تونس | عن «دار مسيكلياني» في تونس، صدرت أخيراً الترجمة العربية لكتاب ألفة يوسف «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي». وكان العمل قد صدر في طبعة فرنسية ضمن سلسلة كان يديرها المفكر الراحل محمد أركون عن «دار ألبان ميشال» الشهيرة. الكتاب الذي ترجمه وليد أحمد الفرشيشي، يُعدّ إضافة مهمة إلى المكتبة العربية من باحثة جمعت بين النشاط الأكاديمي والاهتمام بالشأن العام في مقاومة سطوة الإسلاميين وأنصار ما يُعرف بـ «الربيع العربي». منذ عشر سنوات، تواجه الباحثة المتخصّصة في الحضارة الإسلامية وقضايا الجندر واللغة والتحليل النفسي في الجامعة التونسية، هجوم جحافل «الثورجيين» والإسلاميين إلى حد تهديدها بالقتل، إذ تخضع منذ آب (أغسطس) 2013 لحراسة أمنية مشددة. وسط حالة الاستنفار هذه، حافظت يوسف على حضورها الثقافي والأكاديمي. لم تنقطع عن المساهمة في الشأن العام من خلال تدويناتها اليومية، وبعض المساهمات في ندوات فكرية حول قضايا التفكير والتكفير والمرأة. في هذا الحوار، تتحدث عن كتابها وافتتانها بالتحليل النفسي والمشهد العربي اليوم من جوانبه الفكرية والتربوية والسياسية والأكاديمية، مؤكدةً على أن الأمل في المستقبل ما زال قائماً وأن لا مستقبل لطيور الظلام
بعد كتابك العام الماضي «وجه اللّه»، صدرت أخيراً الترجمة العربية لـ «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي»، هل يمكن اعتبار أنّ ألفة يوسف باتت بهذا التوجّه منخرطةً في تجربة صوفية؟
ـــ نعم أصبحت منخرطة في رؤية صوفية للعالم. ولكنّ الصوفية تجربة أكثر من كونها رؤية. فالرؤية بدأت مع كتابات سابقة مثل «شوق» و«ناقصات عقل ودين» وبلغت أوجها بالنسبة إليّ في «وجه اللّه». «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي» الصادر بالفرنسية، هو كتاب أسهم في تبلور هذه الرؤية الصوفية، وفي بناء التجربة مساهمةً عكسية. فما قمت به في «تعدد المعنى في القرآن» هو قراءة لسانية لغوية، وما قمت به في «الإخبار عن المرأة في القرآن والسنة» هو قراءة تاريخية. والشيء نفسه في «حيرة مسلمة». «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي» يراوح بين القراءة التاريخية والقراءة اللغوية. هو قراءة تحليلية نفسية، لنبين أن كل القراءات ممكنة، لكنها تظل في دائرة الممكن لا في دائرة الحق. وهذا هو الفرق بين الرؤية التأويلية سواء اندرجت في منظور الشريعة أو في منظور الهرمنيوطيقا بشكل عام والرؤية الصوفية. الرؤية التأويلية تظل دائماً إمكاناً، والرؤية الصوفية تفتح باب الواحد الأحد: باب النفاذ إلى الحق.

القرآن ما زال يثير الكثير من الجدل، كيف ترين تجربة أستاذك محمد الطالبي في فهمه للقرآن ودفاعه عن القرآنيين؟
ــ سيظل القرآن يثير الجدل إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها وما عليها. لا ننسَ أنّ القرآن هو النص المؤسس للحضارة الإسلامية بغضّ النظر عن إيمانك بأن هذا الكتاب هو كتاب اللّه أو اعتقادك بأنه ليس كتاباً إلهياً. في كل الأحوال، لا يمكن أن ننكر تأثير القرآن في بناء المخيال الثقافي والاجتماعي والنفسي للمسلمين لغاية اليوم. عندما أقول المسلمين أعني المسلمين دينياً وثقافياً بأنواعهم وتفرعاتهم. محمد الطالبي ذلك العظيم، ذلك المفكّر العظيم من أروع من قدّم لنا قراءات عميقة ومتنوّعة وفريدة للقرآن، وقلت عندما كان لا يزال على قيد الحياة، إنّه لو كان الطالبي يحيا في بلاد أخرى غير تونس، لو كان مصرياً، أو سورياً، لطبقت شهرته الآفاق. لكن نحن في تونس للأسف لا نقدّر المثقفين ولا نقدّر كتّابنا ولا مفكرينا.
