مطيع ابن إياس الليثي شاعر من أهل فلسطين، خليع، سكّير، فاسق، ملعون، خلدته نخلتان.
آنا كرامينغ (غرافيت على ورق ــ 2020)

يقول عنه أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني»: «شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وليس من فحول الشعراء في هذه أو تلك. ولكنه كان ظريفاً، خليعاً، حلو العشرة، مليح النادرة، ماجناً، متهماً في دينه بالزندقة، ويكنى أبا سلم. ومولده ومنشؤه الكوفة، وأبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير و[قيس] ابن الأشعث، فأقام بالكوفة وتزوج بها، فولد له مطيع». وكانت له صحبة من الخلعاء الفاسقين، الذين كانوا ربما الأشد خلاعة في تاريخ الثقافة العربية، ومنهم والبة بن الحباب وحماد عجرد وغيرهم. ويروي لنا أبو الفرج شيئاً من قصصهم وقصص مطيع:
«حضر مطيع بن إياس، وشراعة بن الزندبوذ، ويحيى بن زياد، ووالبة بن الحباب وعبد الله بن العياش المنتوف، وحماد عجرد، مجلساً لأميرٍ من أمراء الكوفة، فتكايدوا جميعاً عنده. ثم اجتمعوا على مطيع يكايدونه ويهجونه فغلبهم جميعاً، حتى قطعهم، ثم هجاهم بهذين البيتين وهما
وخمسةٍ قد أبانوا لي كيادهم
وقد تلظى لهم ملقى وطنجير
لو يقدرون على لحمي لمزقه
قردٌ وكلبٌ وجرواه وخنزير».
وسقط له مرة حائط، فقال له بعض أصحابه: «احمد الله على السلامة»، فقال: «احمده أنت الذي لم تَرُعْك هدّتُه، ولم يصل إليك غباره، ولم تغرم أجرة بنائه».
ويبدو أن جده أبا قرعة الكناني، واسمه سلم بن نوفل كان أيضاً لَسِناً قاطع الرد. وله قصة تشاحن مع ابن الزبير تدل على ذلك:
«كانت بينه وبين ابن الزبير قبل أن يلي مقارضة. فدخل سلم وابن الزبير يخطب الناس، وكان منه وجلاً، فرماه ابن الزبير ببصره حتى جلس، فلما انصرف من المجلس دعا حرسياً، فقال: امض إلى موضع كذا وكذا من المسجد، فادع لي سلم بن نوفل. فمضى فأتاه به، فقال له الزبير: إيهاً أيها الضّب. قال: إني لست بالضّب، ولكن الضّب بالضمر من صخر. قال: إيهاً أيها الذيخ. قال: إن أحداً لم يبلغ سني وسنك إلا سمي ذيخاً {الذيخ: ذكر الضباع المسن}. قال: إنك لها هنا يا عاض بظر أمه. قال: أعيذك بالله أن يتحدث العرب أن الشيطان نطق على فيك بما تنطق به الأمَة الفَسْلة».
لكن قصيدة واحدة خلّدت مطيعاً الخليع اللوطي الملعون، وجعلته أسطورة في التراث العربي، وهي قصيدة قالها في نخلتين بحلوان. وحلوان مدينة بالعراق قريبة من خانقين. وما من نخلتين، ما من شجرتين، في التاريخ العربي كله كانت لهما شهرة هاتين النخلتين بسبب قصيدة مطيع:
أسعداني يا نخلتـي حـلـوان وابكيا لي من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبـه لـم يزل يفرق بين الألاف والـجـيران
ولعمري لو ذقتما ألـم الـفـرقة قد أبكاكما الذي أبكـانـي
أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـاً سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان
كم رمتني صروف هذي الليالي بفراق الأحبـاب والـخـلان
غير أني لم تلق نفسي كمـا لاقيت من فرقة ابنة الدهـقـان
جارة لي بالري تذهب همـي ويسلي دنـوهـا أحـزانـي
فجعتني الأيام أغبط مـا كـنت بصدعٍ للبين غـير مـدان
وقد لحنت هذا القصيدة، وخاصة أبياتها الأولى، وغنيت وسارت على كل لسان. بل إن مثلاً ابتدع لهاتين النخلتين يقول: «أطول صحبة من نخلتي حلوان». والإسعاد هو المشاركة في الحزن والألم. بذا فهو يطلب من النخلتين مشاركته ألمه من فراق الأحبة. وهو يتنبأ لهما بأن ألم الفراق سيصيبهما هما أيضاً.
وينقل عنه أنه قال قصيدته في جارية له يقال لها جودانة: «كانت لي جارية يقال لها جودانة كنت أحبها، فأمرني سلم بالخروج معه، فاضطررت إلى بيع الجارية، فبعتها وندمت على ذلك بعد خروجي، وتمنيت أن أكون أقمت، وتتبعتها نفسي، ونزلنا حلوان، فجلست على العقبة أنتظر ثقلي وعنان دابتي في يدي وأنا مستند إلى نخلة على العقبة وإلى جانبها نخلة أخرى، فتذكرت الجارية واشتقتها، وقلت:
أسعداني يا نخلتـي حـلـوان
وابكيا لي من ريب هذا الزمان».
مطيع ابن إياس الليثي شاعر من أهل فلسطين، خليع، سكّير، فاسق، ملعون، خلدته نخلتان


