ترجمة: يزن الأشقرعندما كنت صغيراً، ظننتُ أنّ كتاب «الحياة: دليل المستخدم» سيعلمني كيف أعيش، و«الانتحار: دليل المستخدم» سيعلمني كيف أموت. لا أستمع حقيقةً لما يقوله الناس لي. أنسى الأشياء التي لا تعجبني. أنظر في الشوارع المسدودة. تتركني نهايةُ رحلة بمذاقٍ حزينٍ كما تفعل نهايةُ رواية. لا أخاف مما سيأتي عند نهاية الحياة. أستوعبُ المعاملة السيئة من شخص ما ببطء، أتفاجأ دائماً: يبدو الشر غير حقيقي بطريقة ما. عندما أجلس عاري الساقين على قماش الفينيل، لا يتزحلق جلدي، بل يصدر صوت صرير. أحبُ الأرشفة. أطلقُ النكات عن الموت. لا أحبُ نفسي. لا أكرهُ نفسي. سجلّ قيودي نظيف. التقاط الصور بطريقةٍ عشوائيةٍ شيء يعارض طبيعتي، لكن بما أنني أحبُ القيام بأشياء تعارض طبيعتي، اضطررت أن أختلق أعذاراً لألتقط الصور عشوائياً، مثلاً؛ أن أمضي ثلاثة أشهر في الولايات المتحدة مسافراً فقط إلى المدن التي تشترك بالاسم مع مدينة أخرى في بلد آخر: برلين، فلورنسا، أوكسفورد، كانتون، أريحا، ستوكهولم، ريو، ديلهي، أمستردام، باريس، روما، المكسيك، سرقوسة، فرساي، ليما، كلكتا، بغداد. (...) أفضل أن أشعر بالملل وحيداً على أن أشعر به مع شخص آخر. أتجول في الأماكن الفارغة وآكل في المطاعم المهجورة. لا أقولُ أن «ألف أفضل من باء» بل «أُفضّل ألف على باء»، لا أتوقف عن المقارنة. عندما أعود من رحلة، لا أُفضّلُ جزء الخروج من المطار ولا الوصول إلى البيت، لكن رحلة التاكسي بينهما: لا تزال مسافراً، لكن ليس حقاً. أُغني بطريقة سيئة، لذا لا أُغني. كان لدي فكرة عن متحف للأحلام. لا أؤمن بأن حكمة الحكماء ستضيع. حاولت مرة أن أضع كتاباً جامعاً للكتابة العامية، استنسخت رسائل خطية من أشخاص غير معروفين، مصنفة بالنوع: نشراتٌ عن حيوانات مفقودة، تبريراتٌ تُركت على زجاج السيارات لشرطة السير لتجنب دفع العداد، توسلاتٌ يائسة لشهود، إعلانات تغيير في الإدارة، رسائل مكتبية، رسائل منزلية، ورسائل إلى الذات. لا أستطيعُ النوم بجانب شخص يتحرك، يشخر، يتنفس بثقلٍ، أو يسرقُ الغطاء، أستطيع النوم وذراعي حول شخص لا يتحرك. حاولت الانتحار مرة، وأُغريتُ أربع مراتٍ لمحاولة ذلك. يجلب لي صوت جزارة العشب البعيد في الصيف ذكريات الطفولة الفرحة. أنا سيءٌ في الرمي. قرأتُ الكتاب المقدس أقل مما قرأت مارسيل بروست. يضحكني روبيرتو خواروث أكثر من آندي وارهول. يجعلني جاك كيرواك أرغب بالحياة أكثر من تشارلز بودلير. يصيبني لاروشفوكو بالكآبة أقل من ما يفعل بريت أيستون إليس. جو براينارد أقل جزماً من والت ويتمان. أعرف جاك روبو بشكل أقل من جورج بيريك. جيراسيم لوكا أكثر إحباطاً. لا أرى رابطاً بين ألان روب-جرييه وأنطونيو تابوكي. عندما أضع قائمة أسماء، أجزع من الأسماء التي نسيتها. أستطيع أن أرى نفسي وسيماً من زوايا معينة، بسُمرة وبقميص أسود. أعتبر نفسي قبيحاً أكثر من كوني وسيماً. أحبُ صوتي بعد ليلةٍ في