هل وُجدت ليلى العامرية حقاً وعشيقها المجنون، فلم يدر من حبّها «اثنتين صلى الصبح أم ثمانيا»؟ وهل توحّش قيس في البراري والفلوات حتى أنس به الوحش وحطت الطيور على كفيه وبكت الحجارة لحاله؟ للمرتابين في وجود قيس وليلى، أمهات كتب التراث كـ «الأغاني» وغيره، ينبشون بطونها عن رواية هنا واجتهاد هناك. لكن للباحثين عن الحب، سبيل وحيد للعثور على العاشقَين: تتبع أثرهما في القصائد التي ألهمت الشعراء في الشرق والغرب حيث صار حبهما ديناً يُدان به، ومذهباً في المحبة والهيام أو حتى أحياناً في أسر العاشق في طفولة حجرية لا يجد سبيلاً للخروج منها: من جامي ونظامي كنجوي في فارس، إلى الششتري الأندلسي، وصولاً إلى أحمد شوقي وصلاح عبد الصبور وزكي مبارك في مصر، ولويس أراغون في فرنسا ولوركا في إسبانيا، ومحمد علي شمس الدين في لبنان، لا تزال قصة ليلى والمجنون تكرس نفسها كربة للإلهام يغترف منها الشعراء ويضيفون تنويعات عليها تجعلها متوهجة مشتعلة، كتلك اللحظة التي جمعت المجنون بليلى عند سفح جبل التوباد. نعرض في كلمات باقة مما استلهمه الشعراء من أسطورة الحب الخالدة.
1- عبد الرحمن الجامي (مواليد جَامْ، في أفغانستان الحالية، سنة 1414 ــ 1492) بين أهم الشعراء الكلاسيكيّين الناطقين بالفارسية. كان فقيهاً، متصوّفاً وشاعراً. عاش حياةً طويلة تمتد تقريباً على كامل القرن 15 الميلادي. اشتغَل على الثيمات العرفانية نفسها للرومي، ونظامي وحافظ. عاش لمدة طويلة في بلاط حسين بَيْقَرَا التيموري، الذي جمع من حوله نخبة من صفوة الشعراء والحِرَفيين والمنمنِمين. في 1484، نَظَمَ روايته الشعرية «ليلى والمجنون»، كتأويل صوفي لقصة ليلى والمجنون العربية (شذرات بترجمة رشيد وحتي عن الفرنسية)
اللُّقا: هكذا تجلَّت ليلى في عيون قيس، وهكذا أضاعَ قلبَه في هذا الحب. (فصل 10).

«ليلى والمجنون» (1911) للبريطاني ادموند دولاك (1882 ـــ 1952)

الجنون: عندما رأى قيس أنَّ ليلى اصْطَفَتْهُ، وسمع قَسَمها بأن تكون دوماً له، تضاعفت رغبتُه، وجَرَفَتْه، فَتَبَلْبَلَ عقلُه. وحلَّ الجنون. وفجأةً، من خلفِ حجاب، بدا له قدرُه، وكانَ قدرُه أن يصير المجنونَ. (فصل 15).
جريمة شرف، قصيدة حُبّ: ليلى نورٌ يَنْقَدِحُ في العينين. وهي طمأنينة القلب في زمن الجنون. ليلى، هذا المصباحُ المتوهِّج في الليل. وقد أقسمتُ، لأبد الآبدين، أني لن أتخلى عنها حبيبةً. (فصل 21).
أبٌ بِقلبٍ حجرٍ: ولكنَّ أبَ ليلى، كان بصدرهِ، بدلاً عن القلبِ، حَجَرٌ. فسعى إلى التفريق بين حبيبين جمعتهما نفس الرِّقَّة؛ منهِكاً اصطِبارَهما ومغرِقاً لهما في أسى عميق. (فصل 27).
أملٌ مُحَطَّم: في ذُرى يأسه، أخذ المجنون يضرب رأسَه مثل شجرةِ دُلْبٍ؛ حتَّى عزَّ على الجميع مصابُه، وعيناه غارقتان في أدمُعه وجبينُه مُعَفَّر بالتراب. فكان ينفطِرُ قلبُ كلِّ من رآه، وهو يشق ثوبه ويخدش صدره المكلوم. (الفصل 28).
الملاذُ: وانقطَع عن عالَم البشر اللاإنساني، ووجَّهَ نظرته نحو الحيوانات المتوحشة. وبما أنه كان قد طهَّرَ قلبه من كل فكرة شريرة ومن كل ضغينة، فلا حيوانَ أرادَ به شراً. كان الوَحِيشُ يرافقه في انسجامٍ كما لو كان مروَّضاً، متقاسِماً معه حميميَّته. (الفصل 39).
اللُّقا خفيةً في البيداء: وكانا يتناجيان أسرارهما القديمة. واخْتَرَمَا معاً دُرَرَ ما لا ينقالُ. (فصل 49).
موت المجنون: في تجويفة فراش من تراب، بدا المجنونُ نائماً في كنف هذا الاحتضان الرقيق. ولكنه، حقاً، كان نائماً نومةَ موتَتِهِ. أسلم روحه من فرط حرقة الفراق. (الفصل 51).
يأس ليلى: بلغَ ليلى أنَّ المجنونَ مات، فبقيت طريحةَ الأرض وسط أدمعها، أدمعٍ من دم، وعلى قلبها علامةُ حديدٍ حامٍ من حِداد، كالتوليبة (...) فقد هذا القمر اللألاء كل ضيائه وكوردة ما كادت تتفتح، حتى ذبلت كينونتُها. (الفصل 54).
بستان الأرواح العاشقة: سَجَّوْا جسدَ ليلى في مَصَاغِ الأرض، مثلما توضَع لؤلؤة. كذا تيسَّر للحبيبَيْن، كجوهرتين خالصتين، أن يرقدا معاً في فراش القبر. وصار هذا المكان المغلَق، الذي استقبل جسديهما العاشقَيْنِ الميِّتَيْن من أجل الحب، بستاناً تجتمع فيه، خلال كل الأزمنة، الأرواح العاشقة التي تحج إليه من كل الآفاق. (الفصل 55).
■ ■ ■

