كيف حصل أن المكدّي المتسوّل أخذ اسمه «الشحّاذ»، من أنّ الجذر «شحذ» لا يشير إلى هذا في الأصل. فهذا الجذر يعطي معنيين أساسيين:1- شَحْذُ السكينِ أو السلاحِ وإمضاؤه وتحديده.
2- دفع الهمم وبعث الحماسة فيها.
أما حين تحاول القواميس العربية تفسير ربط الشحاذ ومهنته «الشحاذة»، أو «الشحدة، الشحادة» بالعامية، بالجذر «شحذ»، فهي تصل إلى أن الأمر يتعلق بالاستعارة لا بأصل معاني الجذر. يقول قاموس «المنجد» مثلاً: «الشّحاذ: ج شحاحذة وشحاذون: المتسول أي المستعطي وهو مستعار من شحذ السكِّين، أو لأنه قد شحذ الناس بنظره أي حدّده إليهم، يعني أرسله إليهم بحدّة». وكما نرى، فالشحاذ يرسل بصره بحدة إلى الغير كما لو أنه يشحذ سكيناً. أي أنه شحاذ على سبيل التشبيه والاستعارة، لا على سبيل الحقيقة. وهذا غير مقنع على الإطلاق. فليس هناك من مناسبة بين شحذ السكاكين وتحديق البصر. لكن هذا التفسير يبيّن على الأقل أنّ الشحذ بمعنى السؤال والكدية والتسول والإلحاف معنى غير أصيل في الجذر.
فيك مونيز ـــ «متسوّل» (2001)

ويبدو لي أن «الشحاذة» كانت في الأصل مهنة اجتماعية معترفاً بها وضرورية للمجتمع في زمن موغل في القدم. أي أنها لم تكن كما هي اليوم خيار من أسقطهم المجتمع من حسابه. لكن حين فقدت قيمتها الاجتماعية، تحولت بالتدريج إلى مهنة ارتبطت بالسؤال والإلحاح. وقد شجعني على هذا الاستخلاص ما جاء في كتاب لليمني فضل الجثَّام بعنوان «الحضور اليمني في تاريخ الشرق الأوسط». والكتاب يؤيد نظرية الصليبي حول أصل التوراة، وهي النظرية التي أضلت كثيراً من الباحثين الهواة، وضيّعت أعمارهم مجاناً. وكل ما فعله الباحث هو أنه نقل مسرح أحداث نظرية الصليبي من جنوب المملكة السعودية إلى منطقة «سرو حمير/ يافع» في اليمن. لكنّ الكتاب يقدم لنا معلومة اجتماعية يبدو أنها يمكن أن تحلّ إشكال التسول في جذر «شحذ» في القواميس العربية. إذ ما زالت هناك، بحسب الكتاب، في منطقة سرو حمير/ يافع اليمنية، وظيفة اجتماعية محددة، يمارسها رجالٌ محدّدون يطلق على كل واحد منهم اسم «الشاحذ». والشاحذ صيغة اسم الفاعل بينما الشحاّذ صيغة مبالغة. أي أنهما مبدئياً يعنيان الشيء ذاته. ولهذا الشاحذ:
«حضور لازم في كل مناسبات الأفراح والأتراح... فدوره يغطي مساحة شاسعة في الحياة؛ فمن خدمات الجزارة (الذبح) والختانة إلى القيام بفنون التزيين والحلاقة... إلى التطبيب... [و] الحجامة (الفصد). وفي أفراح الزواج نلقاه في كل طقس... وفي الأعياد يؤدي خدمات لا تضاهى: كالحلاقة والجزارة وضرب المرافع (الطبول) والطّاسات... أما في فترات الحرب، فنجده إذا نشبت المعارك في طليعة المحاربين يقرع طبول الحرب، وتدوي بين يديه مرافعها، وهو بدوره يلهب حماسة المحاربين ويشد من أزرهم ويسنّ لهم سيوفهم وحرابهم» (ص38).