الخارج أو عندما يصيبني الرشح. لا أعرف الجوع. لم أكن يوماً في الجيش. لم أسحب سكيناً على أي أحد. لم أستخدم أبداً رشاشاً أوتوماتيكياً. أطلقتُ النار من مسدس ريفولفر. أطلقتُ النار من بندقية. أطلقتُ سهماً. اصطدتُ الفراشات. راقبتُ الأرانب. أكلتُ طائر الذيال. أميزُ رائحة النمر. لمست رأس السلحفاة الجاف وجلد الفيل السميك. رأيتُ قطيعاً من الخنزير البري في غابة في النورماندي. أسافر. لا أفسر. لا أعذُر. لا أُصنّف. أمضي بسرعة. أنجذبُ إلى الإيجاز في اللغة الإنكليزية، أقصر من الفرنسية. لا أسمي الأشخاص الذين أتحدثُ عنهم لشخص لا يعرفهم، أستخدم، رغم ما يسببه ذلك من مشاكل، عبارات مجردة؛ مثل «ذلك الصديق الذي عَلِقت مظلته الهوائية بأخرى عندما قفز ذات مرة». أفضّلُ الذهاب إلى النوم على الاستيقاظ، لكني أفضّل الحياة على الموت. (...) أنظرُ بتمعنٍّ إلى الصور القديمة أكثر من الحديثة؛ هي أصغر، وتفاصيلها أدق. لاحظتُ أن على أزرار الأبواب الباريسية، يبلى الرقم واحد بسرعةٍ أكبر. لست خجلاً من عائلتي، لكنني لا أدعوهم لمعارضي الافتتاحية. أحببتُ أحياناً. أحبُ نفسي أقل ممّا أُحببت. أُفاجأ عندما يُحبني أحد. لا أعتبر نفسي وسيماً لمجرد أن امرأةً قالت عني ذلك. ذكائي غير متساوٍ. غرامياتي تشبه بعضها وتشبه غراميات الأشخاص الآخرين، أكثر ممّا تشبه أعمالي بعضها بعضاً، أو أعمال الأشخاص الآخرين. لم أشارك حسابي البنكي أبداً. علقَّ أحد الأصدقاء أنني أبدو سعيداً عندما يأتي الضيوف إلى منزلي وكذلك عندما يغادرون. لا أعرف كيف أقاطع محاوراً يُصيبني بالملل. هضمي للطعام جيد. أحب مطر الصيف. لا أفهم لماذا يُهدي الناس هدايا غبية. تُصيبني الهدايا بالإحراج، سواء كنت الهادي أو المتلقي، إلا عندما تكون الهدية المناسبة، وهو ما يندر. رغم أنني أعمل لحسابي الخاص، أترقب نهاية الأسبوع. لم أقبّل يوماً عشيقة أمام والدي. لا أملك مكاناً لإمضاء نهاية الأسبوع لأني لا أُحب أن أفتح ثم أُغلق العديد من المصاريع خلال يومين. لم أعانق صديقاً ذكراً بشدة. لم أشاهد جسد صديقٍ ميت. رأيت جسدَي جدتي وخالي الميتين. لم أقبل ولداً. اعتدت على ممارسة الجنس مع نساء في مثل عمري، لكن كلما تقدمت في العمر قلوا هن في السن. لا أشتري الأحذية المستعملة. مارستُ الحب على سطح الطابق الثالث عشر في عمارة في هونغ كونغ. مارستُ الحب في النهار في حديقة عامة في هونغ كونغ. مارستُ الحب في حمام في محطة قطار باريس- ليون. مارستُ الحب أمام بعض الأصدقاء في نهاية عشاء ثمل جداً. مارستُ الحب على درج جادة جورج ماندل. مارستُ الحب مع فتاة في حفلة في السادسة صباحاً، بعد خمس دقائق من سؤالها، دون مقدمات، إذا ما كانت ترغب بذلك. مارستُ الحب واقفاً، جالساً، مستلقياً، على ركبي، متمدداً على جهة أو أخرى. مارستُ الحب مع شخصٍ واحد، مع اثنتين، ثلاثة، وأكثر. دخنتُ الحشيش والأفيون، واستنشقت الكوكايين. أرى الهواء النقي مسكراً