بدأت منصورة عز الدين (1976) الكتابة في طفولتها انطلاقاً من رغبة خيالية في «إحياء الموتى» بعد وفاة والدها. كانت تعيش في قرية صغيرة على ضفاف النيل حيث تمتزج قصص الجنيات بإيقاع خطوات فرس أبي زيد الهلالي وانتصاراته في أحاديث السّمر، بينما يتخصّص العم في حكاية قصص الأنبياء و«معجزاتهم»، فضلاً عن الشعر والتراث العربيّين. هكذا كانت «الحكايات» و«النيل» أشبه بجناحَين لخيالها. ومن القرية الصغيرة إلى القاهرة؛ حملت عز الدين حكاياتها وأسئلتها معها، تطوّر شكل الحكاية في مجموعاتها القصصية: «ضوء مهتز» (2001)، «نحو الجنون» (2013)، «مأوى الغياب» (2018)، فيما كبرت الأسئلة في أعمالها الروائية: «متاهة مريم» (2004)، و«وراء الفردوس» (2009)، و«جبل الزمرد» (2014)، و«أخيلة الظل» (2017)، و«بساتين البصرة» (2020)، وأخيراً «أطلس الخفاء»، كما خاضت مغامرة في كتابة أدب الرحلات في «خطوات في شنغهاي» (2021). تقف منصورة اليوم وخلفها حوالى ربع قرن من الكتابة والتجريب، والكثير من الجوائز والتكريمات، وجواز سفر ممتلئ بالرحلات والإقامات الأدبية، لكنها لا تزال تنظر إلى الكتابة بشك التجارب الأولى، وتريد التمرد على نفسها والتخلي عن أدواتها المعتادة، ببساطة لأنّ الكتابة بالنسبة إليها وسيلة لرؤية نفسها والعالم بشكل أفضل.
منصورة عز الدين: أنا مهتمة بالخرائط وكيف تتحكم الجغرافيا بنا وبمصائرنا


تهتمين بالأماكن والجغرافيا، فتكتبين عن الأطلس كشاغل كبير ومحرك مركزي للأحداث. نجد آدم في «أخيلة الظل» وهو يحدّق بأطلس العالم (الحقيقي) بحثاً عن مسقط رأس جدته، بينما يشيّد مراد في «أطلس الخفاء» خريطته الخاصة للتعرف إلى نفسه كفكرة لقضاء وقت ما بعد التقاعد.. فما الذي اختلف بين الأطلسَين؟
ـــ هذه ملاحظة ذكية. آدم كان يحاول تتبع مسار جدته اللاجئة من المذابح العثمانية حتى وصل بها الحال إلى أن تكون مواطنة أميركية، خصوصاً أنّ الجدة ترغب في دفن هذا الماضي، وكأنه يحدِّق في أطلس للعنف، بينما مراد يُعيد تشييد حياته والعالم من خلال تدوين أطلس خيالي. وبشكلٍ شخصي، أنا مهتمة بالخرائط وقسوتها وكيف تتحكم الجغرافيا بنا وبمصائرنا. فالجغرافيا وهي السبب الرئيسي للحروب والانقسامات، كأنها تتلاعب بالتاريخ، فيتبعها مدوّناً ما يترتب على ما تخلقه وتتسبّب فيه.

تصفين رحلة مراد في «أطلس الخفاء» لتدوين استبصاراته بأنه «تنازعته مشاعر الحماس والوجل»، فكيف تتعاملين مع حماس الكتابة ووجلها؟
ـــ الحماس مقدور عليه، بل هو دافعي الأول للقيام بأي شيء. أنا من الشخصيات المتحمسة حتى لأشياء عادية، ربما يزول الحماس سريعاً، لكنه لا يزول في ما يخص الكتابة لأنها أسلوب حياة وطريقة لرؤية العالم بالنسبة لي. أما الوجل فموجود دوماً في كل ما يخص الكتابة من تفاصيل، والفكرة في كيفية التعامل معه لترويضه وتحجيمه، ويحدث هذا بإقناع نفسي بأنني أجرب يدي في منطقة جديدة، ولن أنشر ما أكتبه بالضرورة، ما يقلل التوتر والضغوط فأكتب وكأنني ألعب. لكن يظهر الوجل بشكل جحيمي بعد الانتهاء من العمل وأثناء تنقيحه استعداداً للنشر، فهذه أصعب فترة عندي، ويكون الأمر أصعب عندما أعيد قراءة عمل لي قبل إصدار طبعة جديدة منه لأنني أكون مقيدة بالتعديل والإضافة.
يظهر الوجل أيضاً لحظة التعرّض، في منتصف الكتابة، لإغراء السلوك في طريق آخر وهدم ما سبق أن كتبته، تلك اللحظة المليئة بالشكوك تكون مرهقة، لكنها جزء من متعة الكتابة رغم ذلك.


