يصبح الهامش أحياناً هو المتن، ما هو منسي يربكنا أكثر كأنّ شيئاً ما داخلنا يتحرك لنفكر في المشهد الأوسع، أو كما قال الشاعر الأرجنتيني أنطونيو بوركيا في إحدى شذراته: «البحر الذي نخفيه في قطرة ماء يخفي قطرة ماء». هكذا تذهب عدنية شبلي بعيداً نحو الإمساك بتفصيل صغير قد يحفّز رؤية المشهد من جديد وإعادة تأمله، من دون أن تقول أشياء كثيرة عن الحرب في روايتها «تفصيل ثانوي»، الصادرة طبعتها الثانية هذا العام عن «دار الآداب»، (دخلت بنسختها الانكليزية قائمة «بوكر» الطويلة لعام 2021). يصبح الأقل هو الأكثر وغير المهمّ هو الضروري، بالنسبة إلى الروائية الفلسطينية التي تقيم في ألمانيا وتعمل كأستاذة زائرة في «جامعة بيرزيت». وقد فازت روايتاها «مساس» (2002) و«كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب» (2004) بـ «جائزة عبد المحسن القطان». التفصيل الثانوي الذي يهم الكاتبة هنا هو الهامش، لكنّه هامش أساسي في رحلة بحثنا ونبشنا للماضي مرة أخرى. ففي الجزء الأول من الكتاب، تسرد شبلي بصوت ثالث غائب تفاصيل عن إقدام مسؤول كتيبة عسكرية اسرائيلية في منطقة النقب على اغتصاب فتاة عربية وقتلها في آب (أغسطس) 1949 أي بعد «اغتصاب» واحتلال فلسطين بعام واحد.

تتنقل الكاتبة ببطء لسرد تفاصيل الحادثة، فنشعر كأنها تضع ميكروسكوباً خفياً داخل المكان. نشعر بتحركات الضابط وتنقلاته وحتى لسعة الحشرة لوركه وتحسّسه. يبدو أن حركة جسده مهمة جداً لرؤية المشهد، حتى مراقبته للمتسللين العرب ونداءه على باقي الجنود ونباح الكلب ورائحة الفتاة وصوتها المكتوم غير المفهوم. لا عواطف ولا إسقاطات ولا حتى آراء هنا. فقط تسليط الضوء على هوامش الحدث، كأن الكاتبة تفضل أن ندخل المشهد ونتأمله عن كثب من دون أن نقول شيئاً. ينتهي الجزء الأول بالجريمة، لكن الجزء الثاني يبدأ بإحساس الحاضر: التفاصيل كثيفة أيضاً، لكنها هذه المرة عن فتاة من رام الله، وهي موظفة تقرأ عن الحادثة في جريدة إسرائيلية وينتابها الشغف للبحث عن آثار الجريمة لأنّ هناك تفصيلاً ثانوياً وشخصياً يهمّها هو أنّ تاريخ الجريمة هو يوم ميلادها بعد ربع قرن. تعتبر هذه المرأة أنّ هذا التفصيل الثانوي نرجسية ما، ولكنها تستسلم له لأنها مؤمنة أنه مهم وينبع من داخلها. تنطلق الفتاة في رحلة بحث تكون مضطرة فيها لاستعارة هوية فتاة أخرى كي تستطيع عبور الحواجز للوصول إلى مكان الجريمة. هنا دخول آخر الى الماضي، كأن الرحلة تقضي بشغف شخصي وتفصيل هامشي لدخوله. كأن الكاتبة تستنطق هنا تفصيلاً صغيراً ليسرد لنا أشياء كثيرة من دون أن تشرحها أو تذكرها في الرواية. هي إنما تعطي للهامش قوة الإيحاء بهول الجريمة كأن التفصيل الشخصي هو الذي يقودنا إلى خوض تلك الرحلة التي يرافقنا فيها الخوف، وأحياناً تغيير بطاقات هويتنا فقط لنتسلل إلى ماض يعنينا جميعاً. ربما يكون هنا الاغتصاب أو الاحتلال أو حتى الظلم الاجتماعي. لا فرق في هذه الرواية بين القتل والاحتلال والظلم والاغتصاب، فالجريمة واحدة والبحث عن آثارها ينطلق من الذات ومن ذاك التفصيل الإنساني الصغير.
