في مجموعته الجديدة «كتابُ الذاهبين» (المتوسّط ـ 2022)، يبدو رائد وحش (1981) كأنّه في حالة هيام جنوني وترحال دائم يستبدّان بفعل الكتابة لديه. لا يتوقّف الشاعر والكاتب الفلسطيني عن مطاردة هواجسه الذاتية وقلقه الوجودي على شكل صُوَرٍ شعريّة مُنفلتةٍ دوماً من قبضة اليومي، إذْ تبحث لها عن «علاماتٍ» تستقرّ فيها كينونة الشاعر. إنّه ينحت اللغة ويجعلها مُنسابة الدلالة، لكنّ المعنى يظلّ هارباً ومُنفلتاً من سُلطة الكتابة نفسها. يبدو رائد وحش مشغولاً باللغة الشعريّة كأنّه لا يرضى بها، فيُطارد أنفاسها، حتّى يتبدّى كأنّه يغسلها تارة ويعجن بعضها طوراً. من ثمّ، فهو غير مُهتمٍّ بتاريخها الشعري، لذلك تراه يُرمّم صمتها ويدبّ فيها نوازع الانفلات من قبضة النموذج الشعري القائم. هذا حاصلٌ في أعمالٍ شعريّة وسرديّة أخرى، يُحاول فيها رائد وحش، تكسير خطيّة السرد ورتابة المحكي الشعري وجعل اللغة الشعريّة تدخل في مُساجلةٍ ومُقارعة فنون وأجناس أخرى وتوليفها في قالبٍ واحدٍ داخل النصّ الشعري.

إنّ مفهوم النصّ الشعري كما تنحته مجموعة «كتاب الذاهبين» ثمرة اشتغالٍ شعريّ مُكثّف حول خصوصية النصّ وماهية الشعر، وما الذي يُمكن أنْ يُحدثه من شرخٍ في الرؤية وخلخلةٍ لمَفاهيمنا وتصوّراتنا تجاه قضايا الوجود.
ليست الكتابة الشعريّة عند رائد وحش بوحاً وجدانيّاً صاخباً يحبل بالمسرّات الرومانسية، بل كتابة تقهر الذات الشاعرة وتدفع بالنصّ، صوب حدوده اللامتناهية في مُعانقة اللامرئي. على هذا الأساس، يبرز الموت داخل «كتابُ الذاهبين» بوصفه قضيّة أنطولوجية تهجس بالألم والمعاناة والاستفهام. يأخذ الخطاب شكل حواراتٍ فكريّة ومساجلاتٍ شعريّة، بين تراث الأوّلين والعابرين والهائمين حول قضايا وجوديّة تتعلّق بـ: الهجرة والمنفى والمَكان الأوّل والصداقة والحبّ. إلاّ أنّ هذه القضايا/ الإشكالات، سرعان ما تخترق فتنة النثر وحدود الحوار المسرحي، حتّى تتشابك من جديدٍ مع القول الشعري وفق نظامٍ شعريّ صارمٍ يستند إلى شكل مُحدّد يُرجع الكتابة إلى أصلها على مستوى الشكل. ولم تكن «مشاغبات» رائد وحش وليدة هذا العمل الشعري، فقد سبقتها «ثورات» عدّة على مُستوى اللغة والخطاب والصورة. من ثمّ، يكون هذا الجنون بفيزيونوميّة الشكل، دافعاً أكاديمياً أكثر منه كونه وجدانياً/ حماسياً، لأنّ الاشتغال على جوهر هذا النصّ، يُبدي موقف الشاعر من مفهوم الشعر وضرورته وأهميّته في ضوء ما شهده المفهوم منذ الربيع العربي إلى الآن من تحوّلاتٍ معرفية واختراقاتٍ جماليّة. ولا شك في أنّ الجري وراء ضوء الشكل الشعري، يُتيح للشاعر إمكاناتٍ جديدة في تخييل العالم وفي تبئير رؤاه السرمديّة للقبض على عُزلة الكائن وجُرحه الوجودي داخل بيتٍ شعري. لكنْ وفقاً لهذه العبارة، أليس رائد وحش ينسج صداقات مع ماضي الشعر ويُتم القصيدة؟ أليس في الثورة على الشكل والإقامة في تخوم القصيدة ما يُبرّر «فعلته» تجاه مفهوم هايدغر للشعر، وكيف تغدو القصيدة مُرادفة لفداحة الوجود ومآزقه المُتصدّعة؟
يقول رائد وحش في هذا السياق: «لا وجود لنحتٍ/ الحجارة ذاتها تصنع تلك الوجوه/ تبني الكتل التي تريد/ وتوهمكم أنكم صانعوها/ لا وجود لتماثيل/ وما تضعونه في مدائنكم/ ليكون تمائم ضد الموت/ هو الموت ذاته/ لا وجود لنحت، قلتُ لكم من قبل/ في رسائل سابقةٍ: كيف يكون ثمة نحت/ وأصل الأزاميل معدن/ وأصل المعدن حجر؟/ كيف يكون هناك نحّاتون/ وأصل الأيدي عظمٌ/ وأصل العظم حجر؟».
