حين نتحدّث عن الفكر الفلسفي في المغرب، لا يُمكن تناسي محمد سبيلا (مواليد الدار البيضاء ــ 1942) الذي انطفأ أخيراً في الرباط بعد معاناة مع فيروس كورونا. كان الراحل أبرز الذين انكبّوا على دراسة مفاهيم وقضايا كالحداثة والتحديث والنَّزعات الأصولية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتقنية وما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم الفكرية، التي طفت على المشهد الفكري العربي، منذ ستينيات القرن العشرين. شهدت هذه المرحلة صراعاً فكرياً وإيديولوجياً، بين دعاة فكرٍ سلفيّ، وبين رواد الحداثة المغربيّة أمثال عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الكبير الخطيبي وأسماء أخرى من الأجيال الجديدة، جاءت بعد هذا الجيل المُؤسِّس في تاريخ الفكر المغربي مثل محمّد سبيلا، وعبد السلام بنعبد العالي، وسالم يفوت، وكمال عبد اللطيف، وعبد الإله بلقزيز، وموليم العروسي، ومحمد نور الدين أفاية... انشغل هؤلاء ضمنياً بتشريح مفهوم الحداثة سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً مواجهين أنصار الفكر السلفي خلال سبعينيات القرن العشرين
في مجمل كتاباته الفلسفية، يغوص المُفكّر المغربي محمّد سبيلا (1942-2021) عميقاً في سؤال الحداثة على امتداد نصف قرن من التدريس والتفكير والكتابة والترجمة والبحث الأكاديمي، لكنّ بالطريقة، التي تجعل كُتبه تُشكّل حالة استثنائية على مستوى تفاعله مع عدد من قضايا الاجتماع الإنساني، التي باتت في الآونة الأخيرة، تُقدّم نفسها بوصفها ترسانة مفاهيمية وقضايا مركزية داخل الاجتماع العربي. فرادة محمد سبيلا في كتاباته، تتأتى من كونه سلّط الضوء على مفاهيم منسيّة داخل المختبرات الفلسفية المغربيّة والعربيّة، لكنّها شغلت وما زالت الفكر الفرنسي منذ ثورة الطلاب سنة 1967. فهو إلى جانب ما يُقيم معها من سجال حقيقيّ وتماه كليّ على مستوى النسق، يعمل بطريقته الخاصّة والذكية على فحص مفاهيم: التحرّر، الحداثة، التحديث، الإسلام السياسي، الهويّة، الآخر، التقدّم والتأخّر، على ضوء ما يعتمل داخل تاريخ «الفكر العربي» (البعض لا يقبل هذه التسمية) منذ بواكيره الأولى إبان القرن التاسع عشر، مُحاولاً تشريح هذه المفاهيم، كما نشأت داخل السياق التاريخيّ العربي، من دون أن يقع في فخّ الإسقاط المعرفي الغربي على قضايا وسياقات داخل العالم العربي. هذه الطريقة في تفكيك مكبوت ومنسيّ للثقافة العربيّة، ميّزت كتابات سبيلا داخل مجال البحث الفلسفي في المغرب، وجعلته في طليعة المُفكّرين المَغاربة القلائل، الذين يعملون على إقامة نوع من الموازنة الفكرية، بين الكتابات الفلسفية الغربية وبين الموروث الفلسفي العربي منذ العصر الوسيط إلى اليوم. غير أنّ أهميّته تكمن بالضبط، في جعل هامش الحداثة ومفاهيمها وقضاياه تغدو مركزاً. هذا الأمر لدى محمّد سبيلا، يتّخذ صبغة دائمة في عدد من أعماله الفكرية، التي أسّست مسار وعي الفكر العربي منذ ثمانينيات القرن المنصرم. ففي الوقت الذي تئن فيه المختبرات الفلسفية المغربيّة من سطوة مفاهيم الديني والدنيوي والفكر والعربي والاستشراق والفلسفة الإسلامية الوسيطيّة، فكّر سبيلا عكس هذا التيار السائد داخل المغرب، بجعل الحداثة مدخلاً أنطولوجياً لتفسير مآزق الاجتماع المغربي، إلى درجة يشعر القارئ أنّه أمام مُفكّر موسوعي يكتب في مواضيع كثيرة تشغل الراهن العربي، لكنّه يظلّ حريصاً على قبعة الأكاديمي وعلى خيط الفلسفة، الذي منه تنبثق الموضوعات والمفاهيم والإشكالات.