2 ـ نظامي كنجوي شاعر فارسي (1140 ـــ 1203) اسمه الكامل الیاس بن یوسف نظامي کنجوي. عاش خلال فترة حكم السلاجقة ويعتبر مؤلفاً لأول ملحمة في الأدب الفارسي. كتب جميع أشعاره باللغة الفارسية وتقع مقبرته في مدينة كنجة في جمهورية أذربيجان (شذرات من قصيدة «ليلى والمجنون» بترجمة مريم ميرزاده عن الفارسية):
لمّا سمعَ مجنونُ نصيحةَ القوم، اشتاطَ غيظاً من مُرّ الكلامِ ضربَ بيدِه ومزّقَ قميصَه فما حاجةُ الميتِ بعدُ للكفنِ الذي اختار خارجَ الدارين له سكنا. أنّى لقميصٍ أن يحتويَ منه الجسدا مثلَ وامقٍ في إثرِ عذرا*. صعدَ الجبالَ وجالَ الصحاري، خلعَ ثوبَهُ مثلَ الشريد، تاركاً الدار. جلسَ على عتبةِ الرحيل شقَّ جُبَّتَه، وخاطَ درعاً کسرَ أغلالَه، ويداهُ تحترقان مثل الغرباءِ. مشى في الأقاصي عاريَ الصدرِ ممزّقَ الثوب مثلَ والٍ يسيرُ نحوَ موتِه سليبَ الإرادةِ لا حول ولا قوة حتى عُرفَ في الأزقّةِ بالمجنون، ونداءُ ليلى ليلى لا يفارقُه، مقطّعاً إحرامَهُ، كاشفاً رأسَه، أسيراً في دروبِ الملامةِ والعتاب
(*وامق والعذراء عاشقان في الأساطير الفارسية)
■ ■ ■

3 ــ أبو الحسن علي بن عبد الله النميري الششتري الأندلسي. وُلد في ششتر إحدى قرى وادي آش في جنوبي الأندلس عام 610هـ. برع في علوم الشريعة من القرآن والحديث والفقه والأصول. ثم زاد الفلسفة وعرف مسالك الصوفية ودار في فلكهم، وكان يُعرف بعروس الفقهاء وبرع الششتري في فنون النظم المختلفة الشائعة على زمانه من القصيد والموشّح والزجل. بدأ حياته تاجراً جوالاً وصحب أبا مدين شعيب الصوفي بن سبعين، ثم أدّى فريضة الحج وسكن القاهرة مدة. توفي في مصر في بعض نواحي دمياط، وله ديوان ضمنه قصيدة «سلبت ليلى» التي غنتها فرقة «ابن عربي، المغربية.

سَلَبتْ لَيْلى مِّني العَقْلا
قلتُ يا ليلى ارحمي القتلى
حُبُها مكنونْ
في الحشى مخزونْ
أيها المفتونْ
هِمْ بها ذلا
إِنني هائمْ
ولها خادمْ
أيها اللائمْ
خَلِيني مهلا
لزمتُ الأعتابْ
وطرقت البابْ
قالتُ للبوابْ
هل ترى وصلا
قال لي يا صاحْ
مهرها الأرواحْ
كم محبٍ راحْ
يعشقُ القتلى
أيها العاشِقْ
إِن كنت صادقْ
للسوى فارقْ
تغتنمْ وصلا
■ ■ ■