حدث تحول مهم في لغتك بدءاً من «جبل الزمرد»، كما أن اللغة كانت لاعباً أساسياً في «بساتين البصرة».. كيف تفكرين في اللغة أثناء كتابة النص؟
ــــ هناك جزء فطري وغير مفكَّر فيه في العلاقة باللغة وفهم منطقها وتذوق جمالياتها. أما الجزء الآخر فهو مكتسب من خلال القراءات المتنوعة والوعي المكتسب بفقه اللغة وجمالياتها.
منذ بدأت الكتابة وأنا أولي عناية كبيرة للغة، وأسعى لأن تكون معبّرة عن طبيعة العمل الذي أكتبه، في مجموعتي القصصية الأولى «ضوء مهتز»، كانت القصص كلها في مساحات بينية بين الحلم والواقع. وبالتالي، كنت أبحث عن لغة لا تقول بقدر ما توحي، لغة مراوغة حمّالة أوجه. كنت واعية بذلك أثناء تحرير النص، إذ تعمّدت تظليل كل الجّمل التي ترجّح احتمالاً ما على آخر بشكل واضح للعودة إليها لاحقاً. حدث ما يشبه هذا أيضاً في «متاهة مريم». وفي «وراء الفردوس»، حرصت على تجاور مستويات لغوية مختلفة، بعضها ينتمي للمحكية بدرجاتها المتنوعة، وكان في ذهني أن الحوار بين هذه المستويات المتجاورة يخلق درجة ما من الشعرية غير المألوفة.
أما في ما يخص «بساتين البصرة»، فقد انتهيت من كتابتها خلال إقامة أدبية في شنغهاي في تشرين الأول (أكتوبر) 2018. وبعد ذلك، استمر اشتغالي على اللغة والتنقيح الأسلوبي حتى الأشهر الأولى من 2020؛ لأنني كنت مدركة أن اللغة هي البطل في هذا النص تحديداً. لهذا خصّصت لها كل هذا الوقت.


لكن عليّ التذكير بأن ليس كلّ شيء في الكتابة مفكَّر فيه وناتج عن قرارات واعية، لأن الكتابة الجيدة من وجهة نظري هي التي تخون الكاتب وتراوغه وتذهب إلى مقاصد أبعد من مقاصده. فالنص الجيد يمتلك لاوعياً خاصاً به يفاجئ الكاتب نفسه. حين يُعيد الكاتب قراءة النص، قد يكتشف ما يفهم من خلاله نفسه وانشغالاته، وربما حتى العالم بطريقة مختلفة.
ينطبق هذا أيضاً على اللغة، فهي خوَّانة بطبيعتها، بل لعل أفضل ما فيها قدرتها على خيانة الكاتب والاستقلال عنه وعن مقاصده.

لكن «أطلس الخفاء» انتهى أيضاً في أيلول (سبتمبر) 2018 بحسب ما ذيّلت نصها. هل كتبت الروايتين في الوقت نفسه؟
ــــ نعم، «أطلس الخفاء» كُتبت بالتزامن مع «بساتين البصرة» لأنها بدأت كجزء منها، فشخصية مراد، بطل «أطلس الخفاء»، كانت من شخصيات «بساتين البصرة»، لكنني في مرحلة معينة من التنقيح، شعرتُ بأن الجزء الخاص به يمثل عبئاً على الرواية. كما أن الشخصية ثرية تستحق أن تُكتب في «نوفيلا» مستقلة. وهذا يفسر سبب كتابة الروايتين في الوقت نفسه.