لا يمكن أن ننكر تأثير القرآن في بناء المخيال الثقافي والاجتماعي والنفسي للمسلمين لغاية اليوم


أعتقد أن ما قدّمه الطالبي من خدمة للإسلام في تلك القراءات الدقيقة والعميقة والتي يمكن أن يقرأها في الآن نفسه المختص وغير المختص هو خدمة عظيمة جداً. فما يميز كتابات الطالبي أن لها مستويات في القراءة. إذا كنت من أهل الاختصاص والمعرفة بدقائق القرآن وعلومه ومسائل الشريعة، ستقرأها بمستوى معين. وإن كنت من غير المختصين، ستقرأها بمستوى آخر، وستجد فيها إفادة وإضافة. وأعتقد أن هذا الرجل قدّم الكثير والحمد لله أنه حقّق حلمه في آخر حياته بـ «جمعية الدراسات القرآنية» لأنه كان قرآنياً، وهنا لا بد من توضيح أمر مهم. هذا التوضيح هو أن القرآنيين لا يرفضون الحديث بشكل مطلق، وإنما يقبلون الأحاديث التي تتلاءم مع القرآن ومع العقل. هناك أحاديث كثيرة يقبلها القرآنيون، أي أنهم يعتبرون أن القرآن هو المحك الأساسي الذي يجب أن تعرض عليه الأحاديث، وليسوا نافين مطلقاً لكل الأحاديث.

تطبيق مناهج التحليل النفسي في تفسير القرآن، إلى أي حدّ يمكن اعتباره تحليلاً علمياً؟
ـــ منظور التحليل النفسي له علاقة بشكل ما بمنظور التصوّف ومنظور التجارب الروحانية عموماً، لأن التحليل النفسي هو تجربة، والروحانيات هي تجربة. عندما طلبوا من لاكان تعريف التحليل النفسي، قدّم تعريفاً يقوم على الدور، وهو تعريف عميق جداً. يقول إنّ التحليل النفسي هو المعالجة التي تنتظرها من محلل نفسي، أي لا يمكن أن يُعرّف تعريفاً نظرياً. ولكن في كل الأحوال هذه التجربة لها علاقة بالنفس، والقرآن يخاطب النفس البشرية لأن الإنسان له مستويات ثلاثة: الجسد والنفس والروح.
القرآن يخاطب الإنسان في كليته، لكنه يركّز على الهوية النفسية. لذلك هو قابِل قبولاً منهجياً لأن يُقرأ من منظور التحليل النفسي. وهذا ما شرعت فيه في كتابي «ناقصات عقل ودين». إذ قرأت بعض أحاديث الرسول وبعض الآيات من منظور التحليل النفسي. وهذا ليس خاصاً بالحضارة الإسلامية والقرآن، فـ «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي» مستلهم من كتابين للمحلّلة النفسية الشهيرة فرنسواز دورلتو هما «الأناجيل تحت مجهر التحليل النفسي» و«الإيمان تحت مجهر التحليل النفسي». والشيء نفسه نجده لدى الدارسين للتراث اليهودي أمثال سيبونييه ودرفرمان وغيرهما. فكرة قراءة النصوص الروحانية من منظور التحليل النفسي شائعة في كل أنواع التراث الإسلامي واليهودي والمسيحي.