4- أحمد شوقي (1870-1932) شاعر وأديب مصري، يعتبر رائداً للشعر العربي المسرحي، وقد استلهم أسطورة ليلى والمجنون وأعاد صياغتها في قصيدته المشهورة «جبل التوباد» التي غناها فنانون كثر أهمهم الموسيقار محمد عبد الوهاب:
جــبــل التــوبــاد حــيــاك الحـيـا
وســـقـــى الله صـــبـــانــا ورعــى
فـيـك نـاغـيـنـا الهـوى فـي مـهـده
ورضــعــنــاه فــكــنــتَ المــرضـعـا
وعـــلى ســـفــحــك عــشــنــا زمــنــا
ورعــيــنــا غــنــم الأهــل مــعــا
وحــدونــا الشــمــس فــى مـغـربـهـا
وبــكــرنــا فـسـبـقـنـا المـطـلعـا
هـــذه الربـــوة كــانــت مــلعــبــا
لشــبــابــيــنــا وكــانــت مــرتـعـا
كــم بـنـيـنـا مـن حـصـاهـا أربـعـا
و انـثـنـيـنـا فـمـحـونا الأربعا
وخــطـطـنـا فـى نـقـى الرمـل فـلم
تــحــفـظ الريـح ولا الرمـل وعـى
لم تــزل ليــلى بــعــيــنــى طـفـلة
لم تــزد عــن أمــس إلا أصــبـعـا
مـــا لآحـــجـــارك صـــمـــا كـــلمــا
هـاج بـى الشـوق أبـت أن تـسـمعا
كــلمــا جــئتــك راجــعــت الصــبــا
فـــأبـــت أيـــامـــه أن تــرجــعــا
قــد يــهــون العــمــر إلا سـاعـة
وتــــهـــون الأرض إلا مـــوضـــعـــا
■ ■ ■

5- محمد علي شمس الدين (1942) شاعر لبناني يعتبر من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي منذ عام 1973. في ما يلي قصيدة «وجه ليلى» المستلهمة من قصة ليلى والمجنون:
وجــه لليـــلــى هو العشق
ما تفعل الآن ليلى
أتنسى مواعيدها؟
بين وقع الخلاخيل والنار
هذا دمي غائراً في الخطى
شاحباً كارتحال اليمام
تغربتُ حتى بيَ استأنس الوحش
وانحلّ خوف المسافات عن كاهلي
وساوى بي القفر سكانه
فهل يفهم الرمل حزني
وشوقاً يخضُّ العظام؟
وقلت ارتحل يا فتى نحو نجد فقد هاج منها الصبا
(ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد)
(فقد زادني مسراك وجداً على وجد)
تسنمتها ناقة من دمي
وخوَّضت في القفر
أدلجت نحو الخيام التي رنق الليل جفناً لليلى بها
تراءت سماء على صدرها نجمة مثل حزني (ووجه لليلى)
وكانت تحوم الغزالات حولي فأبكي
وآوي إلى نخلة (وجه ليلى على جذعها في الشآم).
أتاني من القاع ريم
فقلت اقترب فلما دنا كان وجهاً لليلى
فعانقته
وغمَّست بالدمع قرنيه
ألوي على ساعدي جيده
وبتنا أليفين ثم افترقنا
أهذا هو العشق واحسرتاه؟
وقلت ارتحل ليس هذا لقاء المحبين
قلت ابتعد تلك أعلامها في الخيام
فلما التقينا وآنست منها سلاماً وظلا
وقبلتها في الفم الرطب أنكرتها
وأعلنت هذا جنوني
فهل أبصرت عينك الآن وجهاً لليلى؟
ومن أنت؟ من أنت؟
آه!!
وأقفلت وجهي بكفَّيَّ
حتى غدا مثل باب الرُّخام
وحمّلته نحو أهلي
فقوموا اشهدوا ولا تسألوا
فقد آن أن تستريح العظام
علقت على باب الدنيا قلباً مطعونْ
وصلبت جناح الطير على جذع الزيتونْ
ونقشت على عنقي سيفاً
وعلى هدبي سيفاً مسنونْ
وشنقت الشمس بأعتابي
وصفعت قفا القمر المفتونْ
لا قيسُ أحب ولا ليلى
عرفَت وجهاً للمجنون.
■ ■ ■

6 - لويس أراغون (1897-1982) من أعلام الشعر الفرنسي المعاصر، تم ترشيحه لجائزة نوبل للآداب أكثر من مرة، وأشهر قصائده «عيون الزا» التي استلهم فيها أكثر من مرة قصة ليلى والمجنون (مقطع بترجمة سامي الجندي):
يا اسماً ليس اسمي يقف في فمي
كشيء من طهارة يكسر نغمه
كزهرة في الزيزفونة نشم قبل أن نرى
يا اسماً من فانيلا وجمر يا مثل طائر على غصن
خفيفاً على الشفة الراعشة حلواً على ملمس اليد
كزجاج تحطّم كمثل مداعبة
كاعتراف بالحضور على طرف الظل وإغرائه
اسم بعيد في المدينة وقريب كتمتمة عاشق
يا اسماً يحمرّ على لساني وما أن ألفظه
حتى أشتهي أن أبقى ذيلاً لثوبه أو عبيره
ألا أكون سوى غباره أو ذكرى خطوه الدقيق
ومع ذلك إذا ذكر أحدهم يوماً
أني قلت هذا الاسم الذي لها وتضطرب روحي لها
فافعلوا ما يريده القلب: أن أبقى بلا اسم
في جوارها وعلى دربها ولتقولوا إني مجنونها.