حروب كثيرة وحملات تكفير شُنَّت عليه بدعوى «التطاول على الإسلام ومخالفته». لكن المفكّر المصري حسن حنفي (1935-2021) الذي انطفأ أوّل من أمس في مصر، يبقى بطروحاته الرامية إلى تأسيس تيار فكري تحتَ يافطة اليسار الإسلامي. وهو يكاد يكون الاسم الأبرز ضمن هذه الفرادة العقائدية والسياسية والفكرية، إلى جانب التونسي صلاح الدين الجورشي. في مرحلته المدرسيَّة والطُّلَّابية، انتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين، وشاءت المصادفة أن يتقاسم الخلية الحزبية نفسها مع المرشد الأسبق للجماعة: مهدي عاكف. لكنه سرعان ما تحوَّل وتطوَّر فكرياً، بقراءاته في الفكر الإسلامي والفلسفة الغربيّة اللَّذين دفعاه إلى الانفتاح على آفاق أرحب.

صاغ حسن حنفي اللبنة الأولى لصرح مشروعه الفكري العريض في سلسلة «التراث والتجديد» (4 أجزاء)، كمَانِيفستو، جوهرُهُ ما أسماه «إيديولوجيا الواقع»، القائمة على ثلاثةِ مَحاوِر: المَوقِفُ مِنَ التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والخلوص إلى موقف من هذا الواقع المزدوج، عبر نظرية لتفسير الإرث الفلسفي العربي-الإسلامي وما يتم رفده به من الشِّق الغربي. وكثيراً ما نظر الإخوان المسلمون والحركات السلفية ومحافظو الأزهر بعين الريبة إلى هذا التناول المتخلّص من عقدة ما يسمّيه حسن حنفي استغراباً. وقد ساعده كثيراً في هذا الوضوح الإيديولوجي والمنهجي، تركيزه على الطابع التعليمي (الديداكتيكي) لطبقاته الثلاث: مستوى يتوجَّه للمتخصِّصين ومجاله أكاديمي؛ ومستوى أعقد يتغيّى مخاطبة الفلاسفةِ والمثقَّفين، بغرضِ ذيوع الوعْيِ الفَلسفيّ وبيانِ أثرِهِ في المشهد الثَّقافي؛ وأخيراً مستوى أبسط للعامَّة، يهدف إلى تَحويلِ نتاجه الفكري إلى ثقافةٍ شعبيَّةٍ، سياسيَّة بالضرورة.
يبقى الجزء الأنضج من مشروع حسن حنفي خماسيّته «من العقيدة إلى الثورة» (1988-)، التي فكَّكَ فيها، بانحياز واضح للتنوير والعقلانية، عِلمِ أصولِ الدِين، بانتقاد منهاجِهِ وأغراضه الارتكاسيَّين وغير المتلائمين مع روح العصر الحديث. فهو لا يعتبر الحضارة العربية -الإسلامية حدثاً منتهياً، بل حدثاً إبداعياً ينشأُ في كلِّ فترة يتفاعل فيها الفرد معَ كلِّ متغيِّرٍ سياسيِ وثقافي. إذ يقول بوضوح جرَّ عليه عداء المؤسسة الأزهرية والتيار المحافظ في الجامعة المصرية: «لسْنا أمامَ عِلم مقدَّس، بل أمامَ نتاج تاريخي خالص، صَبَّ كلُّ عصرٍ ثقافتَه وتصوُّرَه فيه. وتصوُّر القدماءِ تَصوُر تاريخيٌّ خالصٌ يُعبِّرُ عن عصرهم ومستواهم الثقافيِّ، كما أن تَصوُّرَنا المعاصرَ يُعبِّر عن روحِ عصْرنا ومُستوانا الثقافي [..] نشأَ عِلمُ أصولِ الدِّين بناء على معطيات عصره؛ فاستخدمَ أدواتِ العصرِ ولغتَه واصطلاحاتِه، متَّبِعاً منهجاً يُحقِّقُ غاياتِه؛ لذا عبَّرَ خلالَ تلك المرحلةِ (حتى القرنِ السابعِ الهِجريِّ) عن واقع الأمة، واستوعب ماضيها وصراعاتها وأزماتها وقرأَ واقعَها. وقد تمثَّل هذا في ظهور الفِرق المختلفة. هكذا عبَّر عِلمُ أصولِ الدين عنِ الواقعِ الاجتماعي من خلالِ مكنوناته ومُتطلباته، غيْر أنّ هذا الواقعَ تحوَّل إلى تراكُماتٍ تاريخيةٍ وأصبحَ ماضياً، ولا يَعدو الآنَ سوى تراكماتٍ نقلية لا تُقدِّمُ شيئاً للواقع المعاش؛ لذا أصبحَ لِزاماً علينا أن نقرَأَ العقيدةَ من واقع مجتمعِنا؛ فيَتحوَّلَ عِلمُ أصولِ الدِّينِ منَ الحُجَّةِ النقليَّةِ إلى التحليلِ العقليّ، ثم يَصُبَّ في التحليلِ الاجتماعيِ للأمَّة».
كثيراً ما يتم إغفال أن الأدوات المنهجية التي فكَّكَ بها حسن حنفي متون الفكر الإسلامي القديم والحديث، استقاها من الفلسفة الظاهراتية التي كانت تهيمن على الجامعة الفرنسية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث كان طالباً باحثاً. ينضاف إليها ما عثر عليه في فلسفة اسبينوزا من تعامل عقلاني مع الفلسفة القروسطية الغربية والحقل الديني-السياسي من خلال كتابه الأرأس: «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الذي وضع له حسن حنفي ترجمة وحواشي مديدة ما زالت تحتفظ بطزاجتها وبزخمها كمَعين مهم لكل راغب في دراسة تمفصل الديني والوضعي في السياق الأوروبي اليهومسيحي. وهو تقريباً نفس ما حاول المفكر الراحل تطبيقه على الفكر والسياسة العربيين الإسلاميين.
ولإن كان كان حسن حنفي سليل تقاليد فكرية عريقة تمتد من العلوم الفقهية إلى الظاهراتية الغربية وآلتها الهرمينوطيقية (التأويلية) المولِّدَة للأفكار، مروراً بالفكر التنويري للرومانسية الألمانية وحركة الإصلاح الديني الأوروبية؛ فإن له أيضاً أثراً بالغاً في الوسط الأكاديمي المصري، إذ تشبَّع به العديد من أبرز تلامذته، خصوصاً الراحل نصر حامد أبو زيد (1943-2010)، وعلي مبروك (1960- 2016)، وكريم الصياد (1981-).