وذكر الجاحظ أن مطيعاً حلف أن هذه الجارية كانت تستلقي على ظهرها فيشخص كتفاها ومأكمتاها، فيتدحرج تحتها الرمان فينفذ إلى الجانب الآخر.
لكن يقال إنه قالها في امرأة أخرى، وأن جاريته كانت مجرد غطاء لحب هذه المرأة السري. وأياً كان الأمر، فإن أبيات مطيع في النخلة تحولت إلى رقية للحب، فلحّنها وغناها أكثر من واحد في العصر العباسي. ثم أصبحت النخلتان طوطماً معبوداً للشعراء من بعده. وزاد الأمر غرابة أنّ قصة النخلتين اشتبكت بطريقة ما مع سيرة عدد من الخلفاء العباسيين.

قطع النخلتين
إذ يقال أنه لما خرج الرشيد إلى طوس، هاج به الدم بحلوان، فأشار عليه الطبيب أن يأكل جُمّاراً- والجمار لب أبيض في رأس النخلة يؤكل ويتداوى به- فأحضر دهقان حلوان وطلب منه جماراً، فأعلمه أنّ بلده ليس بها نخل، ولكن على العقبة نخلتان، فأمر بقطع إحداهما. فقطعت، فأتي الرشيد بجمارتها، فأكل منه ونفعه. فلما انتهى إلى العقبة، نظر إلى إحدى النخلتين مقطوعة والأخرى قائمة، وإذا على [النخلة] القائمة مكتوب:
أسعداني يا نخلتـي حـلـوان
وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـاً
سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان
فاغتم الرشيد، وقال: يعز عليّ أن أكون نحستكما، ولو كنت سمعت بهذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم.
لكن القصة تنسب للمهدي وللمنصور أبيه أيضاً:
«نخلتا حلوان: يضرب بهما المثل في طول الصحبة. وكان المهدي خرج إلى أكناف حلوان متصيداً، فانتهى إلى نخلتي حلوان، فنزل تحتهما وقعد للشرب، فغناه المغنِّي:
أيا نخلتيْ حُلوان بالشِّعبِ إنَّما
أشَذَّ كما عن نخْل جوخَى شقاكُما
إذا نحنُ جاوزنا الثنيَّة لم نزَل
على وجلٍ من سيرِنا أو نراكما
فهمَّ بقطعهما، فكتب إليه أبوه المنصور: مه يا بني، واحذر أن تكون ذلك النحس الذي ذكره الشاعر في خطابهما، حيث قال: واعلما إن علِمتُما أنَّ نحساً سوفَ يلقاكُما فتفترِقانِ» (نفح الريحانة، المحبي).
باختصار، صارت النخلتان أسطورة عند الشعراء والمثقفين. وصار كل واحد يريد أن يكتب في نخلتي حلوان. مثلاً، قال حماد عجرد صديق مطيع الخليع:
جعل الله سدرتي قصر شيرين فداءً لنخلتـي حـلـوان
جئت مستسعداً فلم يسعدانـي ومطيعٌ بكت له النخلـتـان.
أما الأعمى التطيلي في الأندلس فقد ذكر النخلتين نخلتي حلوان مع أهرام مصر:
خذا حدّثاني عن فل وفلان
لعلي أرى باق على الحدثان
وعن دول حسن الديار وأهلها
فنين وصرف الدهر ليس بفان
وعن هرمي مصر الغداة أمتعا
بشرخ شباب أم هما هرِمان
وعن نخلتي حلوان كيف تناءتا
ولم توطيا كشحاً على شنآن
وطال ثواء الفرقدين بغبطة
أما علما أن سوف يفترقان؟!
وزايل بين الشعر بين تصرف
من الدهر لا وان ولا متوان
فان تذهب الشعرى العبور لشأنها
فإن الغميصا في بقية شان
وجن سهيل بالثريا جنونه
ولكن سلاه: كيف يلتقيان؟!
وهيهات من جور أزمان وعدله
شآمية ألوت بدين يماني
فأجمع منها آخر الدهر سلوة
على طمع خلاه للدبران
وأعلن صرف الدهر لابني نويرة
بيوم ثناء غال كل تدان
"وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر" لو لم تنصرم لأوان
وهان دم بين الدكادك واللوى
وما كان في أمثالها بمهان
فضاعت دموع بات يبعثها الأسى
يهيجه قبر بكل مكان.
* شاعر فلسطيني