شارل بودلير شاعر حداثيّ بامتياز، هذا إن لم يكن أبا الحداثة الأوروبيّة بلا جدال. بديوانه الأوّل «أزهار الشّر» (1857)، يكون قد أطلق ثورةً كوبرنيكيّة في الشعر بتأسيسه لما سمّي في ما بعد بجماليّة البشاعة. فالموضوع الأثير لهذه المجموعة هو وصف الجثث والمجتمعات السفليّة والشوارع الخلفيّة لباريس، في قصائد وجيزة الطول. أسوة بإدغار ألان بو الذي ترجمه وتأثّر بنظرياته في الكتابة، لم يكن بودلير يؤمن بشعر يستند إلى الحكي من أجل الحكي، فالطاغي عنده وصف أو سرد مكثّف في لغة إيحائيّة شفيفة.ربط بودلير بشكل تلازمي الحداثة بتوسّع المدن في القرن الـ19. ولمواكبة هذا التحوّل الجديد في العالم المرجعيّ، كان لا بدّ من خلق شكل شعري جديد، فالواقع المحدث لا يستوطن إلا شكلاً محدثاً: قصيدة النّثر، هذا الشّكل الذي كرّس له ديوانه الثاني والأخير، الذي بقي مشروعاً وجُمع بعد وفاته، «سأم باريس. قصائد نثر صغيرة» (1862). لكنّ بودلير، كأيّ شاعر فذّ، لا يجد ضالّته في إسمنت المدن البارد، وإنّما في الأشياء الحميميّة التي قلّما ينتبه إليها الناس.

ترجمة وتقديم: رشيد وحتي


1. جلّاد ذاته
سأضربك دون غضب
ولا حقد، كجزّار،
مثلما ضرب موسى الصّخر!
ومن جفنك،

كي أروي صحرائي،
سأفجّر مياه الألم
رغبتي المنتفخة بالأمل
على دموعك المالحة ستسبح

كسفينة تبحر على السّاحل،
وفي قلبي الذي ستسكره،
ستجلجل شهقاتك العزيزة
كطبل يمهّد للقصف!

أَوَلست نغمة نشاز
في السيمفونيّة الإلهيّة،
بفضل السخرية النهمة
التي تهزّني وتعضّني؟

وفي صوتي، هذا الصّياح!
هو ذا كلّ دمي، هذا السمّ الأسود!
أنا المرآة النّحس
حيث ترى نفسها المرأة الشرسة.

أنا الجرح والسكين!
أنا الصفعة والخدّ!
أنا الأعضاء ودولاب الإعدام،
والضّحيّة والجلّاد!

أنا مصّاص دماء قلبي،
— أحد أولاء المتروكين الكبار
المحكومين بالضّحكة الأبديّة
والّذين لم يعودوا يستطيعون الابتسامة!

2. جيفة
فلتذكّري ما رأيناه، أي روحي،
في ذلك الصباح الصيفي بالغ الرّقّة:
عند منعرج درب، جيفة بشعة
فوق مهد نُثر عليه الحصى،

بساقين مرفوعتين في الهواء، كامرأة مغتلمة،
لاهبة وترشح سموماً،
تفتح بطريقة خدرة ووقحة
بطنها المترع بالرّوائح.

كانت الشمس مشعّة فوق هذه العفونة،
كما لو طهوها تماماً،
لتستعيد الطبيعة الفسيحة بمئة ضعف
كلّ ما كانت قد لمّته جميعاً؛

بينما كانت السّماء ترنو إلى الهيكل البديع
كما لو كان زهرة تتفتّح.
كان النّتن قويّاً جداً، حتّى إنّك على العشب
خلت نفسك يُغمى عليك.

كان الذباب يطنّ فوق هذا البطن المتفسّخ،
من حيث كانت تخرج كتائب سوداء
من اليرقات، كانت تنساب كسائل متخثّر
على طول أسمالها الحيّة.

كان كلّ هذا يهبط، يصعد كموجة،
أو ينقذف وهو يفرقع؛
كأنّ الجسد، المنتفخ بنفس فضفاض،
يحيا متكاثراً.

وكان هذا الكون يرجّع موسيقى غريبة،
كالماء الجاري والرّيح،
أو بذرة مذرّيها بحركة إيقاعيّة
يخضّها أو يقلّبها في سلّة نسف الحبّ.

كانت الأشكال تمّحي ولم تعد إلّا حلماً،
رسمة أوّليّة بطيئة الصيرورة،
فوق القماشة المنسيّة، يكملها الفنّان
تذكّرا فقط.

خلف الصخور كلبة قلقة
كانت ترمقنا بعين مستاءة،
ترقب لحظة تستعيد فيها من الهيكل
قطعة كانت قد تركتها.

— برغم ذلك، ستكونين شبيهة بهذه القذارة،
بهذا التّعفّن الفظيع،
أي نجمة عينيّ، أي شمس طبيعتي،
أنت، أي ملاكي وشغفي!

أي نعم! هكذا ستكونين، أي ملكة البدائع،
بعد أسرار التّوبة،
حين ستذهبين، تحت العشب والإزهارات الثّخينة،
للتّعفّن بين عظام الموتى.

ساعتها — أي جميلتي! — قولي للديدان
التي ستأكلك قبلاً،
إنّي احتفظت بالشّكل والجوهر الإلهي
لغراميّاتي المتحلّلة!

3. بأكملها
الشّيطان، إلى غرفتي العليا،
صباح اليوم أتى ليراني،
ومحاولاً مفاجأتي بالجرم المشهود،
قال لي: بودّي أن أعرف جيّداً،

بين كلّ الأشياء الجميلة
الّتي تشكّل سحرها،
بين المتاع الأسود أو الورديّ
الّذي يكوّن جسدها الفاتن،

أيّهما أرقّ.
— أي روحي!
كذا أجبت البغيض:
بما أنّ كلّ شيء فيها فوذنج،
لا شيء أثير.

عندما يسلبني كلّ شيء، أجهل
إن غواني شيء.
هي تبهر كالغسق
وتؤسّي كاللّيل؛

فالتّناغم بالغ اللّذّة،
يسيّر كلّ جسدها البهيّ،
كي يسجّل التّحليل القاصر
تناسقاته العديدة.

يا للتحوّل الصوفي
لكلّ حواسّي المنصهرة في واحدة!
لهاثها يصنع موسيقى،
كما أنّ صوتها يصنع عطراً!