يبني الكاتب والمترجم والصحافي المصري أحمد عبد اللطيف لعبةً على شكل مدينة في روايته الجديدة «عصور دانيال في مدينة الخيوط» (دار العين ـ القاهرة). مدينة منقسمة إلى طبقتين سفلية وعلوية. شخصيات اللعبة كأنها خرجت للتو من دماغ عالم النفس كارل يونغ. نقابل دانيال المنقسم إلى عدة دانيالات. كل دانيال منهم موجود في جزء من هذه المدينة وزمانها حيث يقابل كل دانيال الآخر سواء في ذكرى أو حلم أو يشاهده عبر النافذة أو حتى في الأرشيف: «وأنا أسكن الطبقة السادسة. وفيما أنا في شرفة هذه البناية أتطلّع إلى الطبقة الخامسة في البناية المواجهة. وأراني. أراني أكتب وأرصّ ورقة فوق ورقة. ليس لأني كاتب وإنما لأني أفهم حين أكتب. ولأنّ الصور التي تلاحقني، لا سبيل للتخلص منها إلا بكتابتها». تتداخل الدوائر ويسلمنا عبد اللطيف من دائرة إلى أخرى، ومن دانيال إلى آخر. ومع كل صفحة تقلب لصالح جديدة، نعتاد على اللعبة ونرى أن كل ما يحدث طبيعي وممكن، وأنّنا نحتاج إلى تفتيش أنفسنا عن آخرين يشبهوننا، وقد توقف بهم الزمن في لحظة معينة لكنهم ما زالوا يحرّكوننا في اتجاهات لا يراها سوانا، مثل دانيال تماماً.


يتحرك دانيال في الرواية، كطفل إلهي كما يحب أن يسمي يونغ هذا النمط من الشخصيات. نمط يوجد بداخل شخصية تعطل نضجها بسبب حادثة أو صدمة نفسية، سببت ولادة هذا الطفل وربما عدة أطفال. في الرواية، لدينا دانيال الأصلي، وإبراهيم، ودانيال الذي يراقب دانيال الأصلي، والشاهد على تاريخهم. لا نستطيع في البداية أن نرى الوصلة بينهم، عالم الرواية يغلفه الارتباك والترقب. لكن على مدار السرد، تنكشف شخصية وتاريخ كلّ منهم وعلاقته بالآخر. نفهم أنّ دانيال لا يفكر، بل إنّ هناك شيئاً ما يفكر فيه. هذا الشيء هو دانيال آخر، أو دانيال الطفل.
يخادع عقل دانيال الأصلي بجعله عاجزاً عن أي جهد واعٍ للإرادة. يفعل ذلك لينجّيه من صراعات أكبر منه. يرى يونغ أنّ للطفل حياة نفسية قبل أن يحصل على وعيه بفعل الزمن. يعلل ذلك بأن المرء منا لا يزال يقول ويفعل الأشياء التي لا يدرك أهميتها إلا لاحقاً، إن وجدت.
هذه الانفصامات بداخل دانيال، تعمل سوياً بنظام يرمي إلى التعويض أو التصحيح، بطريقة جادة. في حالتهم، كان الغرض بشكل خاص هو التطهير. كل هذا يحدث في منطقة لا واعية في الشخصية الأصلية. هذا الطفل الإلهي هو رمز للإنسان البدائي، والعقلية البدائية لا تخترع الأساطير، إنما تجرّبها. يولد دانيال بعدما مات لأبويه ثلاثة أطفال، لكل منهم صورة على الحائط. حينما حملته أمّه، جاءتها عرّافة تخبرها بأن عليها تسميته دانيال كي يعيش. وهذا ما حدث بالفعل. عاش بدون صورة على الحائط، لكن كطفل داخل أسطورة هو بطلها. ولأن كل الأبطال الأسطوريّين لديهم عجز ما، ولأن دانيال خلق كاملاً بشكل كبير، كان يجب أن تتدخّل اليد نفسها التي أرسلت العرافة كرسولة لتؤكد على اسمه المختار. هذه اليد تتجسد في الأب وتجعلها تقطع لسانه، ليصبح عاجزاً، وليكون لدينا مساحة أوسع لرؤية ما يستطيع دانيال فعله في هكذا مدينة بلسان مبتور.
