نقش النمّارة نقش عربي كُتب بالحرف النبطي. عُثر عليه في عام 1901 في منطقة النمارة شرقي جبل العرب بسوريا. وهو باسم الملك امرئ القيس بن عمرو، ومؤرّخ بـ 328 ميلادية. وحسب قراءة «دوساد»، التي ما زالت القراءة السائدة منذ أكثر من مئة عام، فإن حجر النقش هو شاهد قبر الملك المذكور، ونصه يعدد إنجازات هذا الملك الحربية.
نقش النمارة حسب دوساد | انقر على الصورة لتكبيرها


لكنني كنت قد قدّمت في عام 2015 قراءة مختلفة للنقش تنقض قراءة دوساد نقضاً تاماً. فالنقش ليس تسجيلاً لانتصارات امرئ القيس الحربية، بل هو نقش إعلاني عن مشروع مائي كبير يتمثل في سدّ شاده امرؤ القيس على وادي الشام في منطقة النمارة. وكلمة «نمارة» في العربية تشير في الواقع إلى تجمعات الماء، أو الماء الكثير. بل ولعلها تعني «السدّ».

انقر على الصورة لتكبيرها


الآن أضيف إلى ما كنت قلته بأنّ حجر النقش ليس شاهد قبر امرئ القيس، بل هو حجر الإعلان عن اكتمال السد وافتتاحه. ويبدو أن الرجل مات قبل أن يجري الاحتفال بالافتتاح. يستتبع هذا أن المبنى الصغير المنعزل الذي عُثر فيه على حجر النقش ليس قبر امرئ القيس، بل مقر إدارة المشروع وحمايته. أكثر من ذلك، فإن الجملة الأولى في النقش (تي نقس امر القيس) تشير إلى هذا السد. لكن قبل أن أعرض لها، أريد أن أذكر بقراءتي لعدد من الجمل المركزية التي فهمها دوساد خطأ، وظل الآخرون يتبعونه فيها.
السطر الأول:
قرأ دوساد السطر الأول من النقش هكذا:
«تي نفس امر القيس بر عمر ملك العرب كله».
وبمعنى: هذا قبر امرئ القيس ملك العرب كلهم.

