يُعتبر علاء خالد (1960) من الأسماء الأساسية في تاريخ قصيدة النثر في جيلَي الثمانينيات والتسعينيات في المشهد الشعري المصري. بمفهوم فلسفي، يذهب إلى الشعر، كنوع من المعرفة الإنسانية، لسبر أغوار الذكريات، والوقوف على اللحظة الزمنية داخل الأمكنة. ديوانه الأول «الجسد عالق بمشيئة حبر» (1990) عبارة عن قصيدة نثرية طويلة كشف فيها عن تجارب طفولته. نجد هذا المفهوم الفلسفي في كل تجاربه الشعرية، بينما في ديوانَيه «تحت شمس ذاكرة أخرى» و«تصبحين على خير»، ينطلق إلى ذكرياته مع الأماكن التي كوّنته، وإلى تجربة فقد أمه. يكتب برقّة بالغة لا تعبّر فقط عن الحداد، لكن عن جرح البنوة الذي يتكثّف في لحظة الوداع. أنجز خالد أيضاً أكثر من كتاب عن رحلاته بين الأمكنة منها «خطوط الضعف» (1995). في هذا الكتاب، رسم رحلته عبر الصحراء إلى واحة سيوة، مستكشفاً الذاكرة الشخصية والثقافية خلال الزمن. ومن خلال كتابه «أكتب لك من بلاد بعيدة»، حدّثنا عن أماكن مغايرة مثل اليونان والمغرب، مستخدماً أسلوبه البسيط في المعرفة من خلال فتح حوارات مع أهل هذه البلاد، متأمّلاً تصرفاتهم في محاولة لفهمهم وخلق معرفة إنسانية واسعة. أما في «مسار الأزرق الحزين»، فقد حاول فهم موقع الإنسان من الكون من خلال مجابهة الإنسان للموت. حكى عن تجربته القاسية يوم ساءت حالته الصحية فجأة بسبب خطأ طبي، وخضع لعملية وأُدخل قسم العناية المركّزة وكان يترنّح بين الحياة والموت. وها هو من خلال روايته الجديدة «متاهة الإسكندرية» الصادرة حديثاً عن «دار الشروق»، يسعى إلى استكمال ثلاثيّته عن الإسكندرية التي بدأت مع باكورته الروائية «ألم خفيف كريشة طائر تتنقّل بهدوء من مكان لآخر» (دار الشروق ــ 2009)، ثم «وجوه سكندرية» وأخيراً «المتاهة» التي يعود بها إلى التأريخ للحظة السبعينيات والثمانينيات من خلال مواجهة بين مجتمع العميان وبين شلة المثقفين الذين أسّسوا جماعة أدبية أطلقوا عليها اسم «جماعة الحمير» على غرار الجماعة المشهورة التي تكوّنت في الأربعينيات، وكان ينتمي إليها كل المثقفين أمثال: سيف وانلي، طه حسين، عباس العقاد وناديا لطفي. يقف خالد على لحظة موات المدينة، حيث اختفاء إسكندرية التعددية التي ظهرت مع رباعية لورانس داريل
هل السرد عن الإسكندرية همّ فردي بالنسبة إليك؟
ـــ إنّه همّ ذاتي بحكم أنّ حياتي ترتبط بالمدينة، إنّها المركز بالنسبة إليّ. في البداية، كتبت الشعر، من سنة 1989 إلى سنة 1990، وكان بالنسبة إليّ رحلة داخل المدينة بذكر تفاصيلها من دون التعرض للفظ «المكان» نفسه. بدأت هذه العلاقة تتبلور مع الرواية الأولى «ألم خفيف كريشة طائر تتنقّل بهدوء من مكان لآخر» حيث سردت حياة خمسة أجيال داخل المكان، ثم مع كتاب «وجوه سكندرية». هو كتاب غير خيالي، رسمت فيه بورتريهات لأشخاص مهمّشين أو بشكل أدقّ يتمتعون بخصوصية من ناحية تجولهم داخل الإسكندرية. من خلالهم، أردت رسم بورتريه لشخصية المدينة كما أراها، تكوين الشارع والعلاقة مع المدينة. استمددْتُ هذا المنظور من قراءاتي لإدوارد سعيد ومفهوم الهامش، إلى جانب «اسطنبول: الذكريات والمدينة» لأورهان باموق وغيرهما. فهؤلاء اشتغلوا على صياغة معيّنة مع المدينة. أتكلم عن خرائط الإسكندرية القديمة، وكيف كانت توضح تطوّر المدينة، وعن وجود الإسكندرية في بدايات القرن العشرين من خلال قراءة أعمال مثل «الخطط التوفيقية» لعلي مبارك. بدأت أبحث أيضاً عن حضور المدينة في الفوتوغرافيا من خلال صور الأجانب في النصف الأول من القرن العشرين.

