كان رالف دوتلي يمتطي دراجته الهوائية على طريق محاط بالزهور كعادته كل يوم، حين استوقفه عند سور السياج الشائك صاحب منحلة في حديثٍ عابر. لكن القصة لم تنته هنا، إذ انخرط الشاعر السويسري بكل ما يتعلّق تاريخياً بـ «دولة النحل». بعد جولات متعددة تراكم على مكتبه ملف ضخم أشبه بقرص العسل، ليتحوّل لاحقاً إلى كتابٍ كامل بعنوان «أغنية العسل: تاريخ ثقافة النحل». في النسخة العربية التي قام بترجمتها الياس حاجوج، وصدرت أخيراً عن «دار كنعان»، سنتعرّف إلى هذا العالم الغرائبي الذي ينطوي على أسرارٍ مثيرة: «إن ما يجعل النحّالين أشد غرابة وإغواء للمخيلة هو أن عملهم لا يزال على حاله منذ خمسة آلاف سنة، فيما بدا النحّالون بلباسهم الواقي الغريب أشبه برواد الفضاء، وكأنهم رسل من زمنٍ غابر، هبطوا من كوكبٍ آخر».

يقتفي رالف دوتلي تاريخ النحل مفتتحاً الملف بالنحلة الملكية التي هي أول من تفقّس من بين ست إلى ثماني منافسات، بعد 16 يوماً، ثم تنقضُّ على خلايا الملكات الأخريات، فتكسرها وتلسع منافساتها حتى الموت. هكذا تستهلّ حياتها بجريمة قتل (إنها دراما ملكية كتلك التي ابتكرها شكسبير في «ليدي ماكبث» التي لا تعرف أي روادع حينما يتعلّق الأمر بالسلطة) يقول. لا تغادر الملكة خلية النحل سوى مرتين. أولاهما بعد أسبوع واحد من فقسها استعداداً لـ «طيران زفافها المهيب»: ذكور نحل هائجة في الفضاء تقوم بتلقيحها معاً، لضمان التنوع الوراثي في خلية النحل. من مطلع الربيع إلى بداية الخريف، تضع الملكة نحو 1500 بيضة يومياً، ما يعادل نصف مليون بيضة، كما لو أنها آلة تكاثر جبّارة بمبايض فائقة الفعالية.
كل شعر الحب والغرام الهندي يقوم على تبجيل النحل والعسل


في الصيف تغادر الملكة القديمة مخدعها نحو مسكنٍ آخر لمصلحة خليفتها. أما ذكر النحل، فما إن ينجز مهمته في التلقيح حتى ينفجر جسده في الهواء، في عمليات قتل واغتيال مخيفة. على المقلب الآخر، سنكتشف أن نحلة العسل بمثابة صيدلية طائرة بوصفات علاجية متعددة، حتى أن كل شعر الحب والغرام الهندي يقوم على تبجيل النحل والعسل. وفي الأساطير الفرعونية، حينما يبكي إله الشمس رع يولد النحل من دموعه، كما سيستخدم الشمع والعسل في مواد التحنيط بخواصه المضادة للجراثيم. وسيأمر الاسكندر الكبير، وهو على فراش الموت، بأن يُدفن في العسل للحفاظ على جثمانه من التعفن. في الكتب المقدسة، سيحضر العسل كرمز لحلاوة الحقيقة الإلهية، واستعارة شهوانية لمسرّات الحب. يسوع المسيح نحلة، والعذراء مريم خلية نحل. وسيطعّم فيرجيل قصائده بالعسل «الآن أتغنّى بهبة السماء، بالعسل الذي يقطر من الهواء». من جهته، يشبّه أفلاطون الشعراء بالنحل، وشعرهم بالعسل، قبل أن يستبعدهم من مدينته الفاضلة بوصفهم أشخاصاً غير موثوقين ومنغمسين في اللامعقول. أما لوركا، فسيشبّه نفسه بالنحلة، وسيصف ريلكه الشعراء بأنهم «نحل اللامرئي»، أولئك الذين يحوّلون الملموس إلى ذبذبة وإثارة أعلى قيمة «نحن نحل اللامرئي: بطاقة تعريف شعرية سارية المفعول دوماً. بطاقة زيارة ماورائية للشعراء». بالنسبة لشاعرة متشككة مثل إيميلي ديكنسون، ستجد في مملكة النحل ما يشبه عزلتها الأبدية، إذ لم تغادر منزلها طوال خمسين عاماً، أبعد من الحديقة «ليتني في ارتحال لا نهاية له/ مثل النحلة في العشب/ أحلُّ ضيفةً حيثما يطيب لي/ وما من أحد يزورني». وها هي الشاعرة الاميركية سيلفيا بلاث التي انتهت منتحرة في الثلاثين من عمرها، تخضع لدورة تعليمية في كيفية تربية النحل، وستكتب نحو أربع قصائد في تمجيد هذه الكائنات العجيبة «أنا الآن أُزهرُ حريراً بصلياً. لا تشعر النحلات بي. لن تشتمُ خوفي، خوفي، خوفي». في مسلكٍ آخر، سيطيح نابليون نسر الإمبراطورية القديمة، ويستبدله بزنبقة بيضاء على هيئة نحلة موشاة بالذهب تزيّن رداءه الملكي، ثم سجّاداته، وأواني مطبخه، ونقوده المعدنية إلى أن انتهى حكم هذه العائلة. في مطلع القرن العشرين، سينجز موريس ميترلنك كتابه الملهم «حياة النحل» الذي يفيض بالشعرية العالية، وتلاه جان هنري فارب في أبحاثه المتخصصة في تشريح غريزة وسلوك الحشرات، الأبحاث التي فتنت الأدباء، فقد وصفه فيكتور هوغو بأنه «هوميروس الحشرات». ورشحه مارسيل بروست وأندريه جيد لجائزة نوبل في الأدب عن كتابه «مذكرات باحث حشرات» بوصفه فيلسوفاً وشاعراً وفناناً. ذلك أن الافتتان بدولة النحل ينطوي على دعوة إلى العمل والعقلانية، على عكس دولة النمل التي تستدعي نظام الدولة الشمولية. في فيلم «مربي النحل» للمخرج تيو أنجيلوبولوس نلتقي مارسيلو ماستروياني مدرس الابتدائي المسنّ الذي يعيش وحيداً في شمال اليونان، يقود شاحنته المحمّلة بخلايا النحل نحو أزهار الجنوب، وفي عملٍ تدميري أعمى يقلب خلايا نحله، وتلسعه الحشرات الهائجة المثارة حتى الموت: «إنه انتحار متعمّد باختيار الرجل المسنّ تربية النحل مهنة عائلته منذ أجيال، وسيلة لوداع الحياة التي أضحت بلا معنى». في زيارته المتأخرة للنحّال الذي ألهمه فكرة كتابه، لم يجد رالف دوتلي المنحلة ولا صاحبها، فقد غادر إلى وطنه الأصلي، وهنا يتساءل: «هل تحوّل إلى نحلة وطار بعيداً؟»، ففي الاعتقاد الشعبي للاستراليين أن نفوس البشر تغادر الدنيا في هيئة نحلات تطير من فم الميت، وتحلّق صاعدة إلى النور.
يختم هذا الكاتب المفتون باللذة كتابه بملحق يشتمل على مختارات من قصائد النحل المكتوبة من تاريخ ما بعد الميلاد بقليل إلى اليوم بتواقيع بول فاليري، وبابلو نيرودا، ولوركا، وسيلفيا بلاث، وآخرين.