يُعدّ كتاب Aux fondements de l'orthodoxie sunnite الصادر بالفرنسية عام 2008 من أبرز الأعمال حول الإسلام السُّني في علاقته بالتطرّف والعنف، وتمثل الجماعات الجهادية للإسلام كما تراه وتفهمه. أخيراً، انتقل الكتاب إلى لغة الضاد («معهد تونس للترجمة» بالتعاون مع «دار محمد علي الحامي» ـــ ترجمة أسماء نويرة) تحت عنوان «في أصول الأرتودكسية السُّنية».في المقدمة، يقول المؤلف عياض ابن عاشور (1945) المتخصّص في النظريات السياسية الإسلامية والقانون العام: «من الملاحظ أنّ الجدل الواسع داخل الإسلام أو مع الآخر يستند إلى ذخيرة من الأفكار والمواضيع الأساسية؛ وضعت من قبل المذهب الأغلبي السني الذي يجب إماطة اللثام عنه من أجل فهم أفضل للوضعية. ويمثّل أهل السّنة اليوم؛ أكثر من ثمانين في المئة من المسلمين». يتساءل الكتاب عن سبب هيمنة هذه المنظومة التي سماها «الأرتودكسية» لغاية اليوم على الفكر والممارسة السياسية والسلوك الديني في العالم الإسلامي.

منظومة محكومة بـ «قواعد وأعمال الأشخاص والمجموعات والدول في العالم الإسلامي وفق مجموعة من الشرائع الرمزية والمعرفية». كما يتساءل ابن عاشور عن علاقة الذين نفّذوا عمليات إرهابية في أميركا يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2011، كما في باريس ولندن ومدريد ومصر وتونس والجزائر والمغرب بالإسلام. يستحضر مجموعة من الأحداث المشابهة في التاريخ العربي مثل استيلاء أبو طاهر (القرمطي) سنة 318 هجري على مكّة ونهب الكعبة «المكان الأكثر قداسة للإسلام وقتل الحجيج في صحن المسجد الحرام ونهب أموالهم والإلقاء بجثثهم في بئر زمزم، وسرقة الحجر الأسود وتمزيق ستار الكعبة».
يرى عياض ابن عاشور أنّ المذهب السني ظاهرة من ظواهر التاريخ السياسي شهد محاولات تجديد، لكنها كانت دوماً من داخل المنظومة نفسها. اتّسم بعض هذه المحاولات بالراديكالية، لكن المنظومة السنية أقصت هذه المحاولات إما بتحريمها أو تهميشها من خلال استعمال السلطة الدينية والمثقفين الموالين لها: «وهكذا اتُّخذ التكفير ضد المفكرين الأحرار شكل التزندق».
ينقسم الكتاب (300 صفحة) إلى مجموعة من الأبواب، وهو مقسم إلى أربعة أجزاء، إضافة إلى مقدمة شاملة. الجزء الأول بعنوان «تأسيس الأرتودكسية السنية» تناول السياق التاريخي للنشأة، متسائلاً: «كان من الممكن أن تنقلب الأمور إلى غير ما صارت إليه إلى غاية العشريات الأولى من الحكم العباسي (132 هجرية 750م)، وكان من الممكن أن ينصر التاريخ الشيعة أو الخوارج أو أي فرقة أخرى، فهل كان سيكون لنا نفس التاريخ لاحقاً؟».
وحسب ابن عاشور «نشأ المذهب السني ضد أهل الردة، ثم ضد الشيعة والخوارج بمختلف فرقهم، والمعتزلة وناكري السنة وأهل الرأي والزنادقة وأتباع البراهما وغلاة المتصوفة والزرادشتية ومعتنقي الإسلام من النصارى واليهود بمختلف شعبهم، وتم دحر الخصومة والشقاق على مدى طويل على مستوى الحدث أولاً ثم على مستوى البناء النظري». كما اهتم المؤلف بأرثوذكسية السلطة، وأرثوذكسية العامة، وتيولوجيا المؤسسة، وحرب النص، وتيولوجيا التنزيه، والوسطية ومنشئها، والتجديد والتقليد أو كيف يمكن الإصلاح بالرجوع إلى السلف، وبرنامج الدفاع عن السنة وإحيائها. أما التحول التاريخي، فيرى أنه يعود ـــ استناداً إلى الباحث الفلسطيني وائل حلاق ــــ إلى ما سماه المحنة الكبرى 848م «حين جعل الخليفة العباسي من بعض أطروحات المعتزلة عقيدةً رسمية. وتبنّى العديد من الأحناف الموقف الرسمي وترتّب على ذلك وضع محاكم تفتيش، ومورس العنف ليس فقط ضد المخالفين الذين يعتقدون بأنّ القرآن قديم، بل أيضاً ضد أهل الحديث. وأصبح الإمام أحمد بن حنبل رمز المعاناة في هذه المحنة، وهو ما سيؤهله ليصبح بعد ذلك بطل الصمود السني ورمزه الحي».