عدد كبير من المستشرقين اهتموا بالقرآن، كيف تقيّمين قراءاتهم له؟
ــــ هناك الكثير من الباحثين الذين يجدون متعة في انتقاد قراءات المستشرقين للقرآن وللتراث الإسلامي عموماً. أعتقد أنّ ما قام به المستشرقون من خدمة للقراءات القرآنية والدينية والأدبية بصفة عامة هو عمل ضخم. لا يمكن أن ننكر مثلاً أن الشخص الذي رفع الحجاب الفكري عن الحلّاج، هو لوي ماسينيون. هذا مثال. ومنطلق انتقاد المستشرقين الحديث هو الخلط بين القراءات العلمية المعرفية والعلاقات السياسية الاستعمارية بأنواع الاستعمار المختلفة.
صحيح أنّه في بعض الأحيان، يقدم المستشرقون قراءات تخرج عن المألوف للقرآن مثل جاكلين الشابي. لكنّ هذه القراءات هي قراءات عميقة أفاد منها الباحثون في الوطن العربي والبلاد الإسلامية. وفي نهاية الأمر، القرآن هو نفسه كنص متّجه إلى البشرية إلى الناس جميعهم. لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تمنع باحثاً ومفكراً ودارساً من أن يدلي بدلوه ويقدّم رؤيته لهذا النص الحي أبداً الذي هو كالعين المتجددة يمكن أن يشرب منها البشر إلى آخر يوم من أيام الحياة.

هذا أول كتاب لك بالفرنسية، لماذا لم تكتبيه بالعربية؟
فعلاً هذا الكتاب الأول بالفرنسية، بل أكاد أقول إنّه الوحيد لغاية الآن. منطلقه كان ندوة أقيمت في الدار البيضاء عام 2004، حضرها أساطين كبار حول القرآن والتأويل منهم يوسف الصديق، ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون رحمهما الله وغيرهما. استمع محمد أركون للمحاضرة التي قدّمتها. وانطلاقاً منها، كانت له سلسلة جديدة في دار «ألبان ميشال» ترمي إلى تقديم قراءة تنويرية للإسلام وللقرآن. فطلب مني كتابة الكتاب مباشرة باللغة الفرنسية لينشره في فرنسا في إطار مسعى لتقديم الفكر المستنير هناك. ونحن نرى ما يجري في فرنسا اليوم وكيف تمّ استقطاب الفرنسيين في حركات الإرهاب. والحقيقة أنني أتقن الكتابة باللغتين، لكن بصراحة كل لغة لها متعتها ولقائل أن يقول: لماذا لا أكتب بالفرنسية رغم أن الفرنسية لها سوق أكبر. دور النشر ملتزمة جداً والقراء عددهم مرتفع والآفاق أكبر، لكن أتصور أن العرب في حاجة إلى الأقلام التي تكتب بالعربية، وتبقى الترجمة إلى لغات أخرى واردة. ومعظم ما كتبت بالعربية تُرجم إلى الفرنسية أو الإنكليزية. فلغة الكتابة لم تعد هي العنصر الأساسي المميز للنص، ربما في بعض الكتابات الإبداعية أما في النصوص الفكرية فيمكن أن تُترجم. وهذا الكتاب راجعته مراجعة دقيقة بنفسي بعد جهود وليد أحمد الفرشيشي في الترجمة وأرجو أن يجد صداه لدى القارئ العربي.