إذن، فحين تقول «الشاحذ»، الذي هو صيغة من «الشحّاذ»، فسوف يفهم أهل «سرو حمير» أنك تشير إلى إنسان له مهنة اجتماعية محددة وضرورية، لا يستطاع الاستغناء عنها. فهي تتعلق بشدة بأمور الحرب والسلام وطقوسهما. ومن الوظائف الاجتماعية المتعددة لـ «الشحاذ» هذا، يمكن أن نفهم سبب تعدد معاني الجذر «شحذ» في القواميس العربية. فالشاحذ عند أهل سرو حمير:
1- يشحذ السيوف والحراب: (ويسنّ لهم سيوفهم وحرابهم)، كما هي الحال في القاموس. وهو يسن السكاكين للجزارة والحجامة والحلاقة أيضاً.
2- يشحذُ الهمم ويبعث الحماسة. وهذا ما يعنيه الجذر «شحذ» في القاموس بالضبط. عليه فحين نقول «شحذ همتهم»، فنحن، في الأصل، لا نقولها مجازاً وإنما نقولها على الحقيقة. فقد كان هناك رجل يدعى الشاحذ أو الشحّاذ للقيام بهذه المهمة. أقصد أن هذا المعنى ليس مأخوذاً من شحذ السكين، أو من غيره.
3- أما معنى الإلحاح في السؤال وفي الطلب، فيبدو أنه جاء في الحقيقة من الطريقة التي كان يحصل فيها «الشاحذ» على أجرته، التي ما زلنا نرى ظلالاً لها حتى الآن في اليمن. إذ «يعمد الشاحذ إلى التطريب (نوع من الغناء والنشيد) فوق جُبا بيت الحرير وبيت الحريرة (أي بين العريس والعروس) ... ويتم لهم ذلك بقسع الطبل مصحوباً بترانيم القصبة (الشبابة) وذلك حول شالة– قطعة من القماش– يفرشونها فيصعد الحرير وأقرباؤه أو أقارب الحريرة، فيغدقون بالهبات النقدية». أكثر من ذلك، فإن القرية كلها ملزمة أن تدفع للشاحذ: «وفي حالة امتناع أسرة بعينها عن تقديم النقطة (النقوط) للشاحذ، فإن الشاحذ يمتنع عن ترقيص أفراد هذه الأسرة ويواجههم إذا حاول أحدهم اقتحام حلبة الرقص».
وهكذا فالإلحاح موجود هنا أيضاً. فالشاحذ يرغم أصحاب العرس تقريباً على دفع ما يريد. أي أنه يلحف ويلح للحصول على ما يعتقد أنه حقه.
عليه، فمهنة «الشاحذ» اليمني تضم كل معاني جذر «شحذ» الأساسية: إمضاء السكاكين والسيوف وتحديدها، شحذ الهمم، والإلحاح في السؤال.
ويبدو أنّ هذه المهنة اليمنية، مهنة الشاحذ، هذه كانت منتشرة في العالم القديم، لكنها أخذت في الانحدار والموت، وحلّت محلها مهن أخرى، بعدما صارت عبئاً على المجتمع. فشحذ السكين صار خاصاً بالحدّاد، وشحذ الهمم أعطي للشاعر أو الخطيب، وبقي للشحاذ الإلحاح في السؤال فقط. وهكذا بدا الشاحذ بناء على ذلك، وفي نهاية الأمر، كما لو أنه متسول يأخذ أجرة لا حق له فيها، أي كما لو أنه يبتزها من الناس ابتزازاً. وهذا هو السبب الذي جعل كلمة شحاذ تعطي معنى التسول والكدية والاستجداء والإلحاح في السؤال. وهكذا ضاعت مهنة الشاحذ أو الشحاذ الأصلية، وسقط وضعه، وصار مشابهاً لوضع الذين أسقطهم المجتمع وأصبحوا لا يملكون شيئاً، أي الفقراء المتسولين. لقد تحول «الشاحذ» إلى «متسول».
كلمة الشحاذ إذن تحمل في طياتها وتضاعيفها قصة ظهور انحدار مهنة اجتماعية ثم زوالها. لكن هذه المهنة تمسّكت بأظافرها ببقعة جغرافية واحدة هي سرو حمير اليمنية، كي تعرض لنا مجدها القديم، وشرفها في أيام عزها.
إذن، فالشكر لسرو حمير اليمنية التي وفرت لنا فرصة لفهم أصل تشابك جذر «شحذ» العربي، ولفهم تاريخ مهنة كانت خطيرة الأهمية اجتماعية، ثم سقطت وصارت مهنة من سقطوا من المجتمع.
* شاعر فلسطيني