يمكن اعتبار ابتسام الوسلاتي أصغر الباحثات التونسيات. على عكس جيلها، اختارت دراسة الأدب التونسي في مرحلته التأسيسية بداية القرن العشرين التي شهدت ظهور شعراء سعوا إلى تجديد الأدب. فترة شهدت ولادة أول رواية تونسية كما «مجموعة تحت السور» التي شكّلت تمرداً على السياق الثقافي التقليدي سواء في الكتابة أو في نمط العيش. كتابها الأوّل كان حول الشعر التونسي («في الشعر العصري التونسي (1900-1930» ـ صدر عام 2007). وفي السياق نفسه، أصدرت في العام الماضي كتاباً مرجعياً بعنوان «الهامشية في الأدب التونسي: جماعة تحت السور نموذجاً». عملها الثالث صدر قبل أيام بعنوان «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيل» ( دار الجنوب). وكانت ابتسام الوسلاتي قد افتتحت مسيرتها العلمية ببحث ماجستير حول مظاهر الجدة في الشعر التونسي. الهاجس الذي يقود هذه الباحثة الشابة هو الحفر في المدونة الأدبية التونسية باعتماد مناهج النقد المقارن بحثاً عن مظاهر التجديد في الأدب التونسي. مبحث لا يُقبل عليه الجامعيون، خصوصاً الشباب المفتونين بدراسة السرد والاسلام المبكر وغيرهما من المباحث ذات الصلة. هكذا تبدو ابتسام الوسلاتي كطائر يغرّد خارج السرب ويسبح في المياه النادرة. على سبيل المثال، فـ «جماعة تحت السور» التي جمعت بين «هامشيين» تمرّدوا على السلطة الرمزية لـ «جامع الزيتونة» في الثلاثينات سواء في طريقة الكتابة وبناء النص أو التمرد على المجتمع المحافظ والتقليدي، أسهمت بشكل كبير في المسرح والقصة والصحافة (من أبرز أعلامها محمود بيرم التونسي). ورغم اسهامها في تطوير وتجديد الأدب والصحافة، لم تحظَ إلا بدراسة سطحية لم تنجح في إبراز دور هذه الجماعة في تاريخ الأدب التونسي. تصدّت ابتسام الوسلاتي لهذا النسيان والتجاهل الذي لحق بـ «مجموعة تحت السور» بكتاب أنصفهم وأبرز إسهاماتهم الكبيرة. اعتبرت ابتسام الوسلاتي أن هذا التوجه النقدي الذي اختارته هو محاولة لإنصاف لـ «جماعة تحت السور» ولمحمود بيرم التونسي. وبهذا تكون هذه الباحثة الشابة اختارت مسلكاً صعباً في الجامعة التونسية، فالأدب التونسي، وخاصة في مرحلته التأسيسية، لا يلقى إقبالاً كبيراً ولا اهتماماً. هنا لقاء مع الباحثة حول عملها الجديد ومحمود بيرم التونسي ودوره في «جماعة تحت السور».
ما هي خصائص التجربة الإبداعيّة لبيرم التونسي (1893 ــــ 1961) في السنوات التي قضاها في تونس؟
ـــ لقد أمضى محمود بيرم التونسي في تونس فترة لا تتجاوز خمس سنوات اتسمت بغزارة الإنتاج وبمشاركته في مختلف الأحداث الثّقافيّة التي عرفتها تونس خلال ثلاثينات القرن العشرين. اكتسب إنتاجه الإبداعي خصوصيّة خلال تلك الفترة مردُها قدرته على التغلغل في أعماق المجتمع التونسي حتّى يخيّل للمتلقي أنّ بيرم ولد وعاش في هذا البلد ولم يفارقه قط. وإنّ جلّ آثاره النثريّة والشعريّة والزّجليّة وحتّى ملزوماته التّي كان ينظمها بالعامية التّونسيّة كانت تؤكد اصطباغ تجربته الإبداعيّة الثريّة في السنوات التي قضاها في تونس بخصوصيّة المجتمع التونسي خلال الثلاثينات من القرن العشرين، إذ عكست شواغله وتطلعاته وعبّرت عن هموم المرحلة.
