لدينا فقرة غريبة في سيرة ابن إسحق التي هذّبها ابن هشام، أي اختصرها، فصارت تُعرف أحياناً بسيرة ابن هشام عند بعضهم. ورغم غرابة هذا الفقرة، فقد أخذها الباحثون كمسلّمة تقريباً، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء التدقيق فيها. تقول الفقرة: «وقد كانت قريش، لا أدري أقَبلَ الفيل أم بعده، ابتدعت رأي الحمس، رأياً رأوه وأرادوه؛ فقالوا‏: ‏‏نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت، وقُطّان مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحلّ كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم».وكما نرى، فإن هذه الفقرة تقدم لنا زعمين اثنين:
الأول: أن الحمس «رأي» ما ابتدعته قريش ابتداعاً في وقت ما ليس بعيداً جداً عن بدايات الإسلام.
الثاني: أن قريشاً كانت كلها حمساً.
هذان الزعمان أديا إلى تشويش هائل في فهمنا لديانة الجاهلية، ونهاياتها على وجه الخصوص، وإلى تشويش فهمنا لممهدات الإسلام وبداياته.
أما الزعم الأول، فمنقوض بقوة لدى بعض المؤرخين مثل اليعقوبي الذي يعلن أن الحمس شرعة دينية، وليست «رأياً» مبتدعاً: «كانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة... فهاتان الشرعتان اللتان كانت العرب عليهما» (اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي).
وكما نرى في هذا المقتبس، فإن العرب عموماً كانوا عند اليعقوبي مقسومين دينياً إلى شرعتين، أو طائفتين: الحمس والحلة. بالتالي، فالحمس طائفة دينية، وليست رأياً أو فكرة اخترعتها قريش في مكة. لكن الحقيقة أنّه كانت هناك طائفة ثالثة عند العرب هي طائفة الطلس: «ولم يذكر الطلس من العرب، وهم صنف ثالث غير الحمس والحلة» (السهيلي، الروض الآنف). يضيف الدكتور جواد علي «وأضاف بعض أهل الأخبار إلى هذين الصنفين، صنفاً ثالثاً قالوا له: «الطلس» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). لكن لأن الطلس كانت طائفة بين بين، جزء منها يتبع طقوس الحمس وتقاليدها، والثاني يتبع طقوس الحلة وتقاليدها، فقد جرى التركيز على الطائفتين المركزيتين وإهمال هذه الطائفة في كثير من الأحيان.
وأما الزعم الثاني، القائل بأنّ قريشاً كلها حمس، فهو الزعم الأكثر شيوعاً والأخطر. إذ أنه يشوش فهمنا لواقع مكة الديني في نهاية الجاهلية. وهو ما يؤثر على فهمنا لبدايات الإسلام من خلال طمس الصراعات المذهبية العميقة في مكة التي نشأ الإسلام في عالمها. والحقيقة أنّ قريشاً كانت، في واقع الأمر، مقسومة إلى الطوائف الثلاث ذاتها التي انقسمت إليها العرب في ذلك الوقت: الحمس والطلس والحلة. أكثر من ذلك، فقد بيّنت في كتابي: «ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحمس والطلس والحلة» أنّ الرسول كان من طائفة الحلة، لا من طائفة الحمس، وأن عائلته كانت من هذه الطائفة أيضاً. وقد ظهر ذلك في ثلاثة أخبار من سيرة الرسول:
الخبر الأول: يقول بأن الرسول شوهد في الجاهلية وهو يقف بعرفة. وعرفة موقف الحلة لا موقف الحمس. أما موقف الحمس، فهو المزدلفة. وهم لا يقفون بعرفة لأن عرفة خارج نطاق الحرم، بينما المزدلفة داخل هذا النطاق. ووقوف الرسول بعرفه يشير بوضوح إلى أنه كان من طائفة الحلة.