حدّثنا عن قراءتك لإسكندرية داريل؟
تُعتبر رباعية لورانس داريل عن الإسكندرية المرجع الروائي الأول عن المدينة. لم تتشكّل صورة روائية متخيّلة للمدينة من قبل داخل الثقافة العربية، إلا بهذه الرواية. طبعاً، لو استثنينا الصور الشخصية التى رسمها الرحّالة العرب والأجانب الذين قدموا إلى الإسكندرية. هذه الصور الشخصية، كانت تفتقد الدراما الخفية، التي يعمل عليها الخيال، بين قدر الإنسان وقدر المدينة التي يعيش فيها، وهي هنا الإسكندرية. وبالرغم من أنها رواية تقوم أساساً على الخيال، الممزوج بالواقع، إلا أنّ التعامل مع هذه الرباعية وضعها في مرتبة الرواية/ المرجع، المُختلف أو المُتفق عليه. المرجع القابل للتأويل، ليس فقط من وجهة نظر أدبية، بل أيضاً من وجهة نظر سياسية، لأنّه كان سبّاقاً في الكتابة عن الإسكندرية، ومحاولة وضع نظرية تفسّر هذه المدينة الاستثنائية. نظرية هي مزيج من السيرة الذاتية والحدس والحقائق التاريخية وتأويلها، لتصل المدينة من خلال الرباعية إلى كائن واعٍ له ملامحه النفسية المميزة، وسلطته وإرادته الشخصية التي تتعدّى وعي الراوي. عبر الرباعية، تتحول المدينة، إلى ما يشبه اللغز المحيّر، كحبيبة، يكنّ لها الحب والكراهية والبغض والحنان، وكل المشاعر المتناقضة التى لا نرضى بها إلا من حبيبة، كون هذا الحب إحدى حقائق الحياة التي تواجهها عندما تنظر إلى الإسكندرية، الحقيقة التي لا تحتاج إلى تفسير، بل إلى معايشة. وربما هذا ما طمحت إليه الرباعية، أنّه في طريقها للحديث عن الإسكندرية، تحدّثت عن الحبّ.

بعض الآراء اعتبرت أنّ داريل كان عنصرياً في نظرته إلى الإسكندرية؟
ــ وارد جداً، هذه التفسيرات حلّلت ربما النص من خلال نظريات ما بعد الاستعمار. في قراءتنا للأدب خلال الثمانينيات والتسعينيات، لم نكن نلتفت إلى هذه النظريات في القراءة، لأنه لم يكن لها وجود قوي في مصر، وبشكل ما، قد تلقي هذه النظريات الضوء في الكتابات الأجنبية على المواطن المحلي أو الهامش لكنها مسيّسة. برأيي، لو كان الكاتب عنصرياً، لما تحقق له هذا العمق في أفكاره الذي يضفي قوة واتزاناً على العمل ويقلّل من حدة كونه ضد الآخر. وربما يُقصد بالعنصرية هنا، عدم التفاتته إلى أصحاب البلد، لكنّ هناك شخصية أساسية في الرواية هي نسيم القبطي ابن البلد، ولكنه من طبقة اجتماعية أرستقراطية، ربما لا تمثل الأغلبية، لكنها بالتأكيد ذات رمزية، وإلا لما تعمّد الكاتب إدخالها في عمله.