وقد تميّزت تجربته أيضاً بتنوع الأجناس التي كتب فيها. فقد مارس النشاط الصحافي وأسهم بمقالاته في النهوض بالصحافة التونسيّة التي أخذت تتطوّر في تلك السنوات. وقد يفسر ذلك بتمرّسه بالميدان الصحافي، إذ سبق أن كانت له تجربة صحافيّة في مصر، وقد لعب دوراً فاعلاً في تطوير الصحافة الفكاهيّة. كما أضفى على الجرائد التي ترأس تحريرها أو أسهم فيها أو أصدرها، مسحةً ثقافيّةً، وغدا من أبرز اهتماماتها الشّعر والنّثر والمسرح والنّقد، وحوّلها إلى واجهة لاستعراض التّجارب الجديدة. لقد دعّم حركات التجديد الفنّي والأدبيّ والسّياسيّ، وكان وفيّاً للمبادئ التي ناضل من أجلها وتحمّل في سبيلها مرارة النفي والغربة، واتّجهت كتاباته صوب النقد والإصلاح. وهذا نابعٌ من التزامه بقضايا المجتمع العربي. لا فرق في ذلك بين المجتمع المصري أو المجتمع التونسي، فكلّنا في الهم شرق كما قال الشاعر أحمد شوقي. كان مؤمناً بأنّ الدور الحقيقي للمثقف يتمثل في تطوير المجتمع وطرح الأفكار التي تسهم في إحداث تحوّل إيجابيّ في حياة النّاس فترتقي بوعيهم وسلوكهم العامّ، ممّا يدفع باتجاه عملية تنمية شاملة على كافّة مستويات الحياة، إضافة إلى تعزيز الروح الوطنيّة وتشكيل حالة من التفاعل المجتمعي. فالمثقف هو ضمير المجتمع على حد عبارة محمد عابد الجابري. وقد توجهت مقالاته وقصائده وأزجاله ومعارضاته وحوارياته وقصصه التي كتبها في تونس، إلى تسليط الضوء على المواضيع المهمّشة التي تسببت في تأخّر المجتمع التونسي وتخلّفه عن مسايرة ركب التطوّر والحداثة. وكانت السِمة الغالبة على مختلف أعماله، تتمثل في تونسة مواضيعه بشكل خلق لبيرم قاعدة جماهيرية عريضة في صفوف التونسيين.
أهمّ خصوصيات مرحلة الثلاثينات أنّ الصحافة كانت وعاء احتضن الإنتاج الأدبي للمبدعين


بماذا تفسّرين عدم تعاطي بيرم مع فنانين تونسيين رغم أنّ «جماعة تحت السور» ضمّت فنانين أمثال الهادي الجويني والصادق ثريا؟
ـــ لا أملك تفسيراً دقيقاً للأمر، ولكن بالعودة إلى حضور بيرم في المشهد الثقافي التونسي، نلاحظ أنّ نشاطه الصحافي كان الأبرز، بخاصّة أنّه كان المصدر الوحيد للدخل. وتشير المراجع إلى أنّه بعد انقطاعه عن جريدة «الزّمان»، دخل في بطالة واقتصر نشاطه على مراسلة بعض الصحف المصريّة وخوض غمار مشاريع تجاريّة فاشلة كإعداده حلويّات يلدز التركيّة. ولم تقع الإشارة إلى مشاركة بيرم في النشاط الفني سواء الأغنية أو المسرح. وقد يفسر ذلك أيضاً بقصر مدّة إقامته في تونس.

أي تأثير لتجربة المنفى في المسار الإبداعي لبيرم التونسي عند عودته إلى مصر؟
ــــ بالعودة إلى سيرة حياة بيرم، نجد أنّه أخلص للفنّ والإبداع ولم يرضَ عنهما بديلاً ولا عوضاً. تحمّل في سبيل ذلك النفي والتشرد، وقضى أجمل سنوات العمر في الغربة، فقد آمن أنّ الأدب رسالة يجب أن يؤديها، وكانت الغربة الضريبة التي دفعها نتيجة مواقفه الجريئة. فقد انتمى بيرم إلى الفئة التي تلعب أدواراً طلائعيّة في المجتمع وتحتل أدوار القيادة باعتبارها مجموعة من العقول النابضة داخل المجتمعات تفرض نفسها بما تملكه من وعي. فكانت حياة هذا المبدع سفراً من منفى إلى منفى. عاش حياته على وقع الغربة، التي فرضت عليه فرضاً، ولم يكن يملك من أمره شيئاً، ولكنّها لم تولّد في داخله شعوراً بالاغتراب بمعناه الوجودي بوصفه حالة من العزلة واليأس والإحساس بالعجز والانفصال عن الذات وعن الآخرين بقدر ما شكّلت الغربة عنده دافعاً للاندماج في المجتمع والمشاركة في عمليّة التغيير.