الهجرة سبب أساسي في نمو سيكولوجية الضحية


في الفصل الثاني، يتناول الباحث أسس النظرية السياسية السُّنية، فيما يطرح في الفصل الثالث الأسس الأنطولوجية والسياسية. وخصّص ابن عاشور الجزء الثاني من كتابه لنظرية الجماعة والسلطة، وقد اشتمل على ثلاثة فصول هي: دستورية الإسلام السني، و«بيضة الإسلام» في مواجهة الفتن، و«في مناقب الأمير والرعية». واهتم في الجزء الثالث بنظرية العنف من خلال رمزية الكتاب والميزان والسيف وواجب العنف وإحياء النظام الإلهي والطبيعي وواجب الولاء ووضع المرتد.
أما الجزء الرابع من الكتاب، فيخصّصه لنظرية القانون والحقوق الذي ينقسم بدوره إلى ثلاثة فصول هي: هاجس العقل التشريعي والقانون الطبيعي وحقوق الإنسان وحقوق المؤمن وحقوق المرأة وحقوق الدولة.
وفي هذا الفصل، يقارن عياض ابن عاشور بين المعتزلة والأشاعرة. يقول في هذا السياق: «أخذت مسألة العدل والظلم عند المعتزلة أبعاداً ميتافيزيقية واعتقادية. فقد وضعوا في الواقع هذه المسألة على المستويين البشري والإلهي. ويرى المعتزلة أن وجود الله والكون يكونان عبثاً لو لم يكونا عقلانيين وعادلين». ويضيف: «فالعدل الإلهي من وجهة النظر المعتزلية هو الشرط المسبق الضروري لحرية الإنسان وعدله. وإذا أمكن للإنسان بعقله؛ أن يكون عادلاً فلأنه مستند إلى العقلانية والعدل الأعلى».
ويرى أنّ الطروحات المركزية للأشعري والغزالي وابن عساكر وابن حزم، جاءت لتعزز سلطة النص بين العامة في شكل من الجبرية يعتبر أنّ قوة الإسلام السني تأتي من إيمان العامة التي تملك جذوراً ضاربة في التاريخ. لهذا السبب يفسر غياب وجود «كنيسة» في الإسلام، فـ «الكنيسة كمؤسسة تُستهدف بسهولة حيث يمكن معاينتها والتّعرف إلى رئيسها. في حالتنا الكنيسة هي الشعب، شعب أغلبية المؤمنين». ويضيف: «يعرّف المذهب السّني نفسه بهذه الأغلبية الجماعية، وهو ما يزيده حصانة فجنوده ليسوا مرتزقة، إذ له جيشه وإداراته».
ويؤكد ابن عاشور أنّ الدول قد تنهار، لكن «يبقى شعب أغلبية المؤمنين الحامل الأبدي لدينهم الشخصي». ويعتبر هذا المعطى وراء الإسلام كما يراه ابن حنبل ومحمد بن عبدالوهاب والمودودي والجماعات الجهادية. لذلك فشلت محاولات الثورة الفكرية مثل المعتزلة وابن رشد والإصلاحيين والحداثيين.
ويختم ابن عاشور كتابه بالحديث عن العولمة والإسلام والهجرة. يرى أن الهجرة عمّقت التفكير الأصولي: «ظواهر الهجرة هي سبب أساسي في نمو سيكولوجية الضحية التي تغذي الذهنية الأصولية. وبحث الأصولي عن ملجأ يؤويه، يدفعه نحو التميّز عن الوسط الذي يعيش فيه وفي العداء الخفي تجاهه».
ويعتبر عياض ابن عاشور أنّ الأمل في تجديد الرؤية للإسلام قد يأتي مما سماه الأراضي الجديدة للإسلام في أوروبا وأميركا بسبب الاندماج في الأرتودكسية المسيحية، وكذلك بسبب الحركة النسوية: «يمكن أن يذهب هذا التجديد أبعد من ذلك بكثير ويضرب في قلب العقائد الأكثر صلابة. وتشكّل الحركة النسوية المحمل الأهم لهذه الثورة الإسلامية التي بدأت في أرض الإسلام مع هدى الشعراوي وأتباعها». بحسب المؤلف، فإنّ هذه الحركة النسوية هي استعادة لأفكار الطاهر الحداد وقاسم أمين، وتقدّم الإسلام اليوم «يرتبط (...) في جزء كبير بالتقدم الفكري الذي يمكن أن يحرزه وسيحرزه في الغرب وبشكل عام في غير أرض الإسلام» لأنّ الدول الإسلامية «متورطة جداً في الأنماط السياسية السلطوية والبوليسية، وهو ما يجعلها لا تمنح الفكر والتعبير حرية حقيقية».
هذا الكتاب قراءة عميقة في المخيال الذي شكّل تمثّل العامّة للإسلام عبر تاريخه وعبر طروحات الفقهاء وصعوبة التجديد من داخل ما سمّاه المنظومة الأرتودكسية، آملاً أن يكون التجديد من أراضٍ غير أراضي الإسلام بسبب قوة العامة وسيطرتها على الفضاء العام، ما يجعل أي دعوة للتجديد من السلطة تصطدم بفكر الجموع الحاضنة للأرثوذكسية السنية.