ما وجهة نظرك إزاء فكرة تسييس الأدب حالياً في مصر؟
ـــ التسييس الآن يأخذ شكلاً مختلفاً عن طريق خلق نمط معيّن للكتابة يرتكز إلى إثارة قضايا نوعية أو هامشية ترفع شعار التمكين لهذه الهوامش، والابتعاد عن المركز أياً كان. أظن أن ذلك حدث بعد سيطرة المدرسة الأميركية ونظريات ما بعد الاستعمار، وانتشار مفهوم المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان. بدأ الهامش يأخذ دور البطولة، بقوة الدفع والتوجه المباشر وغير المباشر من هذه النظريات.
الهامش في أدب الخمسينيات مثلاً كان موجوداً داخل الفكرة اليسارية، لكن كانت هناك سمات مشتركة معيّنة للعوالم الأدبية مثل الحديث عن الطبقة الوسطى أو النزعة للطموح التحرري.
لكنّ المشترك الآن في الأدب لا يقوم على عالم ذي معالم محددة، بل على فكرة فردية ذات نزوع غرائبي تدفع المتلقّي إلى التعاطف أو الانبهار بمدى اختلاف هذا الهامش عن حياته، أو يشكّل صدمة له. وهذا يفرض لغة وصياغات معينة قد تكون غرائبية، صادمة أو فجّة تسعى إلى تفكيك اللغة الاجتماعية المتعارف عليها إلى حد ما. التفاعل مع هذا النمط ربما يسبّب الصدمة، ولا يتيح الحوار معها، كون أدوات الحوار في الغالب مكبّلة. هذا النص الهامشي يمارس سلطة على قارئه لا يمكنه الفكاك منها.

أنجزت ثلاثة كتب عن الإسكندرية، آخرها روايتك «متاهة الإسكندرية»، كيف تختلف مدينتك عن مدينة داريل أو إبراهيم عبد المجيد مثلاً؟
ـــ أظن أنّها مختلفة، لأن الزمن الذي كتبت فيه روايتي مختلف، لكن لا أحد يستطيع إنكار أنّ لورانس داريل صنع مرجعاً قوياً للكتابة عن الإسكندرية، كل كاتب كان يريد أن ينافس هذا المرجع، سواء إدوار الخراط من خلال كتابته عن المجتمع القبطي المضاد لمجتمع داريل أو حتى إبراهيم عبد المجيد من خلال الكتابة عن فترة الحرب العالمية الثانية، وحضور ثنائية الأجنبي والمصري، التي تستدعي بلا شك نوعاً خفياً من المقارنات المسيّسة.
في زمن داريل وغيره، كانت الإسكندرية كياناً حيوياً بذاته، مع تعدد ساد المدينة. أضف إلى ذلك أنّه كان زمن بدون مرجع متخيَّل سابق عليه، وهذا ما منحه فضل التأسيس، لكنّ زمن روايتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، يعتبر لحظة موات وجمود وبداية حقبة منفصلة عما قبلها. شواهد المدينة المتعددة كانت توجد في المقابر لا في الحياة اليومية. إحياء المكان هنا كان من خلال الشخصيات الرئيسية وتحرّكها داخله، وصدامها مع هذا الموات والجمود، لأن الإسكندرية، بل مصر كلّها، في تلك اللحظة لم تكن تمتلك شيئاً تعطيه لأفرادها، سوى الصدام واليأس، عكس إسكندرية داريل التي كانت تملك التعدد الثقافي والإنساني، وتحوي فراغات وفضاءات كثيرة غير محسومة. لذا كان هناك وعد بالمستقبل.