يرى دانيال نفسه كطفل، لكن باسم آخر هو إبراهيم. في الحلم واليقظة يراه، ولا أحد آخر قادر على رؤية هذا الطفل حين يتجلى لدانيال على أرض واقع الرواية. هناك أحلام كانت تعبّر عن صراعات الماضي مع القتل، والاعتداء الجنسي الذي تعرّض له دانيال في طفولته، وأحلام يمكن اعتبارها عرفانية تمثّل بوصلة للتحرك. أحلام تؤكد على احتمال تغيير المدينة. وفي الحلم، هناك عدد لا يحصى من الترابطات التي لا يمكننا أن نجد موازيات لها إلا في الأسطورة التي بطلها دانيال. هو يحلم في الصحو أو وهو نائم. كتب عبد اللطيف حلماً يخصّ كل دانيال، وكل حلم ورؤية أو ذكرى قصة مستقلة يمكن تجريدها من الرواية وقراءتها منفردة. هذه التجارب الرؤيوية المربكة لدانيال ولنا هي أثر الفراشة الذي أهّله ليكون موظفاً في الأرشيف.
وحده دانيال كان يملك نوراً أو يمكن أن نقول وعياً وسط عتمة لا وعي مدينة بأكملها. حين أصر القدر أن تنقطع الكهرباء عن المدينة، كان دانيال يشعل شموعاً كثيرة حتى في النهار. كان يصر على أن يكتب وعلى أن يرى.
ولذلك كان يتحرك تجاه الأرشيف أو الطبقة السفلى من المدينة التي ظلّ طويلاً يعتقد أنه يعرف كل شيء فيها ليعرف نفسه وليعرفنا على أنفسنا نحن أيضاً: «قلت لنفسي ربما يكون ذلك هو الخلود أن يصل أرشيف شخص إلى قارئ غير متوقع، إلى قارئ لم ير كاتب الأرشيف ولا يتخيل هيئته، إلى قارئ يقرأ حكايته ذاتها مكتوبة بتوقيعه ذاته لكن بخط شخص آخر، وفي اللحظة التي يتعرف فيها إلى الكاتب، يتعرف إلى نفسه وينظر إلى حياته كأنّه ينظر في بئر ممتلئة، فيرى فيها ليس وجهه فحسب وإنما شوارع روحه وأزقتها بأبوابها ونوافذها. وفي آخر الملف يوقّع باسمه لأنّ الحكاية حكايته ولأنّه عثر على ذاته في هذه الحكاية».
شخصيات اللعبة كأنها خرجت للتو من دماغ عالم النفس كارل يونغ


الحياة عبارة عن تدفق، تدفق إلى المستقبل. لذلك ليس مستغرباً أنّ الكثير من المنقذين الأسطوريين هم آلهة أطفال يمهّدون لهذا المستقبل. وأروع ما يمكن أن يحدث في هكذا أسطورة هو هلاك هذا الطفل، لينتهي الصراع. وكأي طفل لا يمكن أن يتحمّل العثرات الصغيرة المتمثلة في علامات الترقيم داخل اللغة المكتوبة بها حكايته، لوهلة نشعر أنّ أحمد عبد اللطيف كتب الرواية بعدما أخذ نفساً عميقاً، ثم انطلق قلمه بلا توقف حتى انتهت الرواية. لكن في مقال له، يشرح لماذا لا يستخدم علامات الترقيم فيقول: «ماذا لو استغنينا عن علامات الترقيم تماماً لخلق موسيقى أخرى في النص وإيقاع لغوي جديد في اللغة العربية يكون هدماً فعالاً لإيهام بأننا نحاكي اللغة ببناء فعال هو محاكاة اللغة بالفعل بكل ما فيها من ثرثرة وتلعثم وتردد ووساوس، لتكون اللغة نفسها قادرة على كشف المضمون. وبدلاً من إشارة الراوي في النص السردي مثلاً إلى أن البطل يعاني من الوحدة أو التلعثم أو التكرار أو التيه أو الذهان، يمكن للغة نفسها بتوترها وسيولتها أن تقول ذلك لأنّ اللغة بالفعل بوسعها أن تقول ذلك ولأن اللغة العربية أكثر من أي لغة أخرى تستطيع أن تقول ذلك».