مشروع التحديث العربي الذي أُسّس منذ القرن التاسع عشر في تراجع، ما هي أسباب هذه الخيبة؟
ـــ التراجع عن مشروع التحديث العربي له سببان برأيي: سبب داخلي يخص المشروع نفسه، وسبب خارجي يخص تدخُّل القوى الأجنبية فيه. السبب الداخلي هو أن المشروع كان في جملته تلفيقياً منذ البدء. لم يكن دخولنا في الحداثة دخولاً جوهرياً. علاقتنا بالحداثة كانت شكلية لجهة ما يسمّيه ريجيس دوبريه الوسائط، أي ظاهر الأمور لكننا لم ننفذ إلى ما تفرضه الحداثة أساساً في مجال الحريات. مثلاً، تونس التي عُدّت في وقت ما بلداً دخل مجال الحداثة، ولا سيما مع النظام البورقيبي واختياراته السياسية، هنالك ما أسمّيه تلفيقاً فيها. أعطي لذلك مثالاً يعرفه كل التونسيين هو شرب الخمر. أحد أبواب الحرية الشخصية الفردية مسموح به في تونس في كل أيام الأسبوع باستثناء يوم الجمعة، وهذا من مظاهر التلفيق. فلا قراءة للواقع بالمعنى الفقهي الذي يمنع الخمر ويجعله مُحرَّماً، وبالتالي يمنع بيعه، ولا قراءة حديثة تجعل الخمر ككل البضائع التي تباع ويكون الإنسان حراً، فما معنى أن لا يباع الخمر يوم الجمعة فقط!
هذا كلام يؤكد على أنّ الحداثة بقيت لدينا حداثة شكلية. أما السبب الخارجي، فليس الأمر إيماناً بنظرية المؤامرة، لكن من يقرأ السياسة العالمية يعرف أن جلّ التطورات والتحولات العالمية كانت وراءها اختيارات دول كبرى، خصوصاً أنّ هذه الاختيارات تتحوّل وتتبدل بتبدّل صاحب النفوذ الأكبر. وهنا نستحضر فيلسوفنا وعالم الاجتماع ابن خلدون عندما تحدّث عن العصبية وعن سقوط الدول. أذكر مثلاً العراق الذي كان سائراً مساراً تحديثياً. لا أتحدَّث هنا عن السياسة ومصطلحات الديمقراطية والديكتاتورية، هذه كلمات ليست مجال المثقف بالضرورة، بل أتحدّث عن المشروع الحداثي الذي كان سائراً في العراق، فإذا بجيوش تأتي في طائرات لتدك دولة ما زالت تعاني من الإرهاب والجوع والتفكيك بدعوى بناء الديمقراطية... بدعوى الإتيان بالحداثة السياسية على الأقل. لكن هذا لم يحصل. بعبارة أخرى أقول بصراحة إنّ وجود اسرائيل في المنطقة وحماية الولايات المتحدة الأميركية لها، لن يسمحا ببناء أي مشروع تحديثي لدى العرب إلا إذا تغيرت موازين القوى في العالم، وهي لعمري متغيّرة بإذن الله وفق ما نراه اليوم من تحوّلات.

منطلق انتقاد المستشرقين هو الخلط بين القراءات العلمية المعرفية والعلاقات السياسية الاستعمارية بأنواع الاستعمار المختلفة


هل تعتقدين أن صعود الإسلاميين إلى الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن، سيكون نكسة حقيقية لمشروع التحديث الهشّ بطبيعته؟