أكثر من المخدرات. دخنت حشيشتي الأولى في عمر الرابعة عشرة في شقوبية، اشترينا أنا وصديقي بعض «الشوكولاتة» من حارس في الشرطة العسكرية، لم أتوقف عن الضحك وأكلت أوراق شجر الزيتون. دخنت بضع سجائر حشيش في بدروم مدرستي، كلية ستانيسلاس، في عمر الخامسة عشر. هجرتني الفتاة التي أحببتها أكثر من الأخريات. في العاشرة جرحت أصبعي في طاحونة الدقيق. في السادسة كسرتُ أنفي بعد أن صدمتني سيارة. في الخامسة عشرة سُلخ جلد وركي وكوعي بعد سقوطي من دراجة، قررتُ تحدي الشارع وركبتها دون استخدام يدي، ناظراً إلى الوراء. كسرت إبهامي أثناء التزلج، بعد أن طرت في الهواء عشرة أمتار هابطاً على رأسي، وقفتُ ورأيتُ، كما في أفلام الكارتون، شموعاً تدور في الهواء ثم أغمى علي. لم أمارس الحب مع زوجة صديق. لا أحبُ أصوات العائلات في القطار. لا أشعر بالراحة في الغرف ذات النوافذ الضيقة. أحياناً، أشعر أحياناً أن ما أقوله مملٌ في منتصف الجملة، فأتوقف عن الكلام. يعطيني الفن الذي يتكشف مع مرور الزمن نشوة أقل من الفن الذي يوقفه. أشكر أبي وأمي على منحي الحياة، رغم كونها هدية غريبة. (...) سأتأثر إذا ما قال أحد الأصدقاء أنه يحبني، حتى لو كان التعبير حباً أكثر من كونه صداقة. أرى أن بعض الأعراق أكثر جمالاً من أخرى. عندما أستدلُّ على الطريق، أخاف أن أنسى ما يقوله لي الناس. دائماً ما أتفاجأ عندما يدلني الناس وأصل للمكان الذي أريده: تصبح الكلمات طريقاً. أُحب الحركة البطيئة في السينما لأنها تجعلها أقرب إلى التصوير الفوتوغرافي. أتعامل جيداً مع كبار السن. قد يجذب صدر امرأة انتباهي لدرجة ألا أسمع ما تقوله. أستمتع بالديكورات البسيطة للمعابد البروتيستانتية. لا أكتبُ المذكرات، لا أكتبُ الروايات، لا أكتبُ قصصاً قصيرة، لا أكتبُ مسرحيات، لا أكتبُ القصائد، لا أكتبُ الألغاز، لا أكتبُ الخيال العلمي؛ أكتبُ شذرات. لا أروي قصصاً من الأشياء التي قرأتها أو الأفلام التي شاهدتها، أصفُ انطباعات، أُطلقُ الأحكام. أحتفي بالرجل المعاصر. في أحد كوابيسي المتكررة، تكون الجاذبية ثقيلة لدرجة أن أشباه الناس البدينين الذين يسيرون على سطح الأرض الفارغة يتحركون بصورة بطيئة تحت ضوء قمر لا منتهٍ. فقدتُ الاتصال تماماً بأصدقاء كانوا أعزاء، دون أن أعرف لماذا، أظنُ أنهم هم لا يعرفون لماذا أيضاً. تعلمتُ الرسم عن طريق نسخ الصور البورنوغرافية. لدي حسٌ ضبابي بالتاريخ، وفي القصص عموماً، يُصيبني التسلسل الزمني بالملل. لا أعاني من فقدان من أحبهم. أُفضلُ الرغبة على اللذة. لن يغير موتي شيئاً. أُحبُ أن أكتب بلغة غير لغتي. دخولي امرأة أسرع من خروجي منها. إذا قبّلت لمدة طويلة، يؤذي ذلك العضلة أسفل لساني. أخافُ أن أنتهي مشرداً. أخافُ أن تُسرق صوري وحاسوبي. لا أستطيع تحديد ما هو فطريٌ في داخلي. لا أملكُ دماغاً للأعمال. دستُ على مجرفٍ وضرب مقبضه رأسي. ذهبتُ لأربعة أطباء نفسيين، وعالم نفس واحد، ومعالج