مثقف أصيل
تعرفت إلى المُفكّر محمد سبيلا، في السنة الأولى والأخيرة من دراستي للفلسفة، بعد تخرجي حديثاً من شعبة التاريخ والحضارة. وبسبب معرفتي المُسبقة بأعلام الفلسفة الغربية الحديثة منها والمعاصرة وجدتني أنخرط بشكل مُكثّف في دراسة المتون الفلسفية داخل الفكر العربي المعاصر لكل من برهان غليون والطيب تيزيني ومحمد أركون وهشام جعيط وعبد الله العروي وموليم العروسي وعبد الإله بلقزيز وغيرهم من المفكّرين العرب، باستثناء محمّد سبيلا الذي وجدت في درسه الإيبستمولوجي آنذاك بعضاً من الانزعاج الفكري، الذي قادني لاحقاً إلى قراءة دراسات فلسفية مغربيّة ومشرقية أقل تأثيراً على وعيي الثقافي والفكري. فقد كانت في مجملها تتعلّق بماركس وانجلز والنظرية الجماليّة عند هربرت ماركيوز وبيير بورديو وفلسفة الفنّ لدى هيغل وكانط في ما بعد. لكن في لحظة ما، بدا لي أنّ مفهوم الحداثة يُلوّح في سماء الدراسات، التي كُنت مُقبلاً عليها، قراءة ودرساً وفهماً وكتابة. والحقيقة إني قد وجدت في هذه المرحلة المعرفية المُبكّرة في كتب محمد سبيلا عوناً كبيراً ومهمازاً قوياً يشد انتباهي إلى فهم ما يحدث في السياسة والاجتماع العربيين. لاحقاً، ستتوطّد علاقتي بالمتون الفكرية لمحمّد سبيلا، انطلاقاً من كتابيه «النزعات الأصولية والحداثة» و«المغرب في مواجهة الحداثة»، ثم لحظة معرفتي بالكمّ الهائل من البحوث والأستاذة الذين تخرجوا على يده في شعبة الفلسفة في «جامعة محمد الخامس». غير أنّ اللحظة الكبيرة في اقتحامي عوالم محمد سبيلا الفكرية، كانت من خلال مفهوم «الحداثة»، إذْ يستحيل اليوم الحديث عن هذا المفهوم الفلسفي في البلاد العربيّة، بدون محمد سبيلا، كأبرز المفكّرين الذين تصدوا بشكل مركزي للمفهوم. أكثر من ذلك، قام بتشريح الحداثة من زوايا نظر معرفية مُتعدّدة، تبدأ بالتاريخ وتنتهي بالفلسفة.
عمل على إقامة نوع من الموازنة الفكرية، بين الكتابات الفلسفية الغربية وبين الموروث الفلسفي العربي منذ العصر الوسيط إلى اليوم

إنّ ما يشدّ حقيقة إلى كتاباته الفكرية، هو عمقها التحليلي وزخمها الأركيولوجي وبساطة لغة وأسلوب، تجعل أيّ قارئ أو طالب أو باحث يُقبل بشراهة على قراءتها والتقرّب منها، إلى درجة أنّها تجعله يشعر بالنفور من دراسات فكرية سابقة قرأها لبعض الجامعيين. ولاحقاً لما أتيحت لي فرصة اللقاء به شخصياً في حلقات وندوات داخل الكلية وخارجها أو في اتصالات هاتفية (في الأشهر الأخيرة من الحجر)، يشعر المرء بحجم الأسى، الذي جعله لسنوات بعيداً عن معرفة محمد سبيلا عن قرب. الصمت والابتسامة والتشجيع وعمق النظر، خصال ذاتية يتميّز بها محمد سبيلا. ولأنّه لم يكُن دائم الحضور إلى الكلية كضيف أو مشارك في عدد من ندوات نظّمتها شعبة الفلسفة، يظلّ المرء مشدوهاً لأسابيع طويلة، أمام الفرحة، التي يتركها محمد سبيلا في قلوب القراء والطلبة والباحثين والمترجمين والحبّ والاحترام اللذين يُبادلونه إياه، أوّلاً بسبب تواضعه الكبير وابتسامته الدائمة وعشقه لمن يشعر أنّه يمتلك حسّاً نقدياً قوياً وشغفاً دائماً للبحث والترجمة والكتابة. وثانياً بحكم ما يستفيده الطلبة من كتبه الفكرية، التي أضحت اليوم وسيطاً معرفياً بين الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية وكبار متون الفلسفة الغربية قديمها وحديثها. لم يكُن محمد سبيلا أستاذاً يختفي وراء بدلته الرسمية ويتقافز في خفاء للارتزاق من مختبرات الجامعة وشعبها، بل مُفكّراً كبيراً وصانعاً لصرح فلسفي في المغرب المعاصر، بحيث إنّ كتاباته، ظلّت عابرة لأجيال من كُتّاب وباحثين ومترجمين وأستاذة، تأثّروا بوعي أو بدون وعي بكتابات محمد سبيلا الفلسفية، لأنّها شكّلت منطلقاً معرفياً، سواء تعلّق الأمر بأبحاثهم أو مراجعاتهم أو ترجماتهم، التي يجدون من خلالها محمّد سبيلا، قد سبقهم بسنوات طويلة لاقتراح ترجمات تُعرّب بعض مفاهيم الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة.