ــــ خلافاً لكثيرين وقد أفاجئ القرّاء، لا أعتقد أن صعود الإسلاميين إلى الحكم تبشير بعصر ظلامي لأن الإسلاميين عندما يكونون خارج الحكم، هم أخطر ليس فقط من منظور عام وشامل. فالمعلوم أن من هو خارج الحكم سواء في البلدان العربية أو سواها من البلدان، يكون أعمق وأكبر. ولكن لأنّ الإسلاميين بالذات بارعون براعةً كبيرة في لعب دور الضحية، واستدرار عطف الناس وتقديم أنفسهم على أنهم عانوا من الاستبداد والويلات ومن التعدي على دينهم، وهذا اللعب على العواطف والانفعالات المتصلة بالظلم المفترض والمتصل بابتعاد الناس عن الدين وعن التقاليد وبمهاجمة الحداثة والحداثيين لأنهم يعادون الدين... هذا اللعب على العواطف لا يكون ناجعاً ولا يكون تأثيره كبيراً إلا إذا كان الإنسان في المعارضة. فأنت عندما تكون في السلطة، مطالب بأن تحكم وتعطي نتائج محسوسة وملموسة. وهذا ما فشل الإسلاميون فيه في مصر مثلاً. لذلك جاء إبعادهم عن السلطة بسرعة، بغضّ الطرف عن موقفنا من تدخل الجيش المصري. فخروج ثلاثين مليون مصري احتجاجاً على حكم محمد مرسي أمر جلل. لم نر هذا في كثير من بلدان العالم، وصور المصريين في الساحات ستظل عالقة في ذاكرة التاريخ. الشيء نفسه في تونس، لكنّ الإسلاميين في بلادنا كانوا أذكى وسمعوا النصيحة بالاختفاء وراء حزب أو شخص يحكم بدلاً عنهم. لكن هل سيدوم هذا؟ الناس في تونس اليوم ملّوا خطابات الإسلاميين البكّاءة. لم يعودوا يتعاطفون معهم عموماً. طبعاً، أنا لا أتحدث عن قواعدهم، وكل حزب له قواعده، لكن عموماً الناس ملّوا خطابهم بعدما اكتشفوا أنّ الإسلاميين عاجزون عن بناء أي مستشفى، عاجزين عن توفير لقمة العيش، وتحقيق المساواة والعدالة، ويتعاملون بناءً على المحسوبية وتفليس الدولة وتدمير المكتسبات الوطنية. هنا انكشف الأمر.
وجود الإسلاميين في السلطة هو أفضل طريق لكشف الإسلاميين. لذلك لا أرى مستقبل العالم العربي مظلماً وظلامياً، بل على العكس، لكن على الشعوب العربية أن تعمل بنفسها على تحسين أوضاعها، لأن الخارج لا يريد لنا الخير وبعض الحكام المتواطئين مع الخارج الذين يدفعون جزية بشكل ما للدول العظمى، هم أنفسهم لا يريدون الخير. على العربي وحده أن يبني وأن ينحت مصيره بيده.

كيف تصنّف ألفة يوسف نفسها؟ هل تعتبرين نفسك مفكّرة أم مجتهدة في تفسير القرآن أم أكاديمية تقدّم دروساً للطلبة؟
ـــ التسميات لا تعنيني كثيراً. بعضهم يقول إنّه لا علاقة لي بالبعد الأكاديمي رغم انتمائي إلى الجامعة التونسية، إنما أنا مصلحة دينية، هذا كله لا يعنيني. ما يعنيني هو أني أدرس الإسلام أو أتعامل مع الإسلام من داخل المنظومة الدينية. ما يعنيني هو أني من الباحثات اللواتي قررن انتماءهن إلى هذا الدين وانفتاحهن في الآن نفسه على جميع التقاليد الروحية. ما قمت به في علاقتي بالقرآن والسنة والتراث الإسلامي عموماً، مرّ بمراحل متعددة. كانت هناك مرحلة القراءة اللسانية التي تعتمد على الهرمنيوطيقا والتأويلية وتعدد المعاني وتحاول من خلال النص تبيان الإمكانات التأويلية القائمة فيه بالقوة. إمكانات أخرج المفسرون بعضها إلى الفعل، وبقي البعض الآخر كامناً في أحشاء هذا النص المعجم وهو القرآن. باحثة تحاول في الآن نفسه الكشف عن إمكانات أو قراءات تأويلية ذكرها القدامى، لكن تمّ محوها أو طمسها في مقابل تأويل آخر انتصاراً لمذهب أو تيار سياسي...
