لم أفهم يوماً سبب هوس صديقي باقتناء التّحف الفنية، كان افتتانه بها لا يُصدّق، ما دفعني لأن ألقّبه بـ «أبو التحف» منذ دخل مكتبي وابتسامة ماكرة تطلّ من شفتيه، يحمل بين يديه حصاناً خشبياً أخبرني أنه هدية من جده في عيد ميلاده السابع. قال بحماس
— هل تعرف معنى أن تتسلل إلى قطعة جامدة كهذه حياة تشبه الحياة الواقعية بل تضاهيها واقعيةً؟ في حياتنا المعاصرة صارت هذه القطع أكثر حميمية من الأشخاص
— لم أكن لأعثر لا على الحياة ولا على شيء آخر، قلت له.
جيورجيو دي كيريكو: أنتيغونة مُعَزِّيَةً (زيت على قماش، 1973).

ضحك بثقة العارف بعالم لا أستطيع فهم كُنهه، وطلب أن أرافقه إلى مكان مميز وغير مألوف بالنسبة لي. ذهبنا ذلك اليوم إلى سوق الأنتيكا، لقد كانت تلك أول مرة أعلم بوجود ذلك السوق.
أصبح يحرص كل شهر على اقتطاع مبلغ سخي من راتبه ليشتري قطعة يضيفها إلى عالمه الذي يضاهي الواقع. نخرج يوم الجمعة من العمل ونركب السيارة باتجاه سوق الأشياء القديمة أو دور المزادات أو أي مكان يمكننا العثور فيه على ما يشبع شغفه. كان يأخذني معه رغم أنني لم أكن لأفيده بشيء، فطالما وجدت غضاضة في تبذير كل ذلك المال على أشياء لم تكن تصلح - في نظري - لأكثر من تزيين الصالون أو غرفة المعيشة.
تشاجرت هذا المساء مع زوجتي، ففعلت كما أفعل دائماً، صفقت الباب ورائي وخرجت. جبت الأزقة والشوارع بيأس لأقرر أن أبيت عند صديقي «أبو التحف».
اصطحبني إلى إحدى الغرف المخصصة للضيوف، تمنى لي ليلة هانئة وذهب. وبما أنني كنت متعباً، فقد استلقيت على السرير فور مغادرته.
في تلك اللحظة التي تفصل بين اليقظة والنوم، سمعت صوت همسات آتية من أسفل، ظننت في البداية أنني أتخيل، وبعد برهة تأكدت من أن الصوت حقيقي، فخمنت أن هناك امرأة تقاسمه فراشه. حسدته من أعماق قلبي على ليلته الرومانسية بينما أنام وحيداً.
— لم تكن تريد الزواج، ولكنك لا تمانع إقامة علاقات غرامية. يا لك من سافل! قلت في نفسي.
أغمضت عيني محاولاً الاستغراق في النوم، فجأة تعالى صوت موسيقى كسرت السكون. إنهما يرقصان. اللعنة أي ليلة هذه!
دسست وجهي في الوسادة لتجاهل ما يقع في الأسفل، لكن الصوت لم ينقطع. كانا يرقصان بصخب كمهووسين. جلست فترة على طرف السرير، ثم نهضت متتبعاً مصدر الصوت. هذه أول مرة أتجرأ على النزول إلى الطابق السفلي رغم سنوات الصداقة التي جمعتنا. يبدو أن الفضول أعماني أو شعورٌ بالوحدة هو ما يدفعني لأشاركهما جلستهما، لا يهم السبب الحقيقي. عند آخر درجة دهست شيئاً ما، شيئاً له صوت كصوت طفل، إنها دمية خرجت بطاريتها وأسلاكها. حملت الدمية بين يدي ورفعت عيني أمسح الفضاء من حولي. أعطاني المكان انطباعاً بأنني في متحف مصغّر: منحوتات ودمى ومزهريات و أباجورات ولوحات.. اقتناها على مدى سنوات تغطي الغرفة. بعضها موضوع بعناية في مكانه وبعضها الآخر ينتظر دوره. تقدمت بخطوات وئيدة ورحت أرقب بدهشة هذا العالم المريب، المخالف للتوقعات. لم أصدق! كنت أمام عدد هائل من الدمى والمانيكانات المعلقة بخيوط على الحائط.
في الجهة الأخرى كان يمسكها من خاصرتها ويرقصان بتناغم أنيق.
كان يحضنها حينما همس في أذنها:
— هيا نخلع أقنعتنا، وإذا شئت فلنتبادل. ارتدِ قناعي المزيف ولأرتدِ قناعك الذي بلا تعابير.
انتبهت أنني بقيت بلا حراك، فاغراً فمي، كمن أصيب بصعقة في أعماقه. فصعدت الدرجات فوراً وغادرت المنزل. وصلت أخيراً إلى المنزل بأنفاس متقطعة، تطاردني الصور والأصوات والأسئلة.
أيهما يعد وعاء لمشاعر وحياة الآخر؟
من الذي علم الآخر الرقص؟ أقصد صديقي والمرأة-المانيكان.
هكذا كان علي أن أكتشف متأخراً أنه كان منقسماً بين عالمين متوازيين، وأدرك أن الحياة في الطابق العلوي مجرد ظلال لحياته في عالمه السفلي.
لا أعرف أي صدفة ألقت بي بعد ذلك قرب محل لبيع الملابس النسائية. من داخل سيارتي ظلت عيناي مثبتتين على مانيكان واقفة في واجهة محل زجاجي. ولا أعرف أيضاً أي جنون استبد بي وجعلني أسارع لدخول المحل ـــ وكأن هناك من قد يسبقني ويأخذها مني خلال الثواني التي تفصل بين خطواتي من السيارة باتجاه الباب ـــ وعرض ثمن خيالي للبائعة التي ظلت تغالب اندهاشها أمام إصراري.
أخذت المانيكان وخبأتها داخل خزانة في غرفة المكتب، ومنذ ذلك اليوم فصاعداً، صارت زوجتي تقول إنها تسمع صوت موسيقى صاخبة وضحكات تنبعث من غرفتي.
* وجدة/ المغرب