صهرت تجربة المنفى شخصيّة بيرم، هذا ما وسم كتاباته بطابع النقد الاجتماعي والدعوة إلى الرقيّ حتّى آخر رمق في حياته التي قامت على النضال والكفاح في سبيل الدفاع عن العدل والحريّة، فقد انتصر للشعب وناصر قضاياه العادلة. وبعد عودته للاستقرار نهائياً في مصر، واصل المسار ذاته وإنّ مذكراته التي كتبها في آخر حياته تؤكد حجم المعاناة التي عاشها في منفاه فقد تجرّع مرارة العذاب والشقاء بسبب مواقفه المندّدة بالظلم والطغيان، كلّ هذا طبع إنتاجه بعد عودته إلى مصر بطابع الجدّة والطرافة حيث واصل الخط ذاته المتعلق بالنقد الاجتماعي من خلال مقالاته الصحافيّة والمسرحيّات الغنائيّة. كما كانت له إسهامات عديدة في كتابة الأغاني. ولتجربة المنفى دور أساسي في تغذية موهبة بيرم الاستثنائية، فقد شكّلت الكتابة سبيله للمقاومة والنضال ضدّ المستعمر والتيارات الرجعيّة التي تعرقل مسار المجتمعات العربيّة نحو التطوّر.

يندرج كتابك «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيّل» في سياق دراسة الصورة الأدبيّة للآخر. ما هي خصوصيّة تشكّل صورة الأنا والآخر في الآثار التي كتبها محمود بيرم التونسي في المنفى الفرنسي؟
ــــ لقد حاولنا من خلال هذا الكتاب تقديم مقاربة جديدة لآثار بيرم التي كتبها في المنفى من خلال تسليط الضوء على أبعاد العلاقة بين الأنا والآخر من منظور مقارنيّ. فقد طُرح موضوع الأنا والآخر على اعتبار أنّه قضيّة أدبيّة بامتياز، ومحور جوهريّ مصوّر لطبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، وقد ارتأينا مقاربة هذه العلاقة بين الأنا والآخر بالعودة إلى خصوصيّة حضورها لدى هذا المبدع. فقد كان بيرم منخرطاً في سياق رؤية تؤمن بالحوار والتعايش السلمي بين الأنا والآخر، بعيداً عن التعصب والكراهية وقتل الآخر المختلف، والترويج لمقولات الآخر العدو الذي يُصوَّر كخطر يهدد وجودنا، لذلك لا بد من القضاء عليه.
إنّ الناظر في طبيعة السياق التاريخي خلال نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، يلاحظ أنّ هذه المرحلة تميّزت بتنوع استجابات المفكرين العرب للفكر الغربيّ، وطرح سؤال متعلّق بالنهضة وبطبيعة علاقة الأنا العربيّ بالآخر الغربيّ فكراً وتاريخاً وثقافة وحضارة. لم ينخرط بيرم في موقف عدائي من الحضارة الغربية، بل اتّخذ مسافة نقديّة جعلته يعي الفروقات الكامنة بين طبيعة السّياق الذي نشأت فيه الأفكار والنظم والقيم الغربيّة والسياق العربيّ بمختلف مشكلاته. عمد إلى النقاش والحوار وعدم تقبّل ما تطرحه الحضارة الغربيّة. ولم ينس وهو في باريس أنّه رجل شرقيّ وأنّ إعجابه بمظاهر التقدّم والتمدّن لا يعني الذوبان في الآخر، وهذا التصوّر كان جوهر الفكر الحداثيّ العربيّ.


