في المشهد الرابع من الفصل الأول من «هاملت»، يعلن مارسيليوس أنّ ثمة «شيئاً ما عفن في مملكة الدنمارك». درج تداول هذه العبارة من دون كلمة «دولة»، فيُقال «ثمة شيء عفن في الدنمارك»، كأنها مفردة زائدة يمكن الاستغناء عنها. غير أنّ «هاملت» مسرحية عن الفساد، بوجهيه السياسي والأخلاقي، كمحرك لأفعال من هُم في السلطة، فلا تقوم العبارة من دون «دولة»، مثلما لا يحدث الفساد من دون سلطة تسمح بوقوعه. بعد مرور خمسة قرون على كتابة المسرحية، يتداول السياسيون والاقتصاديون اليوم عبارة من نوع آخر، هي «الطريق إلى الدنمارك» ــــ بخلاف ما جاء على لسان مارسيليوس ــ تعبّر عن النموذج الذي يبدو أنه وصل إلى سيطرة معقولة على أشكال الفساد، وتعد النزاهة العامة فيه معياراً، والفساد استثناءً، حيث ثقافة وسياسات مجتمعية تملك آليات مكافحة الشيء الفاسد في السلطة. لا تلزم مفردة «دولة» في هذه العبارة، فـ «الطريق» ساهمت فيه منظمات وجمعيات ومؤسسات تعليمية وصحافية، وقبل أي شيء إنه من فضائل الحداثة الأوروبية كما يروج له دائماً. هذا النوع من البلاد التي تنعم بـ «الحكومة النظيفة» قليل جداً، يعدّه باحثون متفائلون أمثال الرومانية ألينا منجيو بيبدي بحدود الخمسين دولة في عصرنا. أما الأكثر واقعية، كالاقتصادي الأميركي دوغلاس نورث، فيعدون عشرين دولة فقط.


المقال بالطبع ليس عن الدنمارك، فلها مثلما لغيرها من البلدان تاريخ من الفساد ومعه، وقد سعى الباحثون الهولنديون رونالد كروزي، وأندريه فيتوريا، وجي غيلتنر إلى كتابة تاريخ مقاومة الفساد على مستويات متعدّدة جغرافياً وزمنياً، فجاء كتابهم «مكافحة الفساد عبر التاريخ» (منشورات أوكسفورد ـــ 2018) ليغطي العصور القديمة وصولاً إلى العصر الحديث، في عشرين فصلاً تقارب إمبراطوريات وأنظمة حكم مختلفة وتركّز على تلك الأوروبية.
الكتاب صدر حديثاً عن «عالم المعرفة» في جزءين نقلهما إلى العربية المترجم المصري إيهاب عبد الرحيم علي. ينتهي الجزء الأول مع نهاية الفصل العاشر، ويغطي الفكر السياسي والفساد ومكافحته في العصور القديمة المتأخرة، وأثينا الديموقراطية، والإمبراطورية الرومانية المتأخرة، وأرض الرافدين بين القرنين التاسع والحادي عشر ميلادية، وفي إيطاليا وفرنسا والبرتغال وإنكلترا وإسبانيا في العصور الوسطى وفي عصر الحداثة المبكرة. أما الجزء الثاني، فيغطي الحداثة المبكرة والأزمان الحديثة في هولندا والدنمارك والسويد ورومانيا وألمانيا وبريطانيا والإمبراطورية العثمانية.
إلى جانب المحررين، يسهم في العمل الضخم، مؤرخون من بلدان مختلفة، إذ يسعى الكتاب من بين أهدافه المختلفة، إلى أن يغطي المؤرخون ما غفل عنه الاقتصاديون والسياسيون، وربما تكون الثغرة هي البحث في جذور الفساد العام كمعيار، والنزاهة بوصفها الاستثناء. قول لا يتنافى مع رأي علم النفس الاجتماعي من أن أي مجموعة تتشارك الموارد تجد مشكلة في تأمين توزيع تلك الموارد بشكل عادل على أعضائها.
الكتاب يفسّر أيضاً لحظات التغيير الرئيسية في الماضي، التي شملت الفكر السياسي أو الإصلاحات والسياسات العامة، التي «بدورها قد تدعم أو تقوّض التصورات واليقين غير المبرر الذي نعيشه اليوم حول أسباب نجاح وفشل سياسات مكافحة الفساد وعلاقتها بصورة الدولة على أنها فاسدة»، كما يشرح المحررون في المقدمة.
