بعد حوالى ثلاثين عاماً على صدور طبعته الفرنسية، صدرت الترجمة العربية لكتاب عالمة الاجتماع بدرة بشير «عناصر من الحدث المسرحي في البلاد التونسية» (ترجمة محمد المديوني (معهد تونس للترجمة/ وزارة الثقافة و«دار محمد علي»). يعتبر هذا الكتاب مرجعاً كانت تفتقده الدراسات حول المسرح التونسي من منطلقات سوسيولوجية. فبدرة بشير هي من الجيل المؤسس لعلم الاجتماع في الجامعة التونسية، «انتمت إلى الجيل الثاني من المختصين التونسيين في علم الاجتماع، فلعبت مع رفاقها دوراً لا يستهان به في ترسيخ ما أسّسه روّاد السوسيولوجيا في الجامعة التونسية الناشئة بعيد الاستقلال»، وفق ما أورد المديوني في مقدمة الكتاب.

يمثّل الكتاب رحلة في ذاكرة المسرح التونسي منذ بداياته مطلع القرن العشرين، سيما منذ تأسيس فرقة بلدية تونس للتمثيل والفرق المحلية بعد استقلال البلاد في 1956وخطاب الزعيم الحبيب بورقيبة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1962 الذي سطّر فيه سياسة الدولة في المجال الثقافي والدور الذي يجب أن يقوم به المسرح في تثبيت سياستها الرسمية. في هذا المجال، تقول الباحثة: «تمثّل الثقافة في نظر المسؤول السياسي، قبل أي شيء، وسيلة للمراقبة الاجتماعية، وتتوجّه عناية المثقف بالخصوص نحو الامتدادات الإيديولوجية للمفهوم». وتضيف: «أما الفترة الأولى، فتتمثل في تبني مفهوم بورقيبة للمسرح وتطبيقه تطبيقاً وفياً. وأما الفترة الثانية، فترافق تراجعاً مقارنة بانطلاق المبادرة الأولى. أما الفترة الثالثة فقامت على إغناء للفكرة في صورتها الأولى».
وتناولت الباحثة دراسة إنتاج فرقة مدينة تونس للتمثيل والفرق المحلية في جندوبة وسوسة وصفاقس وقفصة والقيروان والكاف والمهدية ونابل. كما اهتمت بالمسرح الجديد (فاضل الجعايبي، فاضل الجزيري، محمد إدريس، جليلة بكار…) والمسرح العضوي (عز الدين قنون)، ومسرح فو (رجاء بن عمار ومنصف الصايم) والمسرح المثلث (الحبيب شبيل) والمسرح الوطني، ومسرح المغرب العربي، وفرقة سنمار (توفيق الجبالي) وفرقة السنابل، وفرقة «الديدحانة»، ومسرح الأرض (نور الدين الورغي)
وقسّمت الكتاب إلى أربعة فصول كبرى هي: الأول «عناصر من الحدث المسرحي في البلاد التونسية»، اهتمّت فيه بـ«تأسيس» الخطاب الرسمي و«ثوابت النظرة الثقافية الرسمية» و«الأبعاد الثابتة والمتعدّدة للمسرح في الإيديولوجيا الرسمية» و«حدود الإيديولوجيا الرسمية وحدود المنجزات في المجال المسرحي». كما اهتمت في هذا الفصل بـ«القمع الثقافي في سنوات السبعين»، إذ شدّدت السلطة الرقابة على المسرح التونسي وتم منع العديد من المسرحيات من العرض أمام الجمهور.
فرقة «المسرح الجديد» قطعت مع الممنوعات القائمة في الثقافة العربية الإسلامية


أما في الفصل الثاني (نماذج ثقافية جديدة وعراقيل أمام الطاقة الإبداعية: وضعية رجل المسرح في البلاد التونسية)، فاهتمّت فيه بالوضعية الهشة للممثل والفنان في المجتمع التونسي، والعراقيل القائمة أمام الانتاج المسرحي، وعلاقة الفنان والسلطة، من خلال عينة من الممثلين. واهتمت في الفصل الثالث بمجموعة من الاشكاليات المتعلقة بالمسرح العربي والممارسة المسرحية في مجتمع عربي إسلامي، مثل المسرح والتفكير والتبعات الإيديولوجية لإشكالية المسرح في المجتمع العربي الإسلامي، والمسرح واستعادة التراث، والبحث عن الهوية، ورفض الخطاب الاستشراقي. وفي السياق نفسه، قدّمت بيبليوغرافيا حول إنجازات المسرح التونسي بين سنتي 1970 و1981في الجامعة التونسية.
أما في الفصل الرابع الذي سمّته «أشكال التعبير المسرحي والتغيّر الاجتماعي في البلاد التونسية»، فاهتمت فيه بتجربة «المسرح الجديد» الذي تقول عنه «لقد ألحّ هذا المسرح بصورة خاصة على منظومة القيم الخاصة بالبورجوازية الجديدة. كل شخصية من الشخصيات تمثل شكلاً من النجاح الاجتماعي». وتضيف: «غالباً ما يبدو القطع مع الممنوعات القائمة في الثقافة العربية الاسلامية في نظر «المسرح الجديد» فعلاً محرّراً مقارنة بالأخلاق المعهودة، وغالباً ما يتجلّى ذلك في شخصية السكّير الذي يتحوّل من خلال لجوئه إلى الكحول إلى شخصية حقّة». وأضاءت في هذا الفصل أيضاً على تجربة عز الدين المدني في تناوله للتراث، مثل شخصية الحلاّج، وشخصية صاحب الحمار في سياق الشخصيات المثلى في التاريخ، والتمرد الناجم عن الوعي الجمعي العربي الاسلامي، والصورة التراجيدية للذات العربية.
وتعتبر بدرة بشير أنه منذ انقلاب الجنرال زين العابدين بن علي على الزعيم الحبيب بورقيبة الذي عرف بولعه الكبير بالمسرح، لم تشهد تونس تجارب مسرحية مهمة خارج ما تناولته الباحثة بين 1985و1990، وهو الإطار التاريخي لبحثها لكنها تركت الباب مفتوحاً. وعرفت تونس خلال السنوات الثلاثين التي لم يتناولها الكتاب مجموعة من التجارب المتفاوتة الأهمية، كان وراءها متخرّجو «المعهد العالي للفن المسرحي»، إضافة إلى الفرق المستقلة التي تجاوز عددها 250 تحصل على دعم مالي من وزارة الثقافة إلى جانب الفضاءات المستقلة التي انتشرت في البلاد بعد «14 جانفي» 2011.
ورغم هذا الكم الكبير للمؤسسات المسرحية، ما زالت الأعمال الجادة قليلة بعدما صمت محمد إدريس، وتوجّه فاضل الجزيري إلى أشكال أخرى من الفرجة، ووفاة رجاء بن عمار ومنصف السويسي وعز الدين قنون… فمن «الكبار» لم يبق إلا الجعايبي وتوفيق الجبالي ومنصف الصايم ونور الدين الورغي، في حين يبحث الجيل الجديد عن صورته.