من الحداثة إلى الحداثة
«مخاضات الحداثة»، «للسياسة بالسياسة»، «الحداثة وما بعد الحداثة»، «حقوق الإنسان والديمقراطية»، «مدارات الحداثة»... بمثل هذه العناوين الفكرية المُتفرّدة تفكيراً وكتابةً ومنهجاً ونسقاً، عمل محمّد سبيلا، على مراكمة متن فلسفي، يكاد في مجمله لا يخرج عن مدارات الحداثة وما بعدها، بوصفها مرحلة فكرية لاحقة عنها أو هي بمثابة امتداد للحداثة بتعبير ليوتار. لكن اشتغاله على مفهوم الحداثة بدا مُغايراً للتقاليد الأكاديميّة المغربيّة، التي تُحاول التماهي مع الفكر الفلسفي الغربي والدخول في سجال معه على مستوى الكتابة والنسق على شكل دراسات تدرس المفهوم لدى فيلسوف مُعيّن، فجاءت بعض الكتابات كأنّها منفصلة عن المسار التحديثي العربي، وهي تغوص في هذا التراث الفلسفي الغربي، لأنّها غدت مزدوجة في صورتها ومنفردة في خطابها الفلسفي وتعيش انفصاماً حقيقياً، بحيث أنّ أغلب هؤلاء الذين ساجلوا الفكر الغربي وظلّوا يعيشون في سراديبه وظلاله، لم يُقدّموا درساً فلسفياً جديداً، فكتاباتهم عبارة عن شرح لنظريات أو تلخيص لدراسات منشورة مُسبقاً في مجلّات وكتب. وهذا النوع تفاقم داخل البحث الأكاديمي للجامعة المغربيّة وجعل الفلسفة تتحوّل إلى فقه واستظهار للنظريات، عوض تشرّبها ونقدها والاحتفاظ، بما تمنحه من قوّة ناعمة في الحفر داخل الفكر العربي كمُحاولة لـ «تبيئة» المفاهيم الفلسفية والسياقات التاريخيّة والمداخل النظرية، بغية خلق سجال فلسفي مع الآخر، ما جعل البحث الفلسفي الأكاديمي كأنّه يعيش في غيبوبة الماضي. فبدل أنْ ينفتح على موضوعات فلسفية ذات علاقة بحياتنا اليومية مثل: الفنّ والجمال والفضاء العمومي والجسد والصورة، يُسافر الأكاديمي في إشكالات فلسفية، لا ترتبط بالإنسان المعاصر وقلقه وتحوّلاته السياسية والاجتماعية والثقافية. إنّ تجميع النظريات الفلسفية واستظهارها وتوليفها في دراسات مغربيّة، جعل الفلسفة تدور في كوكب مغلق وأفق مُجهض، يجعل من الخطاب الديني سيّد البحث الفلسفي في المغرب، مقابل غرب حقّق حداثة مُبكّرة منذ الأزمنة الحديثة وأضحى يتطلّع صوب فكر ما بعد الحداثة، وبين تراث مغربي مُغلقُ وتقليدي، يُشكّك مفكروه إنْ كان قد دخل حقاً إلى مرحلة الحداثة.