يبحث رائد وحش هنا عن الأصل بدل النُّسخة وعن ماهية الشعر وراء التحوّلات وعن اللامرئي حين يغدو سراباً وعن الذات إذْ تتحلّل صُوَراً وتغدو مجرّد نيزكٍ يتيم مفقودٍ داخل مجرّة. وإذا كان النصف الأوّل من العمل الشعري، يحفر في تراث الأوّلين وعلاقتهم بالشعر وطرح الأسئلة الأولى عن ماهية الأشياء (الريح، الحجر وغيرهما) باعتبار الشعر يُشكّل أفقاً مفتوحاً لاستغوار الفكر من منابعه، فهو يُحرّر الأشياء من جمودها عن طريق بلاغات استعارية وأخرى مجازية، كما يُحرّر الفكر نفسه من يقينياته السطحية المُميتة. لذلك، لا غرابة أنْ يُعدّ الشعر بمثابة مدخل جماليّ يُبنى على مشروع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في أسئلة الوجود والموجود والكينونة والزمان. لا يكفّ رائد وحش عن طرح هذه الأسئلة الماهوية في أصل الأشياء وتحريك الساكن فيها وتأكيد النزعة المركزيّة للشعر في حياتنا المعاصرة. ليست الكتابة الشعريّة عند رائد وحش، إلاّ مجرّد قولٍ جماليّ يعود بالشعر إلى براءته الأولى والسفر في عمق الأشياء. يتّخذ شكل الكتابة نوعاً من الكتل السرديّة الطويلة والقريبة في طرائق تشكّلها الفنّي إلى النثر، حيث يرتفع منسوب الحكي وحدّة السرد ويُصبح النصّ الشعري أقلّ تكثيفاً وغير خاضعٍ في نسقه إلى عوامل معرفية برانيّة، وإنّما لهواجس جماليّة ترتبط بالذائقة الفنّية للشاعر.
الهجرة والمنفى والمَكان الأوّل والصداقة والحبّ


سرعان ما يتحوّل رائد وحش في النصف الثاني من المجموعة، بدءاً من قصيدة «الشتاء وقت العلامات» إلى مساجلةٍ شعريّة رصينةٍ مع الصديق الشاعر الأردني أمجد ناصر، حيث تطول الكتلة السرديّة وتُصبح العبارة شحيحة والرؤية ضيّقة، لكنّ المعنى يبقَى مفتوحاً على «العلامات» التي تدُل الجسد صوب اللانهائي في ذلك اللقاء الشتويّ البرليني. والحقيقة أنّ هذا النصّ يُعد أجمل نصّ في مجموعة رائد، لأنّه يمتلك من الخصوصيات الجماليّة ما يجعله في مقدّمة نصوص المجموعة. يعمل الشاعر على تصريف اللقاء مع أمجد ناصر إلى مونولوغات وصُوَرٍ ومشاعر وعلاماتٍ، كأنّ اللقاء مرّ سريعاً بين هواءين، إذْ يستعيد شعرياً ما دار في اللقاء، ويستكنه في الآن ذاته، ما لم تُرممه الكلمات وما لم تنقُله الصُّوَر وما لم تنحته الريح وما لم تقُله الحجارة ولا السماء. يستغني رائد وحش في هذا النصّ عن الكتابة التقريرية التي تبكي الذاهبين، لكنّه يُفطن القارئ بأنّ وظيفة الشعر تكمُن في ممارسة السحر وتهديم الصور وقلب نظرتنا إلى العالم الذي يعيش فينا، قبل أنْ نعيش فيه. لذلك يُحوّل رائد اللقاء إلى سيرة من اللامرئي، إذْ كلّما تشعّب الحوار بين الطرفين، تضيق العبارة ويسرح الصمت بين سطور النصّ الشعري.