كان متوجهاً إلى مقهى بارامو، القريب من مسكنه، ليشاهد مباراة حاسمة في كرة القدم، بين إنجلترا والأرجنتين. كانت امتحانات الكلية قريبة وهو لم يستعدّ لها بَعد بما يكفي، لكنه عاشق للكرة، مثل معظم الطلبة، ولا بدّ من مشاهدة المباراة، رغم ضيق الوقت. ثم إنها فرصة مؤاتية للهروب قليلاً من الدفاتر والكتب والأوراق، ومن كآبة المسكن الصغير الذي يعيش فيه وحده منذ أعوام، في ذلك الحي الشعبي المزدحم.
فيليسيان روپْسْ ـــ «الجميلة والوحش» (زيت على قماش، 1861).

في طريقه إلى المقهى، سمع صوت امرأة تناديه:
- أمين! أمين!
التفتَ فرأى سعاد تقترب منه بخطى مسرعة، غير عابئة بالطفل الصغير الذي تمسكه من يده، والذي يتجرجر خلفها، عاجزاً عن مجاراتها في المشي.
ارتمت عليه معانقة وهي تلهث قليلاً. كانت بادية السمنة، ترتدي جلابية حائلة اللون، في نظراتها حزن صامت، وتحت عينيها جيوب مائلة للسواد. بقي ينظر إليها دون كلام. هو لم يرَها منذ أربعة أو خمسة أشهر، لكنها تغيرت كثيراً، كما لو أن أعواماً عديدة مضت على آخر لقاء بينهما.
- كيف حالك يا سي أمين؟
- أنا بخير، وأنت يا سعاد، ما أخبارك؟
- أنا مريضة، فمتى تصبح طبيباً وتعالجني؟
أجابها بعفوية:
- أنا حالياً في السنة السادسة بكلية الطب، سوف أتخرج السنة المقبلة.
علقتْ بصوت خافت:
- الله يكمل عليك.
ثم نظرت إليه نظرة مليئة بالعتاب، وقالت:
- نسيتَني تماماً يا سي أمين، لا بْرَيَّة لا تلفون.
تمعنَتْ فيه قليلاً بنوع من الفضول ثم أضافت وهي تبتسم بمرارة:
- على أية حال، أنا مجرد عاهرة، ومن حقك أن تنساني، الرجال لا يتذكرون العاهرات.
كان يتوقع منها كلاماً من هذا القبيل، لذلك تجاهل الأمر وحاول تغيير موضوع الحديث. أشار إلى الطفل الصغير قائلاً:
- ابنك؟
أجابت بعفوية:
- نعم، هو طفلي مراد، إنه في الرابعة من العمر.
مسح بيده على شعر الطفل، فكر في الانحناء عليه لتقبيله ثم عدل عن ذلك. تذكر الأيام التي مضت، والليالي العديدة التي قضتها سعاد برفقته، في سريره المهترئ. صحيح أنها تكبره بسبع أو ثماني سنوات، وأنها ليست جميلة وأنها تحترف الدعارة، لكنها امرأة طيبة وسهلة المعاشرة، كما أنها لا تخلو من دعابة حين تكون رائقة المزاج.
كان الطفل مراد قد ابتعد عنهما قليلاً وبدأ يخبط بقدميه في برك الماء التي تركها مطرُ البارحة. مضت نحوه وسحبته بحركة لا تخلو من غلظة.
أخرج أمين من جيب سرواله ورقة نقدية من فئة عشرين درهماً وناولها للطفل، لكن سعاد اعترضت بحركة من يدها. لاحظ أن نظراتها صارت أكثر حدة وهي تقول له:
- أعطني فقط نقودي.. أجرة الليالي الطويلة التي قضيتُها في سريرك.. إنها لا تزال دَيْناً في عنقك.
سكتَت قليلاً، قبل أن تواصل:
- وعدتَني مراراً أنك ستُسدد مجموع الدَّين حين تتوصل بالمنحة، لكنك لم تَفعل.
شرع أمين ينطق بكلام غير مفهوم، فقاطعته قائلة:
- إنه عَرَقُ جبيني، يا سي أمين، لا تنسَ هذا، وإذا نسيتَه فإن الله سوف يعاقبك في الدنيا قبل الآخرة!
تذكرَ أمين عندئذ ذلك الدفتر الصغير الذي كانت سعاد تسجل فيه حساب الليالي التي تقضيها برفقته. تكتب تاريخ الليلة وتضيف تحته المبلغ المالي المرتقَب. كان هو يسمي ذلك الدفتر الأزرق الصغير «دفتر الليالي». أحياناً أخرى، من باب المزاح، كان يسميه «دفتر الفساد».
شرع ينظر إلى ساعته. كانت تشير إلى الخامسة، ولم تبقَ سوى دقائق معدودة على بداية المباراة. قالت له بنبرة لا تخلو من سخرية:
- يبدو أنك مستعجل. وعموماً، فإن لديك تلفوني. اتصل بي حين تتوصل بالمنحة!
ثم سحبَتْ طفلها من يده وانطلقت نحو الجهة الأخرى من الشارع.
بقي هو يراقبها وهي تبتعد بجسدها المترهل بينما الطفل البائس يتجرجر خلفها بصعوبة، وعندما اختفت في المنعطف، واصل هو طريقه نحو مقهى بارامو.
* كازابلانكا/المغرب