تتحدثين عن علاقتك باللغة العربية منذ الطفولة وعن اهتمامك بالتراث العربي، ألم يشكل ذلك عائقاً في التعبير بلغة عصرية في مرحلة ما، خصوصاً أن تلك العلاقة باللغة ربما تجعل أغلب المرادفات التي تدور في رأسك محصورة بمعجم محدّد؟
ـــ على الإطلاق، وهذا واضح في كتابتي بتعدد مستويات اللغة فيها ومناسبة الأسلوب اللغوي لطبيعة كل عمل ومضمونه. الفكرة أنني أقرأ التراث العربي بحب واستمتاع ورغبة في اكتشاف طبقاته المتعددة الثرية. ولا أفعل هذا بغرض المحاكاة، ولم أشتبك معه إبداعياً سوى في «جبل الزمرد» و«بساتين البصرة». وفي المرتين، حدث هذا على مستوى أبعد من مستوى اللغة. الحرص على عدم محاكاة اللغة التراثية كان واضحاً في «بساتين البصرة»، بأساليبها اللغوية المختلفة، ففي الأجزاء الخاصة بالبصرة القديمة، لم أرغب في محاكاة اللغة التراثية، بل في إضفاء مسحة كلاسيكية ما على لغتي وتطعيمها بصياغات ومفردات تدل على هذا الزمن من دون تقليد لغته. رغبت فقط في الإيحاء بمستوى سردي أكثر جزالة من المستوى السردي المعاصر.

أثناء عملك على رواية، متى تنتهي مرحلة التخطيط للأحداث والشخصيات ويفاجئك النص؟
ــــ كل رواية تُكتَب بطريقة خاصة بها، وتتمثل مهارة الكاتب في الوصول إلى الطريقة المثلى لكتابة الرواية التي يعمل عليها. بدأت كتابة روايتي الأولى «متاهة مريم»، بتدوين ملاحظات كثيرة وملفات عن الشخصيات والأحداث. ورغم هذا الإعداد والتخطيط المسبق، سرت خلف شخصيات العمل ومنطقه، وتحررت من كثير مما سبق وخططت له، فعملية الكتابة نفسها تنير للكاتب ما خفي عليه وتنبّهه إلى جوهر عمله. المهم أن يجيد هو الإنصات والرؤية. «متاهة مريم» تضمنت لغزاً ما للخروج من المتاهة التي وجدت البطلة نفسها فيها، وتوقفت لفترة للتفكير في حل لهذا اللغز، ثم اكتشفت أن الحل موجود في قصة كتبتها بالتزامن مع كتابة الرواية.
«متاهة مريم» محاولة غير مباشرة لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي المصري منذ ثورة يوليو 1952

كأن هذه القصة كانت جزءاً من الرواية من دون أن أدري، وقد حدث هذا لأنني وقت كتابتها كنت مشغولة ذهنياً بـ «متاهة مريم»، لذا حتى ما ظننته بعيداً عنها من كتابة، كان في صميمها.
هناك أعمال أخرى لم يسبقها تخطيط، إنما نبعت من عبارة مبهمة أو مشهد بصري ألهمني البدء في الكتابة، مثلما حدث مع «مأوى الغياب»، التي دوَّنت في يومياتي على هامش كتابتها: «أكتب كالمأخوذة. نص يولد من آخر. لا أعلم إلى أين يقودني شلال الكلمات، لكن استمرار الكتابة وحده هو ما قد يمنحني العلامات المرجوة».

ذكرت أنّ «أطلس الخفاء» كانت جزءاً من «بساتين البصرة»، كما وجدت حلّ «متاهة مريم» في قصة قديمة... هل تتفقين مع أن الكاتب يكتب نصاً واحداً طوال حياته؟
ـــ هذا سؤال صعب لأنّ الأمر يختلف من كاتب إلى آخر. هناك انشغالات أساسية لكل كاتب، وربما أحياناً نجد نصوصاً كأنها طريقة أخرى لكتابة نص سابق للكاتب نفسه.
في حالتي، لا أرى أنه نصّ واحد بل انشغالات متصلة. بمعنى لو أنني مشغولة بفكرة «الحياة المحكومة بالموت» مثلاً، ستكون صدمة الانتهاء والموت كشرط للوجود، ظاهرة بصور مختلفة في أعمالي. كل نص يحمل انشغالات عديدة خاصة به تتغير من عمل إلى آخر، لكن هناك أيضاً انشغال ثابت كأنه عمود فقري رابط. وبالتالي هناك مراحل مختلفة لكل كاتب يكتب على مدار فترة زمنية طويلة.
في بدايتي مثلاً، نجد أن سطوة العائلة على الفرد وابتلاعها له كانت أساسية في «متاهة مريم» و«وراء الفردوس»، سواء العائلة بمعناها الحرفي أو المجازي ممثلاً في المجتمع ككل. بعد ذلك في «جبل الزمرد»، نجد الاشتباك مع «ألف ليلة وليلة». ثم عدت إلى فكرة العائلة بطريقة مختلفة في «أخيلة الظل» من خلال علاقة كاميليا بالأب والأم، وكان سؤالي الرئيسي عن العلاقة المضطربة بالعائلة: كيف يمكن للقهر أن يكتسي بثوب الحنان؟ وكيف أنّ العنف غير المباشر في التربية يلعب دوراً في تحديد مسارات الفرد طوال العمر؟ لكن هل فكرة سطوة العائلة هي أساس هذه الأعمال؟ لا، بل إنّها ليست ما تتمحور حوله كتابتي التي تنشغل بالشكل والبنية الروائية والتجريب بقدر ما تنشغل بالمضمون.

