ليس عنوان الرواية وحده «والله إن هذه الحكاية لحكايتي» (المتوسط) ما يشير إلى مؤلفها عبد الفتاح كيليطو (1945)، إنما هناك إشارة ثانية تتعلّق بـ «الأستاذ ع»، التي تدل على الحرف الأول من اسمه، ثم سيضعنا في مقام الارتياب حين يقتبس عبارة من كافكا في «المحاكمة» كتمهيد أولي للرواية: «ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو». هذه الإشارات وسواها تنطوي على سيرة موازية لصاحبها، فهو «ضالع في الحكاية» بألغازها التي تضع المتلقي في مهبّ الحكي المتوالد على غرار «ألف ليلة وليلة». حتى إنّ شخصية «حسن البصري» في «الليالي»، ستجد مثيلتها في شخصية «حسن ميرو» الذي يستعد لصوغ أطروحته الجامعية عن أبي حيان التوحيدي. هكذا ستتناسل الشخصيات التي لطالما رافقت صاحب «العين والإبرة» في كتبه النقدية، إذ نلتقي التوحيدي والجاحظ، وشهرزاد، وشهريار وابن خلكان، وياقوت الحموي بوصفهم رافعة تخييلية وأدوات نقدية لترميم أطروحة تطاردها اللعنة والقلق والريبة. سوف يسعى حسن ميرو لمراوغة أستاذه هارباً من لعنة «مثالب الوزيرين» للتوحيدي التي اقترحها عليه كعنوان لأطروحته: «لقد فتح حسن البصري باباً ممنوعاً، أما حسن ميرو، فإنه فتح كتاباً ما كان له أن يقرأه»، لينتهي به المطاف إلى تعيين حادثة حرق التوحيدي لكتبه كبوصلته نحو المعرفة، متسائلاً: «ما الفائدة من العناية بنصوص لا تغيّرنا، ومن شأنها أن تتركنا رهائن لأنفسنا؟».


في الرواية وخارجها، ظلّ عبد الفتاح كيليطو رهينة للكتب النفيسة في التراث العربي القديم في مغامرة محتدمة لتفكيك السرديات المستقرة، والارتياب الدائم حيال الأفكار التي تعمل على السطح في تفسير بوصلة السرد وطبقاته. وهو هنا يستضيف مؤلفيه المفضّلين حول مائدة واحدة، مستدرجاً أطيافهم في مقولات مضادة، وبلسانين في آنٍ واحد، وبرفضٍ صريح للعموميات: «تناول بدلاً من ذلك، تفصيلاً، صورة، مشهداً يبدو طفيفاً واجعل منه محور مؤلفات التوحيدي، وبالتالي محور أطروحتك». كأنّ الشخصيات الروائية تعيش في الكتب وتُنشئ حيواتها في المتون، داخل الغرف المغلقة لا فضاء المقاهي وشوارع المدن. على الأرجح، سيتسرب نوع من الندم الفكري على هذا الطراز من حياة المؤلف، لكنه في المقابل سيراهن على سرديات تتناسل من بطون الكتب وعلى تخومها. سيقترح «الأستاذ ع» على حسن ميرو استدراج مؤلف يوليوس موريس «عن كتاب ضائع» إلى المنصّة. المقصود به كتاب «تقريظ الجاحظ» للتوحيدي، وهو كتاب مفقود، ونسف فكرة موت الجاحظ تحت ركام كتبه، الفكرة التي تداولها مؤرخون بوصفها انتقاماً من كاتب خطر أكثر منها حقيقة تاريخية.
لن يتوقف ذعر حسن ميرو هنا، إنما عند ذكر كتاب «مثالب الوزيرين» ذي السمعة السيئة، إذ أشيع أنّ من يقرأ هذا الكتاب، سيعاني من انتكاسة خطيرة، كتلك التي تصيب من يفتح الغرفة المغلقة، وهو ما حصل مع حسن البصري في حكايات «ألف ليلة وليلة» واكتشافه المرأة المجنّحة، وعدم اكتراثه بنصيحة أخته بألا ينظر إلى عينيها، فـ «النظرة تعقبها ألف حسرة». من جهتها، ستعتني نورا شريكة حسن بلعنة القراءة ورسم المنمنمات وكشف نبوءات الكتاب المؤجل وصولاً إلى حكاية يوليوس موريس الذي اكتشف هو الآخر جنيته أثناء استحمامها عارية في بحيرة، فوقع في عشقها قبل أن تختفي لتظهر لاحقاً، على غرار ما حصل لحسن البصري، وما سيحصل لحسن ميرو وللراوي أيضاً.
رحلة عجائبية على أجنحة الكتب، من المغرب إلى باريس فنيويورك


هكذا يخلخل عبد الفتاح كيليطو السرد الأفقي بخلائط هذيانية تتمازج فيها الوقائع، فتنتصر الحكاية المرتحلة وحدها، بصرف النظر عن تضاريسها المتبدّلة، فلكلّ جنيته التي تطير بمعطف من الريش، ولكلّ راوٍ كتابه الملعون. بالنسبة إلى القارئ الكسول والضجر الذي يفتّش عن حكاية مسلّية، لن يجد لدى صاحب «من شرفة ابن رشد» الرواية التي ينتظر، خصوصاً أولئك الذين لم يطّلعوا على أعمال هذا الباحث والروائي الاستثنائي المهووس بكلاسيكيات التراث العربي، وما يوازيها غرباً، في طيرانه بين رفوف المكتبة، وتقليب المخطوطات المهملة، والتحليق عالياً في استجواب ما هو مضمر وملتبس في نصوص الأسلاف، بانتباهات تخييلية مدهشة ومركّزة لا سيولة إنشائية تفقدها قوتها الجمالية لجهة «الإمتاع والمؤانسة» وفقاً لأسلوب التوحيدي الذي ينحو إلى الاقتصاد والحكمة والمتعة
في آن.
هكذا يستدرجنا صاحب «جدل اللغات» إلى شرك الحكاية وإعادة تأويلها في أنساق مغايرة، بقصد تحطيم استقرارها، وتالياً استبدادها التاريخي، ما يضعها في موقع الشبهة والارتياب. على المقلب الآخر، نحن إزاء متاهة سردية في رحلة عجائبية على أجنحة الكتب، من المغرب إلى باريس إلى نيويورك، في مناورات متواصلة للنجاة من اللعنة أولاً، واستعادة ما جرى طمسه من متون الكتب المشؤومة، وتالياً، مجابهة الخطر. فلا كتاب عابراً للأزمنة من دون سرّ يخصّ مصائر شخصياته أو مؤلفه، من «مقامات الحريري» إلى «ألف ليلة وليلة». ثم، ليس حسن البصري وحده من كان يعمل صائغاً، سننتبه إلى صائغ آخر هو عبد الفتاح
كيليطو.