إلاّ أنّ اللافت عند محمّد سبيلا، هو أنّه لم يتخلَّ عن الفكر الغربي، لكنّه بشكل ضمني، لم يُعمّر فيه طويلاً، بعد تعريب مراجعه الكبرى، بقدر ما حرص على الحفر في تعيين الحداثة داخل البلاد العربيّة وفهم مُنطلقاتها وأسباب تعثّرها وعدم نجاح بعض نماذجها الكبرى (السياسية والفكرية) في التأثير في بنية العقل العربي الحديث (البعض لا يقبل هذه التسمية التي وضعها محمّد عابد الجابري) التي جعلته مُفكّر الحداثة بامتياز، لأنّ تناوله لها بالفحص والدرس والنقد، لم يكُن عرضياً أو حتى برانياً، بل شكّلت لديه أفقاً فلسفياً منه تتبلور الأفكار والموضوعات والأحلام، بل داخلها يكمن عجز العرب وعدم تقدّمهم لأنّه ظلّوا طيلة قرون يولون ظهورهم للحداثة منذ فترة الاستعمار. على هذا الأساس، شغلت الحداثة ناصية كبيرة في المشروع الفكري عند محمّد سبيلا، لأنّه شعر بأنّ المفهوم منذ السبعينيات، لم يأخذ حقّه داخل الدراسات الفكرية والتاريخيّة، التي بزغت داخل المغرب، لكونها بقيت مجرّد مبحث فكري عابر داخله، لكنّها أضحت فيها قضية مركزية عند محمّد سبيلا وطلبته (أشهرهم تأليفاً الدكتور محمّد الشيخ) الذين جعلوا المفهوم مُتداولاً بكثرة داخل البحث الفلسفي، وإنْ بقي محصوراً في نماذج الحداثة التقنية والسياسية والاجتماعية في غياب كليّ للحداثة الفنيّة ومداراتها البصريّة.

أسئلة الترجمة والتاريخ
إلى جانب البحث الفلسفي، انشغل محمّد سبيلا طويلاً بسؤال التعريب، فقد قاده الدرس الفلسفي الجامعي إلى ترجمات عشرات الكتب الفلسفية الكبرى مثل: «التقنية، الحقيقة، الوجود» لهيدغر و«التحليل النفسي وأسسه الفلسفية» لبول لوران أسون و«نظام الخطاب» لميشال فوكو و«الفلسفة بين العلم والأيديولوجيا» لألتوسير. هذه الكتب بقدر ما أسهمت في خلخلة واقع الثقافة المغربيّة، ظلت بشكل آخر كأنّها الأعمدة، التي شُيّد من خلالها محمّد سبيلا مشروعه الفكري، بحيث إنّ ترجماته، لم تعكس سوى اهتماماته الفلسفية بموضوعات فلسفية، كانت تعيش ضرباً من اللامفكّر فيه داخل الفكر المغربي. فالترجمة لديه ليست بذخاً فلسفياً وإنّما حاجة أنطولوجية لفهم تراث الآخر الفلسفي، لا سيما أنّ الفكر المغربي، كان في حاجة ماسّة إلى بعض الفلاسفة كهيدغر وألتوسير لتحرير المُخيّلة من ربقة العلاقة المتأزّمة بين الفلسفي والأيديولوجي. فقد فتحت ترجمة ألتوسير مثلاً مجالاً كبيراً لمساءلة التراث الماركسي وفهم التحوّلات الإبستمولوجية، التي ألمّت بالنصّ الماركسي داخل الفكر العربي، بحيث يعثر الباحث على دراسات تعاملت مع الفلسفة الماركسية، باعتبارها معتقداً لا فلسفة، كما دعا إليها ماركس. هذا الأمر جعل من ترجمة كتاب ألتوسير، بمثابة فتح داخل الثقافة المغربيّة، لأنّه فتح المجال أمام فكر جديد يُقيم حدوداً وسياجات بين الأيديولوجيا والتفلسف. فالأولى تقف عائقاً ومانعاً في وجه تفسير النصّ الفلسفي، وتجعل دلالاته وتأويلاته مُغايرة تماماً لأصله وماهيته.

اشتغاله على مفهوم الحداثة بدا مُغايراً للتقاليد الأكاديميّة المغربيّة، التي تُحاول التماهي مع الفكر الفلسفي الغربي

فالفلسفة ليست أيديولوجيا لدى محمّد سبيلا، بل هي قوّة ناعمة، تبدأ من الداخل وطريق نظر نقدي مختلف، يجعل التفكير يُكسر كل أشكال البديهيات واليقينيات السطحية المُميتة، فتحرير المُخيّلة من أشكال العنف رهين أوّلاً بتحرير الجسد من مختلف أنماط التكلّس الفكري، الذي يحصر الفلسفة في العقل، ويجعل الجسد مجرّد آلة إنتاج الرغبة (دولوز). لقد خلقت ترجمات محمّد سبيلا وعياً نقدياً قوياً داخل ما اصطُلح عليه بـ «اليسار الجديد» (ألتوسير) داخل حركة الأحزاب اليسارية في المغرب، فقد تم الانتباه إلى الأساس النظري الماركسي، الذي تم تحريفه لسنوات على أساس أنّه فلسفة ماركسية، ما ساهم في ظهور فصائل أيديولوجية تتحدّث باسم ماركس، بل الأكثر من ذلك، تعمل ضمن مُخطّطاتها السياسية على إقامة نوع من المُوازنة الأيديولوجية بين ماركس والحركات الإسلامية وفقاً لما راج سطحياً بـ «الماركسية المعتدلة» بوصفها نمط تفكير، يستند إلى تبيئتها داخل سياق سياسي، يكاد لا يُفارق الأصول، يظلّ دوماً يحن إلى ماضيها التليد إبان الدعوة وبعدها.