لماذا انقطعت صلة بيرم بتونس تقريباً بعد عودته إلى مصر؟
ـــ لم تنقطع أخبار بيرم عن أصدقائه من إخوان الصّفا. ووفاء منهم لهذه الشخصيّة، التزموا بنشر رسائله والتّعليق عليها رغبة في إنصاف هذه الشّخصيّة وتأكيداً لقيمتها الفكريّة والأدبيّة. وقد حاول بيرم رغم ظروفه الصعبة الإبقاء على صلته بأصدقائه في تونس، وكان يوافيهم بأخباره وبمختلف الأماكن التي يستقر بها. فقد أخلصت «جماعة تحت السّور» الحبّ والمودّة لمحمود بيرم التّونسي وظلّت على عهدها معه بعد رحيله، فهو يعتبر نموذجاً لما يمكن أن يعيشه المبدع من معاناة وألم في سبيل تبليغ رسالته بسبب سعي رموز التّخلّف والرّجعيّة إلى إحباط أيّ مشروع فكري أو أدبي أو فنّي يبحث عن الاختلاف والتميّز. وقد آمنت هذه الجماعة أنّ المصير الذي لاقاه بيرم، يمكن أن ينسحب على أيّ فرد من أفرادها ممّا زادهم إكباراً لشخصيّته وإعجاباً بإصراره على مواصلة الكفاح. ولكن هذه الجماعة لم تعمر طويلاً، فسرعان ما انفرط عقدها بعد موت بعض أفرادها، ونتحدث هنا عن محمد العريبي وعلي الدوعاجي. وكانا من الأصدقاء المقربين لبيرم في تونس والبعض الآخر اختار سبيلاً جديداً في الحياة والإبداع، فانقطعت الصلة بينهم وبين بيرم بسبب.

ما هو حجم حضور بيرم في «جماعة تحت السور»؟
ـــ سؤال مهم جداً شكّل مدار اختلاف بين الباحثين حول الدور الذي لعبته هذه الشخصيّة وحجم الإضافة الذي حققته لـ «جماعة تحت السور». وبالعودة إلى تفاصيل الأحداث التي حصلت خلال تلك الفترة، نجد أنّ وصول محمود بيرم إلى تونس كان في أواخر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1932 وفوجئ بالترحاب الكبير الذي لقيه. ذلك أنّ شهرته قد سبقت حضوره، في ظلّ الانفتاح على الصّحافة الشّرقيّة التّي خوّلت للمبدعين التعرّف إلى الحركة الأدبيّة في مصر وفي غيرها من أقطار الشّرق العربيّ. وكان لوجود بيرم في تونس وقع شديد في الأوساط الأدبيّة، خاصّة أن أفكاره تتماشى مع متطلّبات المرحلة الحاسمة التّي تمرّ بها البلاد، ذلك أنّها أفرزت جيلاً جديداً مؤمناً بضرورة تغيير الهياكل التّقليديّة سواء السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، وفي المقابل يدعو إلى إحلال نظم بديلة تستجيب للمتغيّرات الحاصلة على أرض الواقع. وقد عرفت هذه الأفكار الجديدة قمعاً، وتعرّض أصحابها للإقصاء والتّهميش من طرف الأجهزة الرّسميّة المهيمنة. فولدت من رحم الأزمة حالة فكريّة كرست معنى الثورة على السائد والمألوف، فكان التغيير في المبنى الثقافي هو العتبة لتحقيق التغيير على المستويين السياسي والاجتماعي. وبالتّالي كان وصول بيرم إلى تونس في ظروف متميّزة بحراك مجتمعي في الميدان السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ وكانت الشّبيبة الجديدة تتصارع في هذه الميادين مع الرّجعيّة ومع الاستعمار.
وقد تعرّف بيرم على الوسط الثّقافيّ التّونسي، وتردّد على مختلف منتديات الأدب، وانخرط في صفوف «جماعة تحت السّور». وباعتبار هذا التّقارب الفكريّ والرّوحيّ والنّفسيّ الحاصل بين الطرفين، فقد أنس بيرم بـ «جماعة تحت السّور» وأنست به، فواظب على حضور جلساتها وسهراتها التّي استوعبت فنّه وجنونه وإبداعه. وكان التّفاعل متبادلاً بين الطّرفين، ممّا أثمر أعمالاً أدبيّة وفنيّة وصحافيّة حقّقت صدى واسعاً في صفوف الشّعب. وكانت شخصيّة محمود بيرم التونسي قطب الرحى في «جماعة تحت السور»، فكان أكبرهم سنّاً حيث ناهز الأربعين حين التحاقه بالجماعة، وكان أكثرهم خبرة وتجربة وكانت علاقته متينة ببعض أعلامها حد التلازم اليومي. من ذلك أنّ الدوعاجي كان معجباً ببيرم شديد الإعجاب وقد اغتنم فرصة اتّصاله به، فاستعار منه بعض المجلات العربيّة ليطالعها، هذا ما خوّله التعرف على الحركة الأدبيّة في الشرق العربي.