انقر على الصورة لتكبيرها


لكنّ هذه القراءة لا تصح. فلو كان هذا هو المقصد، لكان على الجملة أن تقول «ملك العرب كلها» لأنّ لفظة «العرب» مؤنثة، أو «ملك العرب كلهم». بناءً عليه، فقد اقترحت أنّه لا توجد كلمة «عرب» في النص، إذ يجب قراءة الكلمة بالغين (غرب). فحرف العين النبطي يمثل العين أو الغاء حسب السياق. بذا يكون امرؤ القيس «ملك الغرب كله»، وليس ملك العرب كله. والغرب في اللغة تعني: حد الشيء وحرفه، أو طرفه ونهايته: «الغرب حد الشيء» (ابن فارس، مقاييس اللغة). ويُسمى الحد كذلك الغراب: «وغراب كل شيء حده» (لسان العرب). بالتالي فقد نكون مع «الغراب» وليس «الغرب». عليه، فامرؤ القيس «ملك الغرب كله» أي «ملك الحد كله». وهذا يحيل إلى المصطلح الروماني Limes Arabicas الذي يعني: «الحد العربي». وهو مصطلح كان يُطلق على الحزام الروماني الطويل، المكوّن من سلسلة حصون عسكرية، تهدف إلى تأمين مناطق سيطرة الرومان من هجمات قبائل الجزيرة العربية. وامرؤ القيس يعلن أنه كان ملكاً لهذا الحد، أو ملكاً لقسم منه يقع في سوريا الحالية. بذا فكلمة الغرب، أو الغراب، عديل كلمة Limes الرومانية، أي أن النقش عرّب المصطلح الروماني لا غير.
السطران الثالث والرابع:
في نهاية السطرين الثالث والرابع جملة ملغزة قرأها دوساد هكذا: «وبيّن بنيه الشعوب». وظل الجدل دائراً حول هذه الجملة. واقترحت قراءات مختلفة لكلمتي «بين بنيه» من قبل كثيرين. لكن الجملة ظلت غامضة جداً. والسبب في ذلك يعود إلى الفهم الخاطئ لكلمة «الشعوب» في النص. فقد فهم أنها تعني الشعب ـ الأمة، أو الشعب- القبيلة. لكن كلمة الشعوب في النقش تعني الوادي أو السيل في الواقع، ولا تعني الشعوب والقبائل: «الشَّعْب: مسيل الماء في بطن من الأرض [أي في منخفض من الأرض]... والشعبة: المسيل الصغير. يقال: شعبة حافل: أي ممتلئة سيلاً. والشعبة: ما صغر عن التلعة. وقيل: ما عظم من سواقي الأودية. وقي: الشعبة: ما انشعب من التلعة والوادي، أي عدل عنه، وأخذ في طريق غير طريقه، فتلك الشعبة، والجمع شُعَبٌ وشعاب» (لسان العرب). يضيف المخصص: «وما عظم من سواقي الأودية فهي شعب، وهي أعظم من التلاع... والشعب: مسيل الماء في بطن من الأرض» (ابن سيده، المخصص).
بذا فالحدث يجري عن الشعوب، جمع شعب أو شعبه، وهي الوديان التي تصب في الوادي الأكبر. انطلاقاً من هذا، يجب إعادة قراءة الكلمتين الملغزتين اللتين قرأهما دوساد على أنهما «بيّن بنيه». واقتراحي كان أنه يجب قراءتهما على أنهما «بيّب بياه». بالتالي، فالجملة تقول: «بيّبَ بِيباه الشعوب». أي أنه لا يوجد أبناء لامرئ القيس هنا. فالنقش يقول إنه حفر، أو فتح فتحات الأودية الصغيرة التي تصب في الوادي الذي يوصل إلى السد، وهو الذي يدعى الآن «وادي الشام». وخذ ما جاء في «لسان العرب» عن البيب: «مجرى الماء إلى الحوض. وحكى ابن جني فيه: البيبه. ابن الأعرابي: إذا حفر كوّة، وهو البيب... والبيبه: المثعب الذي ينصب منه الماء إذا فُرّغ من الدلو في الحوض، وهو البيب والبيبه» (لسان العرب). يضيف الزبيدي: «باب فلان يبيب: إذا حفر كوّة، وهو البيب». يزيد الأزهري: «وأهل البصرة في أسواقهم يسمون الذي يطوف عليهم بالماء: بيّاباً» (الزبيدي ـ تاج العروس). وقد سمّاه البصريون بهذا الاسم لأنه يفتح بيبه من مجرى النهر يأخذ منها الماء.
عليه، فليس هناك شعوب وأمم في النص، وليس هناك أبناء تقسم بينهم هذه الشعوب والأمم.
السطر الخامس:
نأتي الآن إلى الجملة في نهاية السطر الخامس. وهي الجملة البليغة التي أكدت لدوساد ومن بعده أننا مع نقش عربي قريب جداً في لغته من لغة القرآن. تقول الجملة: «فلم يبلغ ملك مبلغه»! وهي جملة متينة، مختصرة، ورائعة. وقد فهمت كلمة «ملك» فوراً على أنها تعني امرَأ القيس. فهو ملك كبير لم يبلغ ملك ما بلغه هو من المجد والرفعة.