لا أحب الفانتازيا الخالصة لأنّها أقرب إلى ألعاب في الفراغ


المثالان المذكوران في سؤالك، أمرهما مختلف، القصة لم تكن قديمة وقتها، بل مكتوبة بالفعل خلال فترة كتابة «متاهة مريم»، وبالتالي ليس مستغرباً أن تنتمي لعالمها وتكون قطعة البازل المفقودة فيها. أما «أطلس الخفاء» و«بساتين البصرة»، فهما وجهتا نظر مختلفتان لهذا النوع من المعرفة الغنوصية أو فكرة القدرات المفارقة للواقع في الشخصيات كالشعور بأنك ترى ما لا يراه الآخرون أو أنك متواصل بشكل أو بآخر مع ما يفوق حدود الواقع. لكن لكل رواية منهما بنيتها الخاصة ولغتها المختلفة وعالمها المغاير للأخرى.

عندما نضع رواياتك بجوار بعضها، نجد أنه بجانب هواجسك الشخصية وأسئلتك التي تطرحينها خلالها، فإن طريقة تناول الحكاية وشكلها يشغلانك دائماً.
ـــ كغيري من الكتّاب، أكتب انطلاقاً من انشغالات وأسئلة تخصني، لكن هذا لا يعني أن الهواجس الشخصية والأسئلة المطروحة من جانب الشخصيات هي هواجسي وأسئلتي، فلكل شخصية انشغالاتها وهواجسها المختلفة. انشغالاتي ليست في المكتوب، بل في المخفي بين سطور العمل. وبالعودة إلى سؤالك، أنا مشغولة بالتجريب وبالشكل الروائي منذ بدايتي، وأرى أن لا انفصال بين الشكل والمضمون، فكلما كان الشكل متناغماً مع المضمون، أشعر بأنني في الطريق الصحيح للكتابة. وهذا يعني عدم الركون لشكل واحد، فالأهم عندي ليس حكي حكاية ما، بل كيفية حكيها. وكثيراً ما أعمل على بناء العمل في مرحلة متقدمة من كتابته، بعد المسوّدة الأولى أو الثانية حتى. قد أبدأ كتابة رواية بمشهد ما، ثم أعثر على المشهد الافتتاحي مع جملة النهاية أو في منتصف الكتابة مثلاً.
وهذا بالضبط ما حدث معي أثناء كتابة «وراء الفردوس» حيث عثرت على المشهد الافتتاحي عندما وصلتُ إلى منتصف كتابة المسوّدة الأولى. وحين انتهيت من المسوّدة، أعدت الكتابة من جديد بداية من ذلك المشهد. تطلّب هذا هدم ما سبق أن كتبته والاشتغال عليه مجدداً. لذلك الكتابة عندي فعل هدم بقدر ما هي فعل بناء، أو هدم من أجل إعادة البناء. وفي أثناء كتابة «جبل الزمرد»، ظهرت شخصية «بستان البحر» كشخصية هامشية في البداية، لكنني لاحظت أنها تنطوي على ثراء كبير، فتوسعت في كتابتها، ثم وجدت أنها الأنسب للوصل بين زمنَي الرواية (الجزء الغرائبي والجزء الواقعي)، وأصبحت هي الراوي والبطل الأساسي. هكذا أسير خلف ما يقترحه عليّ النص، ولا أخشى الهدم لاستكشاف سيناريو محتمل. لذلك غالباً ما يكون لديّ أكثر من نسخة للرواية نفسها.
في المقابل، أحب أن أتمرد على نفسي والخروج عن مناطق الراحة الخاصة بي. أعمل حالياً مثلاً على فكرة تخلو من هذا الانشغال بالبنية، كما تخلو من التخييل، كنوع من التخلّي عن الأدوات التي اشتهرت بها أو صارت سمات أسلوبية لكتابتي. ويمكن اعتبار أن «أطلس الخفاء» كانت محاولة لفعل هذا بدرجة ما، حيث البناء فيها بسيط، بعيداً عن البنية المركبة الموجودة في «أخيلة الظل» أو «وراء الفردوس» مثلاً، والأحداث خافتة ويومية. لكن هل يستطيع الكاتب الخروج بالكامل عن ذاته؟ لا أظن هذا، لكن مثل هذه التحديات تتيح له رؤية نفسه والكتابة في ضوء مغاير.