تدخل الرواية إلى لحظة فردية تكون بمثابة الضوء في عتمة جماعية


تذكر الكاتبة على لسان المرأة في الجزء الثاني من الرواية بأنّها من هؤلاء الذين يخافون تجاوز الحدود. تقول: «ما إن أتجاوز حداً ما حتى أنزلق داخل هوة عميقة من الإحساس بالاضطراب». ولذلك تقرر البقاء في البيت، لتتجاوز الحدود وهي في المنزل عبر النوافذ الكثيرة. كأن شبلي هنا، ترسم حدوداً بين الماضي والحاضر، بين الصوت الأنثوي واللغة التي نشعر أنها مختلفة في الفصل الثاني عن لغة الفصل الأول الصحافية التي تصف الحادثة بتجرد. هذه الحدود تتجاوزها المرأة الباحثة عن آثار الجريمة التي تصر عليها كأنها مهمّة بطولية، لكن شخصية وذاتية وفردية. نشعر في الجزء الثاني أنّ المشهد يتحرك، لأنّ الرحلة تبدأ وجغرافيا المكان تبدو متشظية بالحدود والحواجز، فيبدأ السرد كأنه خريطة أخرى للطريق، تختلف عن الخريطة التي تحملها المرأة بيدها. اللغة تصبح خارطة أخرى لطريق صعب ومليء بأسماء المدن التي تغيرت، كأن الماضي الممتلئ بالجريمة يمتد نحو حاضر محاصر. اللافت أيضاً أنّ الصمت هو ما نشعر به على طول السرد. الصمت الذي لا يريد أن يغرقنا في أهوال الحرب، بل في خلق لغة توحي بذلك من دون أن تقول، وهو ما تقوله أيضاً عدنية شبلي في إحدى مقابلاتها: «بالنسبة إلي، لا يعني الصمت الغياب، بل إمكانيات متعددة. هناك الكثير من الأصوات الإنسانية وغير الإنسانية التي ــ حسب علوها ـــ تجد نفسها مدفونة تحت العديد من الطبقات». وتقول أيضاً في سياق إجابتها عن سؤال آخر: «الكتابة هي شيء لم يُقَل».
وبهذه الروح تكتب الروائية الفلسطينية عن «اللاعدالة» التي قالت بأنّها ما يدفعها إلى الأدب. ومن هنا نشعر أن الرواية ليست رواية عن الحرب، رغم أنها جريمة حدثت بعد الحرب وتشبهها، لكنها تبتعد عن ذكرها، وبالرغم من ذلك نشعر بحضورها. الأدب بالنسبة إلى شبلي ليس مرآة، أو لا يكتفي بكونه مرآة للواقع، بل يعكس الأسئلة الخفية التي تدور في خلفية أحداث الواقع. تطرح عدنية سؤال الجمالية في ظل الواقع السياسي المظلم. ويبدو ذلك واضحاً في اختيارها طريقاً يجعل اللغة أكثر إيجازاً. ومن هنا ينطلق سؤال رواية «تفصيل ثانوي»، من ذلك الابتعاد عما قيل والاقتراب من تلك المنطقة التي ربما تخيف وتقلق وتستفز التفكير، فها هي أيضاً تذكر في الجزء الثاني من الكتاب، بأن اختصاصيّي الفن يركزون على التفاصيل الأقل أهمية بهدف التحقق، مثلاً، مما إذا كانت هذه اللوحة مزيفة أم أصلية. بحسب هؤلاء، حين يقوم المقلدون بتزييف لوحة ما، ينتبهون إلى التفاصيل الرئيسية والمهمة كاستدارة الوجه أو وضعية الجسم، وبالتالي ينجحون في تقليدها على أتم وجه. لكنهم قلما ينتبهون إلى التفاصيل الصغيرة الهامشية كحلقة الأذن والأظافر في أصابع اليد والقدم، مما يؤدي بهم إلى الإخفاق في نقلها بشكل كامل.
تدخل «تفصيل ثانوي» إلى لحظة فردية تكون بمثابة الضوء في عتمة جماعية. كأن الذات بداية للحفر والاكتشاف والبحث، في رواية تغيب فيها الأسماء ويحضر المكان بقوة. ولأن هناك جزءين للرواية، تبدو كأنّها قصتان مستقلتان، لكن الاختلاف في النغمة وفي صوت الراوي، هو ما جعل الرواية تتداخل كأن الجزء الثاني هو الباب الذي نعود به إلى الجزء الأول، لأن العودة لقراءة الماضي ــ كما تقترح الرواية ـــ هي عودة لقراءة مختلفة للتفاصيل واستنطاق هوامشها وزواياها المدفونة. وهذا ما يدعو القارئ للتركيز على شخصية المرأة التي تقوم بالرحلة والضحية التي قتلت والقاتل الذي وصفت جريمته ببطء وبوضع «زوم» على حركاته المتكررة.