ثم جاءت المرحلة التي اعتمدت فيها على منهج التحليل النفسي لقراءة النصوص الدينية، وطبعاً التأويل مناهج متعددة. مناهج التحليل النفسي على أساس المعنى الأصلي الغائب الذي أتصوره في اللوح المحفوظ. وهذا المعنى الأصلي الذي لا يمكن أن ننفذ إليه، له تجلّيات نسبية من خلال القراءات البشرية المتعددة للمعاني، ثم المرحلة الأخيرة وأتصور أنّها ستكون الأخيرة فعلاً هي مرحلة البعد الصوفي الذي بدأ من خلال كتاب «شوق ...» الذي يقدم قراءة روحانية في أركان الإسلام الذي يتحسن شيئاً فشيئاً، مؤكداً على التراث الصوفي الإسلامي الذي وقع تجاهله ووقع تفضيل التراث الفقهي في حين أن كليهما ضروري في بناء الثقافة العربية الإسلامية، لكن المخيال اتجه إلى قراءة الدين فقط من خلال القوانين والأحكام وصفات أوصلتنا إلى ما نحن عليه من تقابل من ادّعائنا الانتماء إلى الدين الإسلامي من جهة، وضمور البعد الأخلاقي والروحاني في ثقافتنا... هذا البعد الصوفي. شرعت في الكتابة فيه وسيكون مجالاً للكثير من الأبحاث المقبلة.

هناك شبه إجماع حول تراجع مستوى التعليم في الوطن العربي، وهذا سبب رئيس في السقوط القيمي الذي نعيشه. هل ترين هذا كجامعية؟
ــــ التعليم في الوطن العربي اليوم يحتاج إلى رغبة فعلية حقيقية في الإصلاح. ما قلته عن الثقافة في إجابتي عن السؤال السابق، ينطبق على التعليم. عندما تصبح خصخصة التعليم هي الهدف الأسمى للدول، وتتخلّى الدولة عن دورها في رعاية الثقافة والتعليم وصحة المواطن، عندها نصبح في إطار غابة من له المال يمكن أن يداوي نفسه، ويعلم أبناءه في مدارس معترف بها وذات قيمة، ومن لا يمتلك المال يلجأ إلى التعليم العمومي الذي يصبح بلا قيمة مثلما يجري في تونس اليوم. أؤكد لكم اليوم أن مستوى التعليم بلغ الحضيض. لنبدأ باللغة: تقريباً كل الأساتذة وبالتالي جل الطلبة لا يتقنون أي لغة. الأخطاء ملأت الفضاء التعليمي. المناهج أصبحت غير مدروسة. الأستاذ يقدّم دروسه انطلاقاً من الـ«ويكيبيديا»، والإنترنت أصبح هو المدرّس. وهذا قاله فيلسوف فرنسي بأنّه لم يعد هناك مجال للنقل، لم يعد هناك شيء يُنقل. من الطبيعي بالنسبة إلى الطالب عندما تحدثه عن الرومنطيقية، أن يضغط على الإنترنت، فيقرأ ما اتفق على تسميته بالرومنطيقية، وهنا مشكلة أخرى لأنّ ما يكتب في الإنترنت ليس كله ذا قيمة معرفية أو أكاديمية. هنا يأتي دور الأستاذ الذي يجب أن يغربل ويعلم الطالب الفكر النقدي. ليس من المعقول أن نحافظ على المناهج التي درسنا بها قبل ثلاثين عاماً، وفي إطار هذه الثورة المعلوماتية الهائلة التي قلبت كياننا سواء وعينا بذلك أم لم نع. دور الأستاذ اليوم هو غربلة ما ينشر على الإنترنت وتعميقه، وقراءة الكتب الورقية أو الرقمية، وتبيان المقال الجيد العلمي عوضاً عن المقالات الفاقدة لأي قيمة معرفية. هذا دور الأستاذ، لكن للأسف لا يقوم بهذا الدور لأنه هو نفسه مأخوذ بالدوامة الرقمية. عوضاً عن ذلك، تضطر للتوجّه إلى المدارس الخاصة حيث الأساتذة مجبرون على تقديم تعليم جيد ونوعي لأنهم يقبضون مقابلاً. لذلك يجب على الدولة أن تتحمّل مسؤوليتها لا أن تتخلّى عنها مثلما تريد العولمة.

