هناك صفحة على ويكيبيديا ترصد أعداد الناس الذين يموتون بينما يحاولون التقاط صور «سيلفي». يسقطون من علو، أو يدوسهم قطار، أو يفقدون السيطرة على سياراتهم، أو تخطفهم موجةُ بحرٍ عاصف، أو حتى تقتلهم رصاصة أُطلقت بالخطأ. وتكتسب التراجيديا مزيداً من السّواد عندما تقرأ أعمار هؤلاء الضحايا. أغلبيّتهم الساحقة بين 14 و21 عاماً.

في الألمانيّة يُطلق عليهم Smombies، تعبير مشتق يعني «زومبيات» الهواتف الذكيّة. هم اليوم في كلّ مكان. بشرٌ فقدوا القدرة على الانتباه الفاعل مع ذواتهم أو الآخرين من حولهم أو العالم الذي يحتويهم، وأصبحوا عبيداً للشاشات في عالم تعرف فيه شركة غوغل عن كل منّا أكثر مما قد نعرفه عن أنفسنا، ناهيك عمّا قد يعرفه أيّ من أحبائنا عنّا.
جوليا بيل أستاذة الكتابة الإبداعية في «كليّة بيركبيك»، في جامعة لندن، والمعنيّة بمنطقة التقاطع بين الشخصي والسياسي، تعتبر أن ما يجري ليس انتصاراً للتكنولوجيا، بقدر ما هو نظامُ سخرةٍ قروسطي النّسق يسيطر على العقول والقلوب، وتقوده المراكز الرأسمالية التي تباينت بشكلٍ حادّ وكارثي تماماً مع مصالح معظم البشر والكوكب.
تقول جوليا في كتابٍ مقلقٍ قصير نشرته تحت عنوان «الانتباه الراديكالي» (Radical Attention ــ منشورات Peninsula Press) بأن تواجدنا المتزايد على الإنترنت يمثّل عند امبراطوريّات التكنولوجيا الكبرى، مصدراً للدخل الوفير عبر تجميع المعلومات عن الأفراد وبيعها ليس فقط لشركات التسويق، بل للأنظمة الفاشيّة والجهات المشبوهة الأهداف، إلى درجة أن مجلّة أثرياء العالم «إيكونيميست» اعتبرت في 2017 أنّ المعلومات أصبحت سلعةً أعلى قيمةً من النفط. وهكذا كلّما قضى أحدنا وقتاً أكثر متّصلاً بالإنترنت، يكون بكل بساطة يتبرّع بجزءٍ من عمره لإثراء القلّة الجشعة وراء فايسبوك ويوتيوب وتويتر وبقيّة لصوص المعلومات الكبار. أحدهم في إيطاليا أرسل طلب صداقة عبر فايسبوك لسيدة جميلة لا يعرفها، ليتم اعتقاله خلال ساعات. لم يكن المغفّل ليدرك أن السيّدة زوجة مهرّبٍ شهير تحاول السلطات اعتقاله وأنّ طلب الصداقة العبثي ذلك اعتُبر عند السلطات ــ التي تحصل على معلوماتها من فايسبوك لحظيّاً ــ محاولةً للتحايل على مراقبة هاتف الزوجة من قبل زوجها المتخفي. وقد احتاج الأمر لطالب الصداقة إلى قضاء ثلاث سنوات في سجن في صقلية قبل تبرئة ساحته. وهناك شركة اسمها «كلير فيو إيه آي» تبيع اليوم للحكومات وشركات الأمن الخاص برنامجاً لمطابقة صور الوجوه الملتقطة من كاميرات المراقبة مع قاعدة بيانات مصوّرة تضم أكثر من ثلاث مليارات صورة اشترتها الشركة بكل بساطة من فايسبوك ويوتيوب وغيرهما من التطبيقات «المجانيّة»، ويتم تحديث تلك القاعدة دوريّاً.
ومن المعروف الآن أن الخوارزميّات المعقدّة التي تدير آلاف التطبيقات عبر الانترنت تتسبّب لمستعمليها في الإدمان، وتتلاعب بمشاعرهم عبر تكتيكاتٍ تستهدف نقل الاهتمام من محيطهم المباشر إلى عوالم يتداخل فيها الافتراضي بالواقعي، وتخاطب أكثر النوازع بدائيّة لديهم: كراهيّة الآخر، والتظاهر الاستعراضي، والشبق الافتراضي، والنرجسيّة، ووهم الاختيار.
بيل تنادي بأن نتّخذ موقفاً راديكالياً لمقاومة هيمنة خوارزميّات تطبيقات الإنترنت بينما لا يزال ممكناً الانسحاب، وتكريس الانتباه والنظر اليقظ إلى العالم الحقيقي وخلق وقتٍ للتأمّل والتفكير والتواصل الإنساني بعيداً عن العبوديّة للشاشات. رغم كلّ شيء، ما زال جيلنا يدرك أن ثمّة حياة هناك في الواقع، ويشعر بالذنب أحياناً لضياعه في الصحراء السيبيريّة. لكن ذلك لن يستمر طويلاً، إذ أن الأجيال الجديدة تفتقد لخبرة العالم الحقيقي بشكلٍ متزايد لمصلحة عوالمها الافتراضيّة، وسيأتي وقت ستكون فيه تكنولوجيا التواصل أشبه بما يسميه تيموثي مورتن بـ «الهايبرأوبجيكتس»، أي تلك الأشياء الهائلة التي تحدث لعالمنا بدون أن ندركها أو نمتلك القدرة على استيعابها وتظلّ فكرتنا عنها تجريديّة ونظريّة، بينما هي تبتلع عالمنا رويداً رويداً.
تلك الإجراءات لأجل استعادة راديكاليّة للإنتباه، تظلّ بالطبع في نطاق ردود فعل فرديّة ويائسة وغير كافية مهما انتصرت، وعلاجاً للأعراض من دون المساس بجذر المرض الذي يتخذ من واشنطن عاصمة له ولا تسميه جوليا بيل صراحة، ولكن مع قليل من الإنتباه الرديكالي اليقظ، يمكن دائماً ملاحظته قابعاً كشيطان أكبر وراء كل الشرور التي تعصف بهذا العالم.