بين ذاكرة الأمس، وذاكرة اليوم، يتجوّل صلاح فائق (1946) في مكاشفات صريحة راوياً سيرته في حوارات مطوّلة مع اسكندر حبش تحت عنوان «صلاح فائق ذاكرتان وخمس مدن» (خطوط وظلال- عمّان). يستدرج الشاعر اللبناني ذاكرة الشاعر العراقي بجرعات زائدة من الحنين، نظراً إلى ثقل مخزونه الشعري من جهة، ومكابداته بين المنافي من جهةٍ ثانية.

من كركوك التي شهدت أولى تجاربه الشعرية إلى جانب كوكبة من ألمع شعراء الحداثة في العراق، مثل سركون بولص، وفاضل العزاوي، وجان دمو، ومؤيد الراوي، مروراً بدمشق هارباً من اضطهاد السلطة في بلاده، إلى بيروت الحرب الأهلية، ثم لندن، وصولاً إلى إحدى الجزر النائية في الفيليبين... مدن تركت وشماً في روحه المعذّبة تحت وطأة الخيبة والأسى والغياب. وكأن رحلة صاحب «مقاطعات وأحلام» مرتهنة للتيه، وفقاً لعنوان أول دواوينه «رهائن». سيطبع هذا العنوان تجربته الشعرية بأكملها، فالشاعر الذي كان يكتب من موقع الضدّ، سوف يجد نفسه رهينة للطغيان والاغتراب والتيه. هكذا عبر المدن مثل جوّاب آفاق، من دون أن تغادره ذكريات كركوك واشتعالاتها الجمالية: «أعلنُ حنيني إلى دراجتي القديمة» يقول. سوف يطوي نحو عشرين عاماً في لندن، لكنه في لحظة جنون شعرية، عمد إلى حزم حقائبه فجأة وأبحر إلى الفيليبين، ليبدأ حياةً جديدة وفانتازية في أحد أرخبيلات الجزر النائية. هناك خضعت قصيدته لنبرة مختلفة تتوسل التقشّف البلاغي في تصوير المشهديات اليومية وتأطيرها بحكمة العابر. خليط من المفارقات السريالية والذات المتأرجحة بين ذاكرتين عن شخص وحيد محاط بالغابات والطيور والحيوانات، يستنطق الصمت. سيعوّض هذه الوحشة بالكتابة اليومية بعد اكتشافه بهجة الحياة الافتراضية التي ألغت قطيعته الطويلة مع العالم، ومنحت عزلته معنى آخر للعيش. على صفحته الشخصية في فايسبوك، يستكمل صاحب «طريق إلى البحر» حواراته مع الجموع هذه المرّة، كأن المسافة بين كركوك ومانيلا مجرد خطأ مطبعي: «في فمي أيضاً طيور تغرّدُ/ أمام بيتي أحجار تتكلّم/ أسمعها وأنا أضطجع على حصير/ متذكّراً غاباتٍ بعيدة/ ويمرُّ رجل يمشي بمشقة، ليشفي جدولاً أُصيب بالجنون قبل أيام» يقول. هكذا بدا صاحب «دببة في مأتم» بمثابة اكتشاف متأخر بالنسبة إلى قارئ اليوم الذي لم يسمع بـ «جماعة كركوك» قبلاً، ولا ببيانها الشعري المغاير. الجماعة التي تنازعتها المنافي والمقابر والمآتم. في منفاه الغرائبي، تسيل قصائد صلاح فائق مثل جدول في غابة ترتطم بكائنات لا مرئية. ليست الذكريات وحدها إذاً، ما يشكّل سيرة الشاعر، إنما بريق اللحظة «أنا مهاجر، أعيش منذ زمنٍ طويل في مخيّم متخيّل/ لا يراه أحد/ بعد سنوات لي مدني وقراي من كلمات/ وذاكرة مرضى يتشاتمون في مصعد». حيوات متجاورة وأزمنة منهوبة، وقصائد على هيئة قوارب إنقاذ من غرقٍ وشيك.