هل تعتقد أن هذا التوقيت هو زمن سرديات المكان أم أنّ الرغبة في الكتابة عن المكان تأتي بعد استقرار ما للذات والتجربة؟
ـــ أظن أنّ الكتابة عن المكان كانت ملازمة لي منذ بداية كتابتي للشعر، لكن بشكل مجرّد من خلال تماهي الذات مع الخارج بكل تأثيره وحركته وتشويشه. تطوّر الأمر لاحقاً ليستحيل رغبةً ملحّة في السفر وصناعة حيّز لأماكن مختلفة وجديدة داخل الذات. لا أعتقد، في أي حال، بأنّ هناك استقراراً للذات. ربما المكان الآن هو المستقرّ بشكل مجازي. أما الذات، فهي القلقة التي تبحث عن متنفس يستوعب قلقها. بخصوص «متاهة الإسكندرية»، أصبح المكان مادياً ومركّباً، والأشخاص داخله ذوو أدوار واضحة. أنا بدأت متابعتها منذ عام 2013، بسبب رغبتي في الكتابة عن شخصيات بعينها خلال حقبتَي السبعينيات والثمانينيات. من عام 2013 حتى مطلع هذا العام، كنت أنجز أعمالاً أخرى وأعود من وقت إلى آخر للرواية، ورحت أنفّذ بناءات مختلفة للشخصيات على مدار سنين وأرسم خططاً على الورق لمصائرها، لأنّني كنت أؤجّل المواجهة المكثفة مع هذا النص. لم يكن الأمر بهذه السهولة، لأنّه مليء بالمواجهات النفسية الذاتية الصعبة. لكنّ فترة الكورونا، صنعت مفهوماً مختلفاً للزمن، جعلته مغلقاً بلا مستقبل، ما دفعني لاستعادة زمني الداخلي من خلال كتاباتي عن الإسكندرية في السبعينيات بذاكرة مشحذة.
تسييس الأدب يتّخذ اليوم شكلاً مختلفاً عبر خلق نمط معيّن للكتابة يرتكز إلى إثارة قضايا نوعية أو هامشية ترفع شعار التمكين للهوامش


خلال هذه الفترة، كتبت «بيت الحرير» و«أشباح هاينرش بل»، هل كان أسهل عليك كتابة هذين العملين من مواجهة روايتك عن الإسكندرية؟
ــ رواية «أشباح بيت هاينرش بل» جاءت بعد حصولي على منحة تفرّغ في بيت صاحب «نوبل» الريفي في ألمانيا. هذه الرواية هي ربما نوع من الروايات الفكرية التي يدور فيها صراع بين أفكار مجموعة من الكتّاب من جنسيات مختلفة يعيشون في هذا البيت، تشبه ربما رواية «لعبة الكريات الزجاجية». كانت تجربة لطيفة قائمة على حدث حقيقي. بالإضافة إلى ثبات زمن المنحة، أي المستقبل، كان التطوّر والجدل بين الأفكار يحدثان سريعاً بين الكتّاب، كون هناك خط نهاية وشيكاً. أما «بيت الحرير»، فكانت رواية طارئة مرتبطة بحدث زمني هو زمن الثورة. كان لا بد من كتابتها لأنها غير قابلة للانتظار. وبالفعل، كانت كتابة هاتين الروايتين أسهل بالنسبة إليّ من الكتابة عن الإسكندرية، خصوصاً أنّي استغرقت وقتاً طويلاً لتشكيل بناء يرسم خريطة تخصّ حياتي في الإسكندرية، أي «ماكيت» للمدينة يتحرك داخله الأشخاص للتوثيق لها، ولحياتي داخلها، ولتوديع هذه الأماكن التي مررت عليها وأصبحت جزءاً من هذا الماكيت الروحي.

المطّلع على نتاجك، يلاحظ رغبتك في المعرفة المجرّدة للأشخاص والأشياء، وهو ما يظهر جلياً في الرواية، هل تسعى لفهم الحياة أم للكتابة؟
ــ أحب تسميتها معرفة تأمّلية مرتبطة عندي بمعرفة مادية لفهم الظواهر والأشخاص عامةً. بالفعل، قد يكون عندي تفكير استفهامي ذو علاقة بالمعرفة وفهم الحياة، لأن السؤال هو طريقة تواصل، يختصر طريقاً طويلاً من سوء الفهم، ويصنع جزءاً من إدراك الذات. في النهاية، معرفة الآخر مهمة لأنها ضد العزلة بشكل ما، ولكن من المهم أن يعيش الآخر داخلنا ليس كمنافس ولكن كمحاور. أظن أنني اكتسبت أداة الاستفهام تلك عن طريق كتابة الشعر، لأنه جعلني أخوض رحلة داخلية لاستقصاء مصدر التعب النفسي والغضب اللذيْن شعرت بهما في بدايات كتابتي، فبدأت بالبحث عن مصدر السلطة الاجتماعية والدينية داخلي، وتقصّي بداياتها، كونها تحمل جزءاً من الإجابة. لذا، فالرحلة كلّها كانت عبارة عن سؤال، وقد صنعت مساراً لناحية الانفتاح على الآخر، المشتبك بقوة بكل مراحل تقصّي بدايات الألم أو السلطة، أو الخوف.

