنّها لا تستطيع وضع عقد في جيدها، ثمنه يكفي لإشباع نصف فقراء باريس.
- مسكينة ماري أنطوانيت، فحتى عبارتها الشهيرة التي أجّجت الثورة ضدّها: «فليأكلوا الكعك إن لم يجدوا الخبز» تبيّن لاحقاً أنّها لم تقلها.
- حقّاً؟
تحسّس زرّاً فضيّاً من أزرار بزّته العسكريّة:
- عندما ذكر جان جاك روسو هذه العبارة في كتابه، لم يكن عمر ماري قد تجاوز التاسعة.
مسّها تعاطفه مع الملكة الفرنسيّة لأنّها محاصرة بالشائعات مثلها، ولأنّها لم تكن في تلك اللحظة أكثر من انعكاس لها. سألته مرتاعة: - أتظنّ أنّ مصيري سيكون مشابهاً لمصيرها؟
- سأفعل كلّ شيء كي أحول دون ذلك..
ذكّرها كلامُه بكلماتٍ طفوليّة تفوّه بها تيمور وهو يُحيطها بذراعه على الشرفة، متعهداً بحمايتها من كلّ شر. بعد صمت، قال قائد الحرس:
- تكمن الحكمة أحياناً في الهرب.
مذهولة نظرتْ إليه. فهذه العبارة وردتْ أيضاً في إحدى روايات ألكسندر دوما. لا تصدّق أنّ هذا الرجلَ الملغاشيّ المثقفَ كان دائماً إلى جانبها، لا تصدّق أنّها لم تنتبه إليه بما فيه الكفاية!
- ولكنْ إلى أين يمكننا الهرب؟
أردف وهو يلمس زرّ بزّته الفضيّ:
- هناك فرقاطة تقلّ الرعايا الفرنسيّين إلى جزيرة مايوت.
- ألم تقلْ إن الطرقات مقطوعة؟
- ثمة طريق فرعيّ لم يُقطع بعد!
- ماذا لو كان فخّاً؟ ماذا لو كانوا يتربّصون بنا هناك؟
ابتسم وأجابها بنبرة أرادها مرحة:
- ستكون في ذلك نهايتنا..

(*) مقتطفات من رواية للكاتب اللبناني محمد طرزي، صدرت حديثاً عن «الدار العربية للعلوم-ناشرون» (بيروت)، وهي الرواية الثالثة والأخيرة ضمن ثلاثيَّة «حكاية الحلم الأفريقي» بعد «جزر القرنفل» (2013)، و«ماليندي» (2019). تتناول الرواية ما يُعرَف تاريخيّاً بالفترة الذهبيَّة للإمبراطوريَّة العُمانيَّة (القرن 19) وهي الفترة التي اتسع فيها نفوذ الإمام العربيّ سعيد بن سلطان في منطقة الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، وصراعه الخفيّ مع الفرنسيين الناجم عن دعمهم الانقلابيين في «موهيلي» (جزر القمر)، والتي كانت تدين بالولاء للسلطنة. صدرت للكاتب روايات عدة أبرزها: «رسالة النور – رواية عن زمان ابن المقفع» (2016)، «أفريقيا – أناسٌ ليسوا مثلنا» (2018)، فضلاً عن دراسة اقتصاديّة بعنوان «اقتصاديات الدول النامية في ظلّ العولمة» (2002).