تعيشين منذ عام 2013 محنة التهديد بالقتل، كيف تعيشين هذه التجربة؟
ـــ التهديد بالقتل ربما يُعد محنة من المنظور العقلاني الشائع الظاهر، لكنني أراه دافعاً لكي أواصل القيام بما كتب عليّ من دور لأن لا أحد في منأى عن الموت في أي لحظة. كلنا فانون. جوهر البشر أنهم كائنات جنسانية فانية. وفي نهاية الأمر سواء كان الموت برصاصة أو حادث سيارة أو مرض أو شيخوخة، فإنّه ملاقينا كما يقول الله تعالى في القرآن. هذه التجربة علّمتني الكثير. علمتني أن أزيد تسليماً بالله وإيماناً بالقدر، وأن أتذكر أو أسعى إلى التذكر في كل لحظة بأنّ الحياة غير دائمة، وأنّ واجبنا أن نحاول القيام بوظيفتنا على أكمل وجه قدر الإمكان.



القرآن تحت مجهر التحليل النفسي
في عام 2007، صدر «القرآن تحت مجهر التحليل النفسي» في باريس في عام 2007 عن دار Albin Michel. وجاء عنوانه بالفرنسية: Le Coran au risque de la psychanalyse. وفي تقديمها لكتابها، تقول ألفة يوسف إنّ ما دفعها لتأليف هذا الكتاب مسألتان: المسألة الأولى تتمثل في الأعمال الإرهابية الهمجية والوحشية المرتكبة باسم الإسلام والثانية تتعلّق بالحطّ من شأن المرأة وممارسة العنف ضدّها باسم الدين.
الكتاب إذن انتصار للمرأة وانتصار للإسلام من خلال القرآن الذي تعتبره المرجع الوحيد الذي يمكن أن يسائله أي مسلم لنفسه، وهو يرى تشريعات البلدان الإسلامية مختلفة وتأويلات القرآن كذلك. تتخذ ألفة يوسف من منع تعدد الزوجات مثالاً على تعدّد قراءات القرآن، وهو موضوع أطروحتها الجامعية التي قدّمتها قبل سنوات في «كلية الآداب والفنون والإنسانيات» في منوبة.
وتلخّص يوسف هدف هذا الكتاب بقولها: «لا تمتّ غاية هذا الكتاب بصلة إلى ما يشبه الوصول إلى يقين عقلاني؛ إنما هو ينشد أن يتسلل شوق الفرد (le désir de l›individu) وآفاق طمأنينته بين شقوق التفاسير الاجتماعية الجامدة للقرآن».
صدر الكتاب في ثلاثة أبواب وهي: «التباس المعنى في القرآن»، و«في البحث عن معنى القرآن المفقود»، و«قراءات القرآن قراءات الشوق». وفي كل فصل من هذه الفصول الثلاثة، تتناول مجموعة من المفاهيم والقضايا المثيرة للاختلاف والتأويل مثل الحجاب، وتحريم الخمر، وزواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المرأة من رجل واحد والميراث.
كما اهتمت بتاريخية القرآن وما وراء الآيات والموت والبعث…. وقد كانت مناهج ومفاهيم التحليل النفسي هي الخلفية التي اعتمدتها ألفة يوسف في كتابها. وتقول عن الموت في هذا السياق: «إن موت الآخر هو صورة الموت البيولوجي الوحيدة التي يمكن أن نتحدث عنها، فنحن نواجه طيلة حياتنا موت أشخاص عرفناهم. وما يميز موت الآخر هو توقف أنشطته الحيوية وتحوّل وجهه إلى قناع خالٍ من التعبير، على أن أكثر ما يميز الآخر هو الصمت ولا نعني بالصمت التوقّف عن الكلام، بل غياب إمكانية الكلام».