اختياراتك نوعية وفردية دوماً بدءاً من رفض الذهاب إلى القاهرة كمركز ثقافي، واتجاهك للعمل اليدوي، لماذا؟
عندما دخلت المجتمع الثقافي وقت تحلّله في التسعينيات، كانت القاهرة مدينة سائبة، بلا صاحب، مليئة بالهزائم الشخصية. والفضائح والنميمة والموت والانتحارات وقرارات الهجرة وحروب الجديد مع القديم، وبداية دخول الثقافة مرحلة التسليع ضمن السوق الثقافي الكبير الذي صنعته وزارة الثقافة... حالة تشبه الهيجان الكوكبي، الذي تسبّبه وقوع القاهرة، أو «المراكز» بشكل عام، فلكياً في مدار عدد من الكواكب المتنافرة، فلا تعرف من أين تأتي الضربة، ويتكاثر الصراع، هل من داخل البشر، أم من التراكم، أم من قدر خارجي سابق علينا.
عندها تركت القاهرة في منتصف التسعينيات تقريباً، بعدما كنت أتردد عليها بصفة منتظمة منذ عام 1990 بعد صدور ديواني الأول «الجسد عالق بمشيئة حبر». أقمت هناك لفترات طويلة وسط تفتّح «وردة الشعر» بيننا كمجموعة من الشعراء والمثقفين. مع الوقت، بدأت أشعر بالفراغ يتمدّد حولي وداخلي، وحول الجميع. عندها، اتخذت قرار العودة إلى الإسكندرية، فلم أشأ أن أكون «مثقفاً» بهذا الشكل. وسط هذا الفراغ، بحثت عن عمل يدوي يربطني مفاهيمياً وروحياً، بمجتمع أوسع، وأعيش فيه الثقافة كطريقة حياة. اتجاهي للعمل اليدوي كان ضد مفهوم «الوظيفة» لأني تعرضت للضغط الشديد، وربما لنوع من التمييز الوظيفي، جعلني أقدّم استقالتي لتجنب هذا التمييز، بسبب اختلافي الفكري عن الآخرين، المتشددين دينياً. عانيت مثل غيري من تبعات صعود تيّار ديني متشدد في التسعينيات، كان يرمي بظلاله في كل مكان.

بالمناسبة، حدّثنا عن تجربة العمل اليدوي وكيفية تأثيرها عليك ككاتب؟
ـــ عندما عدت في منتصف التسعينيات، بدأنا، زوجتي سلوى (التشكيلية سلوى رشاد) وأنا، في تصنيع الورود الصناعية من عجينة الدقيق، وتلوينها وتكوين أكاليل وباقات ورد، ندور بها على الغاليريهات الشهيرة لنبيعها. أتذكر أول غاليري شهيرة في الإسكندرية اشترت صاحبته منا باقتين من الورود، كان ذلك عام 1994 بـ 240 جنيهاً. كان مبلغاً كبيراً وقتها، اقتسمته مع سلوى. ثم بدأنا نشارك في البازارات، بالورود والأكاليل، ومعلّقات النسيج من الـ «باتشوورك»، وصنعنا أيضاً ملائكة عيد الميلاد من الزجاج المعشق. في عام 1996، افتتحنا الغاليري التي أصبحت مثل حقل المصنوعات اليدوية التي نصنعها بأنفسنا، أو نأتي بها من نتاج أيدٍ أخرى في نواحي مصر. رسّخنا «الحسّ اليدوي» في كل حياتنا، وكان منقذاً لنا، ربطنا دائماً بالأرض التي نسير عليها، ولو غابت عنا في المدينة. حسّ يربطنا بالإنسان الأول الذي كان يبحث عن اتساق وألفة وسط كون موحش ومخيف، وأكبر منه بكثير. هذا الإنسان الذي أنبت الأرض، ليخرج منها الثمر، ليأكل منه، ويستظل به، ويرى فيه الآخر، الذي يبدّد وحشته وغربته التي لن تنتهي. لقد داوى العمل اليدوي الجروح التي خرجت بها من أعراض تحلّل الجماعات والنخب الثقافية، وكان المنقذ في كل لحظات الفراغ وانسحاب العالم من حولنا.