الأحلام جزء مهم وحاضر بقوة في مشروعك كأنك تستثمرين الخيال أو بوابة الأحلام لاختبار الأفكار الكبرى أو كوسيلة لرؤية «العالم في حالته الشذرية» أو اختبار حقيقة اللحظة الحاضرة بقياسها على ما تسميه «الجغرافيا الأصلية للعالم».
ــــ أنا مهتمة بالأحلام، وأحلم كثيراً جداً وأدوِّن أحلامي أولاً بأول. كما أحاول تفحّص الإمكانات أو الاحتمالات الفنية الموجودة في تلك الأحلام وإلى أي درجة يمكنني الإفادة منها في الكتابة، وما الذي يمكنها إضافته فنياً إلى الواقع. أهتم أيضاً بكتب تأويل الأحلام في الثقافات المختلفة أو انطلاقاً من علم النفس. أتعامل مع كتاب «تفسير الأحلام الكبير» المنسوب لابن سيرين على أنه عمل إبداعي وليس كتاباً في تفسير الأحلام. قرأته أثناء دراستي الجامعية حيث لفت نظري عند بائع الجرائد على الرصيف في وسط القاهرة، وأعود إليه كثيراً من وقتها.
وأفدت منه في روايتي «وراء الفردوس»، وهناك إشارة لبعض أحلامه في هوامش الرواية. كما عدت إليه بطريقة مغايرة في «بساتين البصرة» عبر حلم «الملائكة التي تجمع الياسمين من بساتين البصرة». وهذا الحلم كان مغوياً بالنسبة إليّ رغم أنه عابر وقد لا ينتبه إليه كثيرون إن قرؤوا كتاب ابن سيرين. و«أخيلة الظل» بدأت كحلم، كنت قد دوَّنته على الفايسبوك، وعلّق بعض الأصدقاء بأنه فكرة رواية، لكنني استبعدت هذا في البداية، ثم بعد أشهر قليلة بدأت في كتابة الرواية بالفعل.

في أعمالك التي تبدو خيالية، غالباً ما نجد حكاية اجتماعية معاصرة وإسقاطاً واضحاً على واقعنا القريب كحكاية جبريل في «أطلس الخفاء»؟
ـــ لا أحب الفانتازيا الخالصة، إذ تكون أقرب إلى ألعاب في الفراغ. وبالنسبة إليّ، فاللجوء إلى الغرائبي هو محاولة لفهم الواقع، والانغماس في ألعاب فنية. وهو لا يعني عدم الاشتباك مع ما يحدث حولي، فرواية تجريبية كـ«أخيلة الظل» هي في الأساس عن مجاز المذبحة والانهيار، و«مأوى الغياب» بكل غرائبيتها خارجة من رحم الجحيم الأرضي المعيش والمدن التي تُسوَّى بالأرض في الواقع. وفي «وراء الفردوس» كان تجريف التربة الزراعية محوراً من محاور الرواية، و«متاهة مريم» التي تتماس مع الأدب القوطي، هي محاولة غير مباشرة لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي المصري من وقت ثورة يوليو 1952 حتى الوقت الذي تدور فيه الرواية.
وبالتالي أنا لست ضد الاشتباك مع قضايا الواقع، بل أراه ضرورياً، بشرط أن يحدث هذا بشكل فني، بما يتناغم مع منطق العمل بحيث تصبح العناصر الغرائبية مغزولة في هذا الواقع ومنغرسة فيه، أي أنّ الفكرة تكمن في كيفية تحويل هذه القضايا لتصبح خادماً للفن لا العكس. فجماليات الفن الروائي هي الأساس، ومن المهم تطويع كل شيء لخدمتها لا الانسياق وراء أن تقول رأيك بشكل خطابي، فالتعبير عن الآراء المباشرة مكانه فن المقال لا الرواية.