طمس الصراعات المذهبية العميقة في مكة التي نشأ الإسلام في عالمها


وبعد فتح مكة، لم يُثبت الإسلام لا موقف الحمس ولا موقف الحلة، بل دمج بينهما وصار موقف الحج الإسلامي مزدوجاً. فالمسلمون يقفون بعرفة أولاً ثم يقفون بالمزدلفة بعد ذلك، كما ورد في سورة البقرة: «فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس» (البقرة 198-199). أما كلمة الناس هنا فتعني: الحمس، الذين مفيضهم المزدلفة. عليه، فالآية تأمر المسلمين بأن يفيضوا من مفيض الحمس، أي المزدلفة، بعد إفاضتهم من عرفات: «ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قيل: الخطاب للحمس، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم» (تفسير القرطبي). لكن الخطاب موجّه للمسلمين لا للحمس كما يعتقد القرطبي.
الخبر الثاني: أنه كان للرسول حَرَميّ، أي رجل من أهل الحرم وقطانه، أي من الحمس، كي يعيره ملابسه ليطوف فيها. فلم يكن مسموحاً للحلة بارتداء ملابسهم القديمة في طوافهم، كما لم يكن مسموحاً لهم الطواف بملابس جديدة يشترونها. لذا، كان لا بد للحاج الحلي من حرمي مكي، أي حمسي، كي يعيره ملابسه للطواف بها، فإن لم يجد طاف عارياً. وقد أثار هذا الخبر الاضطراب عند المفسرين لأنه يشير إلى أن الرسول غير حمسي، في حين أن قناعتهم أنه حمسي.
الخبر الثالث: أن الرسول كان غير مسموح له بدخول البيوت من أبوابها وقت الإحرام. وقد أثار هذا الحديث اضطراباً كبيراً عند المفسّرين لأنّ الحلة هي التي لا يسمح لها بدخول الأبواب في الحج، وهم يعتقدون أن الرسول حمسي.
بناء على ذلك، ففكرة أنّ قريشاً كلها حمس طرأت بعد الإسلام، وفي العصر الأموي على وجه الخصوص في اعتقادي. ثم أصبحت فكرة سائدة منذ ذلك الوقت. حتى اليعقوبي نفسه الذي أفهمنا أنّ الحمس والحلة شرعتان عامتان بين العرب، عاد ليخضع لهذه الفكرة الخاطئة ويقول لنا إنّ قريشاً كلها حمس: «وكانت العرب في أديانهم على صنفين: الحمس والحلة. فأما الحمس فقريش كلها، وأما الحلة فخزاعة لنزولها مكة ومجاورتها قريشاً» (اليعقوبي). وهكذا تتحول شرعة الحمس إلى شيء خاص بقريش وحدها، ولا تشمل العرب الآخرين. وهذا هو جوهر الفكرة التي أتت بها فقرة ابن إسحق الغريبة.
لكن من هو الذي أضاف فقرة الحمس الغريبة هذه إلى سيرة ابن إسحق؟ قد يظن المرء أنّ ابن هشام، الذي «هذّب» سيرة ابن إسحق هو من فعل ذلك. فهو قد أعلن بوضوح أنه حذف أشياء من سيرة ابن إسحق. لكنني أعتقد أن الأمور كانت قد رسخت في وقت ابن هشام، ولم يعد لا هو ولا غيره بقادر على إحداث تغيير بهذا الحجم. كما أنه لم يكن أحد في زمانه ليقبل بمثل هذا التغيير. أكثر من ذلك، فأنا أعتقد أن ابن إسحق لم يكن المسؤول عن إدخال هذه الفقرة في سيرته. فهو قد أخذها عن غيره في ما يظهر.