نفسي واحد، وخمسة محللين نفسيين. أبحثُ عن الأشياء البسيطة التي لم أعد أراها. لا أذهبُ للاعتراف. تُثيرني الأرجل شبه المفتوحة أكثر من المفتوحة واسعاً. لا أٌجيد النهي. لست ناضجاً. عندما أنظرُ إلى الفراولة، أتخيلُ لساناً، عندما ألعقُ حبة، أفكرُ بقبلة. أستطيعُ أن أرى كيف تكون قطرات الماء عذاباً. هناك طعم للحرق على لساني. ذكرياتي، جيدة كانت أم سيئة، حزينة كما الأشياء الميتة حزينة. قد يخذلني صديق لكن لا يفعلها عدو. أسألُ عن السعر قبل أن أشتري. لا أذهبُ لأي مكان وعيناي مغمضتان. عندما كنت طفلاً كان ذوقي الموسيقي سيئ. الرياضة تُصيبني بالملل بعد ساعة من اللعب. يُثبطني الضحك. أحياناً، أتمنى أن يأتي الغد فجأة. ذاكرتي مبنيةٌ ككرة الديسكو. أتساءل إذا ما زال هناك آباءٌ يهددون أطفالهم بالضرب. صوتُ وكلماتُ ووجه دانيال دارك جعل الروك الفرنسي مسموعاً بالنسبة لي. أفضلُ محادثاتي هي التي أجريتها في الطفولة، مع صديق في بيته حين شربنا كوكتيلات صنعناها بمزج مشروبات أمه الكحولية بصورة عشوائية، كنا نتحدث حتى طلوع الشمس في صالة ذلك البيت الكبير الذي حل فيه ملارميه ضيفاً ذات يوم. خلال تلك الليالي، ألقيتُ خطابات عن الحب والسياسة والله والموت، لم أعد أذكر منها كلمة واحدة، رغم أنني تذكرت بعضها ضاحكاً. بعد سنوات، هذا الصديق، أخبر زوجته أنه نسي شيئاً في المنزل بينما كانا يهمان في الخروج للعب التنس، نزل إلى السرداب ووضع رصاصةً في رأسه من مسدس كان قد تركه هناك. لدي ذكرياتٌ لمذنباتٍ بذيولٍ ناعمة. أقرأُ القاموس. ذهبتُ إلى متاهةٍ زجاجية تُدعى قصر المرايا. أتساءلُ أين تذهب الأحلام التي لم أعد أذكرها. لا أعلم ما أصنعه بيدي عندما لا يكون لديهم ما يصنعونه. ألتفتُ للخلف عندما يُصفّرُ أحدهم في الشارع، حتى لو لم يكن الصفير موجهاً لي. لا تخيفني الحيوانات الخطيرة. رأيت البرق. أتمنى لو كان هناك مِزلقة للكبار. قرأت أجزاء أولى أكثر من أجزاء ثانية. تاريخ ولادتي على شهادة الميلاد خاطئ. لست واثقاً من أنني أملك أي تأثير. أتحدثُ إلى أشيائي عندما تكون حزينة. لا أعلمُ لماذا أكتب. أفضّلُ أطلالاً على نصبٍ تذكاري. أكون هادئاً خلال حفلات لمِّ الشمل. ليست لدي مشكلةٌ مع ساعة المنبه. سن الخامسة عشر هي منتصف حياتي، بصرف النظر عن السن التي سأموت فيها. أُؤمنُ بالحياة الآخرة، لكن ليس ما بعد الموت. لا أسألُ: «هل تحبينني؟». أستطيع القول «أنا أحتضر» مرة واحدة فقط دون أن أكون كاذباً. قد يكون أفضل يوم في حياتي قد مرّ بالفعل.


* إدوارد لوفي (1965-2007) مصور وكاتب فرنسي، عام 2005 نشر كتابه «صورة ذاتية» المؤلف من جمل وصفية شخصية غير مترابطة في فقرة واحدة تمتد على 112 صفحة. في عام 2008، سلم لدار النشر مخطوطة كتابه الأخير «انتحار»، قبل أن يأخذ حياته بيده بعد عشرة أيام. والنص أعلاه هو ترجمة (بتصرف) لمقطع طويل من كتابه «صورة ذاتية»، نُشر في «باريس ريفيو».