منذ مجموعتك الأولى، نجد حديثاً عن البيت القديم والعالم الأول وأبراج الحمام والكثير من مفردات الحنين إلى الماضي. لذلك سؤال الزمن لا يمكن تجاهله في أعمالك.. هل تعتبرين كل ما هو قديم كـ«أصل» أو «أصيل» أم أنّ الزمن أحياناً يضفي قيمةً على شيء زائف؟
ـــ كتابتي أبعد ما تكون عن الحنين إلى الماضي لأن النوستالجيا مضلّلة. على العكس في كثير من أعمالي، فالماضي هو مكمن الداء، ومشكلات كثير من الشخصيات تبدأ من طفولتها وماضيها. لكن في المقابل، أرى أنّ من أدوار الكتابة «الإمساك بالزائل» وإعادة بعثه للعالم بطريقة ما. أتعامل في الإبداع مع المفقود والزائل، ليس بدافع الحنين ولكن رغبة في الاستحضار من أجل الفهم والتأمل، خصوصاً أنّ الكتابة بدأت عندي برغبة طفولية في إحياء الموتى واستعادتهم عندما توفي والدي وأنا في التاسعة من عمري، فرحت أتخيل سيناريوات أعيده بها إلى الحياة.

كيف تطور مفهوم الكتابة لديك على مدار حوالى 25 سنة؟
من واقع هذه السنوات، ألاحظ أنه كلما طالت علاقتك بالكتابة؛ يقل ما تعرفه عنها وتصبح الأسئلة أكثر من الأجوبة. وأنت شاب، تكون لديك وجهات نظر صارمة أشبه بالمانفيستو، وتكون حاداً في مفهومك عن الكتابة الجميلة ورؤاك الجمالية والفنية. لكن مع الوقت، تبدأ في مساءلة مفاهيمك وأفكارك، ثم تشعر بأن ما لا تعرفه أكثر مما تعرفه، وتتعلم الجديد مع كل عمل تكتبه.
خلال الكتابة، تكون كمن يمشي في الظلام أو الضباب، تتلمس خطاك حائراً، أي أن الكتابة، في جوهرها، حيرة معرفية أمام الوجود وحيرة حتى في مواجهة طرق الكتابة نفسها.
وهناك نقطة أخرى، أن الكاتب يمكنه الحكم على أعمال الآخرين بذكاء، لكنه قد يصل إلى مرحلة العماء أمام أعماله، فإما أن يبالغ في تقديرها، أو يبالغ في التشكك فيها والتساؤل عن قيمتها وقدرتها على البقاء. ويحضرني هنا ما كتبه الجاحظ في «البيان والتبيين»: «فلا تثق في كلامك برأي نفسك؛ فإني ربما رأيت الرجل متماسكاً وفوق المتماسك، حتى إذا صار إلى رأيه في شعره، وفي كلامه، وفي ابنه، رأيته متهافتاً وفوق المتهافت». لهذا أرى أن حياة الكاتب تبدأ بعد رحيله، حين تقف أعماله وحدها في مواجهة القراء، بعيداً عن حضور مؤلفها وتأويلاته لنصه وتفاعله مع الآخرين.

ككاتبة وصحافية مهمة، كيف ترين المشهد الثقافي الحالي والصحافة الثقافية في مصر الآن؟
ـــ المشهد الثقافي صاخب أكثر مما ينبغي. هناك أعمال كثيرة من دون فرز نقدي، لكن هناك ثراء أيضاً، وأظن أن الزمن وحده كفيل بالفرز. كما يشهد سوق النشر الأدبي ازدهاراً كبيراً. أما الصحافة الثقافية، فوضعها صعب كحال الصحافة كلها، وهذا يمتد إلى الوطن العربي كله. الصفحات الثقافية أصبحت قليلة، وهناك ملاحق ثقافية كثيرة اختفت.

أخيراً، ما الكتب التي ترجعين إليها بشكل دائم؟ وماذا تقرئين الآن؟
أقرأ حالياً «غيرة اللغات» لأدريان ن . برافي، من ترجمة رامي يونس (أمارجي)، ومستمتعة به جداً، وهو عمل مهم عن الكتابة بلغة غير اللغة الأم والعلاقة بين اللغات المختلفة.
وأعود إلى الجاحظ على الأقل مرةً سنوياً، كما إلى «ألف ليلة وليلة» وكافكا وبورخيس. أنوي قريباً إعادة قراءة أعمال دوستويفسكي. أما الشعر، فلا بد من أن أبدأ يومي بقراءة الشعر عموماً والمتنبي أو طرفة بن العبد والمعري بشكل خاص. أخصص أحياناً وقتاً للعودة إلى شاعر معين لقراءة أعماله، عدتُ أخيراً مثلاً إلى عنترة بن شداد وعمر بن أبي ربيعة.