في فصل «الدولة والعائلة وممارسات مكافحة الفساد في الدولة العثمانية»، تقف الباحثة التركية أيريس أغامون عند تطبيق مفهوم «سيادة القانون» على الأسرة كمجموعة قابلة لأن تكون فاسدة، من خلال دراستها لإنشاء صناديق الأيتام في القرن التاسع عشر. من خلال هذه الصناديق، أنشأت السلطات العثمانية صلة بين المجال الخاص للأسرة والمجال العام للدولة. وعنى ذلك أنّ رأس المال الخاص بالأيتام تمت إزالته حرفياً من ملكية الأسرة ووضع تحت إدارة القوانين المالية العامة، من دون أن يعني ذلك أنّ أصول هذه الأموال لم تتعرّض للفساد من قبل مسؤولي الصناديق أنفسهم أحياناً. مكافحة الفساد بحدّ ذاتها لم تكن جديدة على البيروقراطية العثمانية، غير أنّ الهدف منها كان منع المسؤولين من الفساد، في حين أدى تبني خطاب «سيادة القانون» في تلك الفترة إلى أن تطال هذه المكافحة كافة مجموعات المجتمع، والأسرة الوصية على الأيتام هنا نموذجاً. جاء تأسيس صناديق الأيتام مع ما يعرف بإصلاحات التحديث التي شملت الكثير من الإجراءات التي رمت إلى مناهضة الفساد. تلفت الباحثة أيضاً إلى مفهوم الفساد وعلاقته بالسياق العثماني والتأثّر بالأفكار والحداثة الأوروبية، فتقول «أُصرّ على أن «الفساد» يقف في التأريخ العثماني مثل فيل في الغرفة، يحمل عبئاً استشراقياً رمزياً. صحيح أن المؤرخين ناقشوا الفساد في كثير من الأحيان. ولكن حتى يتم تأريخه بشكل منهجي، وبصورة غير اعتذارية وخالية من المفارقات التاريخية الحداثية، فإنه سيظل يلقي بظلاله على تأريخ الإمبراطورية العثمانية».
يفتح تصور أغامون هذا على علاقة معنى الفساد بالسياق، وهي مسألة يعالجها الكتاب من فصل إلى آخر بشكل مباشر وغير مباشر. إذ تكشف القصص الأرشيفية المطروحة كأمثلة من بلدان وعصور مختلفة على اختلاف الرأي حول ما يعرّف كسلوك فاسد يجب أخذ إجراء قانوني بخصوصه، في البلد الواحد والفترة نفسها أحياناً، ما يعني أن الفساد أيضاً مفهوم خاضع للسياق الاجتماعي والسياسي الذي يقع فيه.
مثال آخر نقف عنده في فصل «تناقض المعايير العالية للنزاهة العامة»، الذي يناقش تاريخ الفساد في هولندا. نتعرّف إلى الحركة الإصلاحية القوية التي بدأت في القرن الثامن عشر، ثم الاختلاف على تعريف الفساد بين الأحزاب السياسية المختلفة، بل الفرق بين الفساد داخل البلاد وفي مستعمراتها، ويقف الفصل عند ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، كان نظام الأزمة الهولندي، نظاماً حكومياً مرادفاً لإساءة استخدام المال العام والربح الحربي وإساءة استخدام المنصب، ما قوض صورة هولندا كدولة حديثة. كان «الفساد في كل مكان، إشارة إلى تدهور الحضارة الغربية المحترمة». وكان «المجتمع البورجوازي الهولندي مهووساً وفاسداً». اللافت أنّ البرلمان قرر بدء تحقيق انتهى عام 1922، وفيه تمّ نسيان أزمة الحرب وكذلك الفساد المصاحب؛ وما اعتبره كثيرون فساداً أثناء الحرب أصبح «حوادث مبالغاً فيها»، ومن ثم «فإن الصورة الذاتية لهولندا الحديثة على أنها خالية من الفساد تستند أيضاً إلى القدرة على نسيان مثل هذه الأحداث بشكل جماعي وتغليفها بالصمت» وفقاً لكاتب هذا الفصل جيمس كينيدي.
يخترع الفساد أشكالاً جديدة في كل عصر


يلفت محرّرو الكتاب إلى أنّ القول بأن على جميع البلدان اتباع «الطريق إلى الدنمارك»، إنما هو «فرضية غائية جداً»، وتفترض أن الطريق الذي سلكته الدول القومية الرأسمالية الديموقراطية هو «خلاصة التاريخ»، وأفضل ما وصلت إليه العقول، فلا يوجد طريق خطي على دول العالم اتباعه بشكل أعمى، وهو الذي أوصل الدول الفاسدة قبل الحداثة إلى دول حديثة وغير فاسدة، ولا سيما أنّ الفساد يخترع أشكالاً جديدة في كل عصر، وأن الوسائل التي جعلت تلك الدول ما هي عليه لن تصلح بالضرورة لدولة من هذه البقعة أو تلك من العالم.
يعدنا الكتاب بتاريخ عالمي لمناهضة الفساد، لكنه يخفق في فعل ذلك، فالنماذج المطروحة تركز على العالم الغربي، أما الفساد غير الغربي فلا يحضر إلا عبر أمثلة بعيدة تاريخياً. مع ذلك، يبدو الأمر مفهوماً في ظل صعوبة وربما استحالة البحث في المسألة في كثير من الدول الحديثة لشرق وجنوب العالم، واستحالة الوصول إلى حقيقة.
في «هاملت»، يمثل شبح الملك حقيقة لا يمكن دحضها ولا إثباتها. يحضر شبح القتيل إلى عالم الأحياء يتمشى ويتكلم، نذير شؤم على أنّ شيئاً فاسداً سيحدث وأنّ آخر كان قد حدث بالفعل. يبدأ الفساد من أذن الملك التي يسكب كلوديوس السم فيها. يقول الشبح إن السم غزا جسده الأعزل وانتشر عبر البوابات والأزقة. يختلط علينا جسد الملك المسمّم بجسد الدنمارك كلها، يخرج السم من أذن الدولة مثلما دخل فيها وينتشر ليغتال بلداً بأكملها.