ابحث عن المستفيد
وللوصول إلى من زرع فكرة هذه الفقرة في سيرة ابن إسحق، علينا في ما يبدو أن نبحث عن المستفيد من إضافتها. واعتقادي القوي أن بني أمية، الذين هم من عبد شمس بن عبد مناف، كانوا المستفيدين من ترويج فكرة أنّ قريشاً كلها حمس. فقد كانت عبد شمس من طائفة الحلة، ومن حلف طائفة الحلة الذي هو حلف «المطيبين». أما الحمس، فكان حلفهم هو حلف «الأحلاف» أو «لعقة الدم» كما يسمى أيضاً. لكن قبيل الدورة الأخيرة من الحفل الطقسي - المسرحي الذي كان يُقام في مكة من أجل عرض الأحداث التي أدت إلى تشكيل الحلفين، انشق بنو عبد شمس عن حلف «المطيبين» وانضموا إلى حلف «لعقة الدم»، أي خرجوا من حلف الحلة المطيبين، وانضموا إلى حلف الحمس لعقة الدم. ويظهر هذا بوضوح في خبر سرقة غزال الكعبة، الذي كان جزءاً من العرض - الحفل الذي نتحدث عنه. ومع خروجهم من حلف المطيبين، تحول اسم هذا الحلف إلى «حلف الفضول»، أي حلف من فضل وتبقى من «حلف المطيبين» بعد خروج عبد شمس.
إذن، فالحادثة الكبرى التي جرت في شباب الرسول، وقبل بعثته، كانت انشقاق عبد شمس عن حلف الحلة، حلف المطيبين، الذي كان بقيادة بني هاشم، وزعيمهم في ذلك الوقت عبد المطلب، جد الرسول. وقد حدث ذلك في ما يبدو على أرضية اقتصادية. فبنو أمية كانوا قد ازدادوا ثراء في نهاية الجاهلية حدّ أنهم لم يعودوا يطيقون السير وراء زعامة آل هاشم الذين تراجع موقعهم الاقتصادي بحدة. وكان لهذه النقلة الكبيرة التي اتخذها بنو أمية أثر حاسم في مصير مكة لاحقاً، بل وفي مصير الإسلام ذاته.
ومن الواضح أنه كان من مصلحة بني أمية بن عبد شمس، الذين صاروا ممثلين للإسلام بعد سيطرتهم على الخلافة، تضليل الناس بشأن هذه الحادثة التي كانت في جوهرها انشقاقاً عن عائلة الرسول، بني هاشم بن عبد مناف الذين انبثق من بينهم الإسلام. بذا يمكن افتراض أنه جرى في عهد سيطرتهم، العهد الأموي، طمس واقع التنوع الطائفي في مكة الجاهلية، وتحويل مكة كلها إلى حمس. فهذا يعفيهم من الحرج، حرج الانشقاق عن عائلة الرسول، وينسي الناس فكرة قد تفيد أخصامهم الساعين إلى ضرب شرعيتهم. فحين تصير قريش كلها «حمس»، فلن يكون هناك مجال للحديث عن انشقاق عبد شمس عن أبناء عمومتهم بني هاشم وانضمامهم للحمس.
أما الشخص الذي كان لديه من الإمكانيات ما يجعله قادراً على تعمية التاريخ، وتحويل قريش من مجتمع متعدد الطوائف إلى مجتمع من طائفة واحدة، لا مجال فيه للانشقاق والخروج، فهو في ظني ابن شهاب الزهري، أحد أساتذة ابن إسحق، بل أستاذه الأكبر. وعلاقة الزهري بابن إسحق معروفة جيداً. كما أن علاقته الوطيدة ببني أمية معروفة جداً أيضاً. فقد كان فقيراً معدماً، فأقاله بنو أمية من الفقر ورفعوا شأنه. وقد حدثنا هو عن كيف بدأت هذه العلاقة. فقد أدخله قبيصة بن ذؤيب إلى ديوان عبد الملك ابن مروان، حيث فرض له بالديوان، ثم أمر بإثباته في صحابته وأن يجري عليه رزق الصحابة. وقد تحول الزهري بعد ذلك إلى شخصية أيديولوجية كبيرة الشأن عند الأمويين.
لقد أخرج الأمويون ابن شهاب الزهري من العدم إلى الرفاه والشهرة. ويبدو أنه رد لهم جميلهم، بأن أخلى قريشاً في الجاهلية من الطوائف، وجعل الحمس وحدهم فيها، معفياً إياهم من الحرج التاريخي: حرج الانشقاق عن عائلة الرسول. وهو ما أدى إلى تشويش معرفتنا بقريش وبمكة وبنهايات الجاهلية وبدايات الإسلام.
* شاعر فلسطيني