كيف تتنوّع كتاباتك في طرق مختلفة ومغايرة بين الشعر والرواية والمقال والصورة؟
ـــ الفكرة أن الكتابة أو الفن كلّه ينبع من مصدر واحد، لأن داخل حجرة الذات حجرات أخرى تخصّ الآخر. تعدّد أشكال الكتابة لا يرتبط بفكرة ساذجة عن توقف مصدر معين، فيتم الانتقال إلى آخر، كلها منابع ممتدة من الذات. كل الكتّاب الذين قرأت لهم سواء توفيق الحكيم أو محمد التابعي أو يحيى حقي أو طه حسين أو غيرهم، انخرطوا في ألوان إبداعية متعددة. حتى مقالات «الأهرام» المسلسلة لعبد الرحمن الشرقاوي عن ابن تيمية أو غيره مثلاً، أو مقالات يوسف إدريس، كانت تحمل أنواعاً من الكتابة القصصية والتحليلية. «المقال» بشكل عام نوع أدبي تعدّدي في جوهره. كل نوع من الكتابة يكشف لك جزءاً من الذات. لذلك، أنا ضد موضة «النص الموازي» التي تتجه إلى كتاب سرد موازٍ لديوان شعر مثلاً للخروج من أزمة عدم الكتابة، لأن هذه الطريقة تعيق فتح آفاق جديدة للداخل.

وما مكانة الشعر بالنسبة إليك، وما مكانة السرد؟
ـــ في البداية كان السرد بالنسبة إليّ هو الشعر، بعدها أصبح السرد وسيلةً للاستقصاء والمعرفة. لكنّ الشعر عندي يحمل القشرة العاطفية الأولى والمبهمة لميراث التأمل الطويل. الشعر عندي يخرج من منطقة التفلسف، من دون إدانة لمفهوم التفلسف نفسه، لكن باعتباره صيغة للبحث عن أفكار، كما يعرّفه جيل دولوز.

تحدّثت سابقاً عن المشهد الشعري في مصر ووصفته بأنّه نسائي، لماذا ترى ذلك؟
ــ أرى أنّ المرأة اليوم في المقدمة حتى اجتماعياً بسبب لحظة الزخم السياسي والاجتماعي، وأيضاً بسبب ميراثها من المشاعر والتأويلات والنظرة إلى العالم، التي تكوّنت في منطقة الظل داخل الذات، ولم تخرج إلى العلن لظروف كثيرة منها السلطة أو التمييز، أو التوجه السياسي وعصور الإقصاء. بالفعل المشهد الشعري في مصر الآن نسائي، لأنّ المرأة تمتلك ميراثاً إنسانياً كان محجوباً وموظفاً لمصلحة أفكار معينة لفترة طويلة. وهذا الميراث الآن حرّ، ولكنْ ليست كل شاعرة تكتب الآن هي في قلب هذا المشهد، لأن الرهان يبقى على امتلاك وعي عميق وحقيقي بذات المرأة، يتجاوز أزمة القهر، ورد الفعل، وغرضه يكون إنسانياً بحتاً، وليس للتوظيف لمصلحة قضية معينة ذات أفق ضيق. ربما هنا يكشف الوعي عن نفسه ويكون قائداً للجميع، كما تنبّأ رامبو الذي كان ينتظر اليوم الذي تكتب فيه المرأة.
الأزمة الحقيقية الآن أن هناك مواجهة اجتماعية بين الرجال والنساء بلا مرجع محدّد، تحمل في طياتها الغضب والعنف والإقصاء، أي لا حوار قائماً. تسيطر على المشهد مواقف حادّة ربما غير قابلة للمراجعة، ربما تعدّد أقطاب مناقشة الأزمة هام جداً، حتى لا تتحول إلى صراع بلا نهاية، يكرّر نفسه ويكرّر إشكالات المجتمع، أكثر مما يُنتج وعياً جديداً، «وعي ما بعد التروما».