لكن هذا وهم. فليس هناك ملوك، أي زعماء سياسيون، في الجملة. فالحديث فيها يجري عن السد، سد النمارة، أي عن مصدر الماء الكبير الذي كرّس له النقش. فالملك في اللغة تعني: البئر، أو مصدر الماء: «ابن الأعرابي، قال: ما له مَلْكٌ ولا نَفْر... ولا مِلْكٌ ولا مُلْكٌ: يريد بئراً وما، أي: ما له ماء. ابن بزرج: مياهنا: ملوكنا» (لسان العرب). بالتالي، فجملة: فلم يبلغ ملك مبلغه تعني: فلم يبلغ ماء مبلغه. أي عملياً: فلم يبلغ سد مبلغ السد الذي شاده الملك امرؤ القيس بن عمرو.
السطر الأول ثانية:
نعود الآن إلى الجملة الأولى من السطر الأول، الجملة التي حددت مسار قراءة النقش كلّه عند دوساد، وقبلها الجميع. وهي الجملة التي تقول: «تي نفس امر القيس بر عمرو». وقد فهمت كلمة «نفس» فيها على أنها تعني: القبر. بذا فقد فهمت الجملة هكذا: «هذا قبر امرئ القيس بن عمرو». وكلمة «بر» نبطية، وهي تعادل «بن» العربية. وقد فهمت كلمة «نفس» على أنها تعني «قبر»، مع أن «تي» اسم إشارة للمؤنث لا للمذكر، الذي هو القبر.
فهل هذا الفهم صحيح؟ والجواب عندي: لا.
فالحديث يدور عن السد لا عن القبر. والنفس هنا تعني: السد. وهي من الجذر (نفس) الذي يعني ضمن ما يعنيه: انبثاق الماء من فتحات، وزيادته أيضاً: «تَنَفَّسَتْ دَجْلَةُ: إِذا زاد ماؤها... ويقال للنهار إِذا زاد: تَنَفَّسَ، وكذلك الموج إِذا نَضحَ الماءَ» (لسان العرب). كذلك: «يستعمل العراقيون جملة «تنفس الشط» بمعنى ارتفع ماء النهر وزاد، وذلك في أيام الفيضان» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). يضيف الأقفهسي نقلاً عن المسعودي: «قال المسعودي: يبتدئ نيل مصر بالتنفّس والزيادة بقية بؤونة وأبيب ومسرى. وإذا كان الماء زائداً زاد شهر توت كله» (الأقفهسي، أخبار نيل مصر). إذن، فدجلة يتنفس، والنيل يتنفس، أي يزيد ماؤه. وقد صارت الزيادة تنفساً لأنّ المعتقد القديم أنّ ماء النيل عند الفيضان يخرج من متنفسات، أي فتحات ومنافذ، من تحت الأرض. أي أن الفيضان هو الماء السفلي وقد خرج من أعماق الأرض.
يؤيد هذا أن اللغات، أو اللهجات، العربية الجنوبية تستخدم كلمة «منفس» بمعنى فتح المنافذ للماء وإسالته. وهي تعادل فيها لفظة منفخة: «وأما لفظة «منفخت»، «منفخة» و«منفخ»، من أصل «نفخ»، فإنها تعني فتح الماء وإسالته، وذلك بفتح الفتحات الماسكة له ليسيل منها إلى المجاري المخصصة بمسيله. وهي في معنى لفظة «منفس» التي هي من أصل «نفس». ويراد بها خروج الماء وجريانه من الفتحات الحابسة له وارتفاعه نتيجة لفتح الماء.... فالمنفخ والمنفس إذن في معنى واحد، ويُطلقان على عملية رفع مستوى الماء بزيادة كمياته من الفتحات التي تضبطه وتسيطر عليه، لأجل رفع مستواه في الأنهار أو في المجاري والسواقي لإرواء الأرضين في يسر وسهولة، ولا سيما الأرضين المرتفعة بعض الارتفاع» (جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام). وفي المعجم السبئي، فإن الفعل «نفس» يعطي معنى: «فتح، بثق، نقى، صفى». أما «منفس»، فتعني: «منبثق ماء، مصب ماء، مصفاة، حوض تنقية (ماء قبل وصوله إلى صهريج أو حوض أكبر)» (Dictionnaire Sabeen (anglais-français-arabe) , Beeston, Ghul, Muller and Ryckmans)
وهذا قريب جداً مما نحن فيه. أي أنّ «نفس» في النقش تحمل معنى «منفس». وهو ما يدعم أن الكلمة في نقش النمارة مصطلح مائي يعني: سد، أو تجمع ماء واسع، يدخل إليه الماء من فتحات، ويخرج منه عبر فتحات أيضاً. وهذا يعني أنّ علينا قراءة الجملة الأولى في نقش النمارة على أنها تعني هكذا: «هذه سدّة امرئ القيس بن عمرو». وهو يعني ما أنّ كلمة «نفس» اعتُبرت كلمة مؤنثة، انطلاقاً من أنها تعني في الأصل اللغوي: فتحة، نافذة، أو متنفسة. لهذا استعملنا «سدة» مع التاء المؤنثة بدل «سدّ» المذكرة. ولدينا دزينتان أو ثلاث من النقوش الصفائية التي ترد فيها كلمة «نفس» أو «نفسه» أو «أنفس». والصفائية كتابة عربية بخط المسند الشمالي توقفت عن الوجود في حدود القرنين الثالث أو الرابع الميلاديين. وقد فهمت هذه الكلمات فيها على أنها تعني «نُصُب». لكنّ الحق أن هذه الكلمات تعني في الغالبية الساحقة من الحالات: السدّ. لكن لأن المجال لا يتسع هنا للبرهنة على ذلك، فلعل عليّ أن أخصّص مادة قادمة للبرهنة على أن كلمة «نفس» في هذه النقوش تعني: السدّ، وليس النُّصُب كما تُفهم عادة.

* شاعر فلسطيني