لكن ما يشدّ الانتباه إلى مشروع محمّد سبيلا الفلسفي، هو أنّه منهجياً من الداخل يمشي على قدمين (الفلسفة والتاريخ)، إذْ لم يجعل من كتاباته مرآة لمُختلف أنماط الفلسفة الغربية والاستطراد في تجريدها ولا كإزميل يُعيد به نحت مُدوّنة التراث الفلسفي العربي الإسلامي، لكنه جعل الكتابة الفكرية، تبدأ بالتاريخ وتنتهي بالفلسفة. إنّها تتشابك إيبستمولوجياً في ما بينها وتخلق نظرة مُغايرة وثاقبة إلى مفهوم الحداثة، لا تُحاول اجترار براديغمها ولا تعمل على توليف سياقاتها وجعلها أشبه بحكاية فلسفية تُروى على مسامع الباحثين باسم الفلسفة. ولكنّ محمّد سبيلا، كان على وعي مُسبق بضرورة الاستناد إلى التاريخ كأساس إيبستمولوجي ثابت، لأنّ التفكير الفلسفي وحده، يبدو قاصراً على مقاربة مفاهيم الحداثة والتحديث، إذا هو لم يستعِن بالمعرفة التاريخيّة وأقطابها، كما فعل ذلك عبد الله العروي بخصوص مشروعه الفكري. لكنّ الاختلاف مع سبيلا، أنّ الأوّل مُؤرّخ يستعين بالفلسفة. والثاني مُفكّر يستعين بالتاريخ، فهذا التلاقح الإيبستمولوجي مجال بحث سبيلا، ساهم في إغناء كتاباته الفكرية وجعلها أكثر عموماً بالنسبة للباحث التقليدي، الذي يقف تكوينه عند سياج التخصّص، مُتناسياً الثورة المعرفية التي شهدتها العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي جعلت الحدود بين المعرفة التاريخيّة والفلسفية واهيةً وإجرائية ومُنعدمة، بالنظر إلى شكل المعرفة والحياة التي رافقت ميلاد الإنسان المعاصر. إنّ التاريخ لديه يحضر بوصفه سياقاً أو «ميكانيزم» أو «براديغم»، وأحياناً كذريعة لإقامة حفريات في تاريخ التقابل بين الفكر الغربي والنظر العربي، كما هو الشأن في كتابه «النزعات الأصولية والحداثة» الذي تجاوز فيه محمّد سبيلا النمط الفلسفي المُجرّد، إذْ يغدو في لحظة ما مُؤرّخاً وأنثروبولوجياً يحفر في مُتخيّل الإسلام السياسي والأصولية والحداثة والعنف والتطرّف والهوية العربيّة كاستثمار للدعاية السياسية.
إنّ رحيل محمد سبيلا، فاجعة حقيقية في تاريخ الثقافة المغربيّة، بالنظر إلى مفكّر في حجمه باعتباره عرّاب فكر الحداثة مُفكّكاً تاريخها وشروطها ومواصفاتها وسياقاتها، لكنّه لم يجعل عملية البحث والكتابة تأخذ بُعداً مُجرّداً، يغوص في الأنساق الفلسفية الحديثة والمعاصرة، بل كان لزاماً عليه إقامة نوع من الفكر الأركيولوجي، الذي يحفر في تاريخ الحداثة العربيّة والغربية في آن واحد، كشكل من الطباق الفلسفي الذي يقبل الآخر، لكنّه دون أنْ يُقيم فيه تفكيراً وكتابة وبحثاً ووجوداً. إذ لم يكُن من المُمكن لدى محمّد سبيلا بلورة مشروع فكري، يستند إلى الحداثة والتعريف بها داخل مجالات البحث في تاريخ الثقافة المغربيّة، بمنأى عن مرحلة هامّة من حياته الفكرية المُتمثّلة في الترجمة الفكرية للعديد من الكتب الفلسفية، التي شكّلت خياراتها المعرفية وسيلة من وسائل تجذير الحداثة في الوعي الفلسفي العربي.