ألا ترى أنّ هذه المواجهة قد تصنع نوعاً من الهشاشة المفيدة للشعر؟
ـــ لا لأن هذه المواجهة تخلق نوعاً من التسلّط والتصالب من طرف الرجال، وليس الهشاشة الشعرية، ولأن الشعر ليس نابعاً فقط من هشاشة لكن من مراجعة للوجود الذاتي والاعتراف بالأخطاء من خلال مواجهة سلطة أشمل من الأفراد تجعل الهشاشة نوعاً من الاكتشاف لا الانتقام. وربما للأسف هذه هي الحالة من المواجهة الحادة مسيطرة على جميع الأطراف، لأنّه تم توظيف المشهد سياسياً، وربما لأن الرجال تحت هذا الهجوم لا يستوعبون التخلي عن فكرة السلطة، وهذا يحتاج إلى تفسير ومراجعة وبحث أبعد لمفهوم الرجل ومفهوم السلطة معاً، بينما النساء، في هذه الحالة مدفوعات بتاريخ طويل من العنف ضدهن. لعلّ المرأة والرجل يحتاجان الآن إلى مراجعة خارج الأطر الإيديولوجية المسيطرة.

تشرف على مجلة «أمكنة»، والعدد الأخير كان مخصّصاً للحيوات البديلة، هل تعتبر حياتك وزوجتك حياةً بديلة؟
ــ هناك أجيال كثيرة بعد ثورة يناير حاولت اتخاذ مسار بديل لحياتها كنوع من الخلاص الفردي لخلق مجتمع موازٍ وآمن. كان مهماً بالنسبة إلينا في المجلة الوقوف على هذا التحول.
بالنسبة إلى نمط حياتي، أعتقد أنه يتخذ منطقةً وسطية بين التجربة الذاتية والتجربة الاجتماعية، لأنّ جزءاً من منظومة الزواج أصلاً هو العلاقات الاجتماعية المتكوّنة مع المحيطين بنا، واختيارنا للعمل اليدوي وتجربة الغاليري يتخذان الطابع الفردي والموازي في آن.

شكّلت مع زوجتك الفنانة سلوى رشاد ثنائياً رحّالاً لتوثيق رحلتكما إلى أكثر من مكان في مصر، لماذا تقومان بهذه الرحلات؟ كيف تصف هذه الشراكة؟ وكيف تختلف رؤية الأماكن بعينين عن رؤيتها منفرداً؟
ـــ كأنّ هذه الرحلات تعيد العلاقة والحياة إلى مكانها الصحيح، لأن الحياة بشكل أو بآخر هي رحلة. التواجد يصبح أقوى مع الحركة لأننا نذهب إلى منطقة أبعد قليلاً من الواقع كأنها مكان للحلم. التواجد معاً يجعلنا حتماً نرى الأماكن بطرق مغايرة. مثلاً، لسلوى علاقة وطيدة مع الأحجار. هذا الحس الأركيولوجي بالأرض والتربة والنباتات، لفت انتباهي إلى منطقة لم أكن مهتمّاً بها. في رحلاتنا، نعود بحقائب ثقيلة محمّلة بالأحجار ربما أثقل من حقائب السفر. وهي معروضة في البيت تعيش معنا مع باقي الأثاث وأشيائنا وتفاصيل حياتنا.

حدّثنا عن الورش وحلقات العمل التي تقوم بها؟
هذه الحلقات أو الورش هي نتاج المنهج الذي تعلّمناه من تحرير المجلة، فالورش عبارة عن التطبيق العملي لأفكار المجلة أو منهجها. جاءت فكرة الورش بسبب توقف المجلة طويلاً بعد الثورة. عرض عليّ «مركز الجيزويت الثقافي» إجراء هذه الورش. كانت الفكرة في البداية مستغربة بالنسبة إلي، لكنها نجحت بشكل لم أتوقعه. جاءت الورشة الأولى «مسارات في المدينة» من خلال رحلتنا في المدينة عبر رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ ومقاربة زمن الرواية والتحول الذي طرأ على المدينة حالياً، وتقصّي الفارق بين المدينتين: مدينة محفوظ ومدينتنا.