ولم ينس وهو في باريس أنّ إعجابه بمظاهر التقدّم والتمدّن لا يعني الذوبان في الآخر، وهذا التصوّر كان جوهر الفكر الحداثي العربي


كانت الهامشية في الأدب التونسي مدار اهتمامك في كتابك حول تجربة «جماعة تحت السور»، هل كان ظهورها في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي موجة عامة أم تجربة تونسية فقط؟
ـــ الهامشيّة لم تكن خاصية المجتمع التونسي دون غيره من المجتمعات قديماً أو حديثاً، ولكن أفراد «جماعة تحت السور» كان لهم خصوصيّة في مستوى تبنيهم لهذه الرؤية. ومن هذا المنطلق، فإنّ الهامشيّة لم تكن خاصيّة مجتمع دون آخر بقدر ما يكمن الإشكال في خصوصية الهامشيّة في هذا المجتمع أو ذاك. فقد ارتبط مفهوم الهامشيّة بالتحوّلات الاجتماعيّة التي شهدها المجتمع التونسي على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ. وبذلك يمكن اعتبارها نتيجة لتجديد المجتمع وتحديثه، ممّا أدى إلى تصدّع مكوّنات النسيج الاجتماعيّ، فهي ليست حركة مجانية وهذا عين ما كرّسته «جماعة تحت السور»، حيث تميّزت هامشيّتها ببعدها الوظيفي لأنّها تجاوزت النقض حتّى تعيد البناء من جديد، فكانت محاولة لتقنين الرفض والمقاومة للدفع نحو التغيّر الاجتماعيّ. سعت إلى التجاوز في سبيل التأسيس لرؤية مغايرة تستمد مشروعيتها من طبيعة تموقع هؤلاء المبدعين على الهامش وانتمائهم إلى عالم «قاع المدينة» الذي يؤسس لعلاقات خاصّة تجمع بين أفراده، فيخلقون عالماً مغلقاً ومنكفئاً على ذاته له نمطه المعرفيّ والقيميّ ومنظومته المعيارية ومرجعيته السلوكية التي تختلف عن المركز وتمارس من موقعها على الهامش فعل الاحتجاج، وكان الأدب هو المجال الذي عبّر من خلاله أفراد الجماعة عن رؤيتهم.

هل تم جمع وتدقيق منجز بيرم كاملاً و«جماعة تحت السور»؟
صدرت مجلدات عديدة ضمّت الأعمال الكاملة لمحمود بيرم التونسيّ وضعها أصحابها بهدف جمع تراث هذا المبدع المنثور هنا وهناك في الصحف والمجلات. لا فرق في هذا بين الباحثين المصريين والتونسيين، فكلاهما كان همّه إثبات النّصوص التي كتبها بيرم. علماً أنّ أغلب الباحثين المصريين يهملون الفترة التي قضاها بيرم في تونس ويمرّون عليها مرور الكرام، على الرغم من غزارة انتاجه حينها. وهذا ما حدا بالعديد من الباحثين في تونس أمثال محمد صالح الجابري وفوزي الزمرلي وغيرهم لتلافي هذا النقص الحاصل في جمع تراث هذا المبدع بالتركيز على إنتاجه في الصحف التونسيّة خلال الفترة التي قضاها في تونس. إلاّ أنّ هذا التراث ما زال يحتاج إلى مزيد التدقيق والتمحيص نظراً إلى وجود نصوص محل خلاف، وقد حظيت بعض النصوص البيرمية بعناية الباحثين ودور النشر، نذكر على وجه الخصوص الأزجال. ولكن في المقابل، هناك نصوص لم يقع الالتفات إليها اشتغلنا على بعضها في كتاب «محمود بيرم التونسي: الصورة وفتنة المتخيّل». والأمر ذاته يطرح أمام الباحث في منجز «جماعة تحت السور»، ذلك أنّ من أهمّ خصوصيات مرحلة الثلاثينات أنّ الصحافة كانت وعاءً احتضن الإنتاج الأدبي للمبدعين. وعلى الرغم من الجهود التي قام بها عدد من الباحثين أمثال توفيق بكار وعز الدين المدني وبوشوشة بن جمعة وغيرهم لجمع شتات هذه النصوص المبعثرة والمجهولة، إلاّ أنّ الكثير من النصوص ما زال بين طيات الجرائد والمجلات الصادرة حينها. لذلك كان لا بدّ من العمل على حمايتها من الضياع والبلى لأنّها تضمّ تراثاً إبداعياً زاخراً يستدعي التوقف عنده وتصفّحه بأناةٍ وصبر.