لماذا يبدو يوسف حبشي الأشقر قد ضاع مع جيل كامل من الروائيين من مجايليه في الذكرى الثلاثين لرحيله؟ هل أدب الحرب الأهلية يجُبُّ ما قبله أو ما كان قد انكتب على تخومه؟ أم الحداثة الأدبية التي كانت تُخبز وتُعجن في مختبر بيروت الستينيات، قد حدّدت المعايير النظرية والتجريبية لكل أدب «جديد»، بحيث تُصنّف كل محاولة خارج هذه المعايير كأنها حرثٌ في أرض قديمة؟ كان قدر يوسف حبشي الأشقر (1929ـــــ 1992) أن يولد روائياً بين جيلين: جيل الطليعيين الأول من الأدباء اللبنانيين ممن أرسوا اللبنات الأولى لما يسمى بأدب لبناني «جبلي»، شاركت الرواية الرسمية في جعله أقرب إلى الفولكلور وأسطرة أصحابه وإسباغ الألقاب الجبلية عليهم مثل «ناسك الشخروب» و«فيلسوف الفريكة» و«ناقد عين كفاع»... وجيل آخر خرج في قلب الحرب الأهلية خروجاً هو أقرب إلى عنوان وضاح شرارة «خروج الأهل على الدولة». أدب طالع من رحم الحرب الأهلية يُكتَب على أنقاض لبنان اليوتوبي في مدينة مشطورة خطوط تماس ومتاريس وزواريب. كتابة ضدية للبنان الجيل الأول والقرية التي يسودها الوئام والصفاء، ولا يعكّر صفوها إلا الغريب الذي احتار المقاتلون ومن خلفهم وعلى أطرافهم في وصفه، مِن الآخَر الواقف على المتراس المقابل، إلى المتلفّع بالكوفية أو القادم مما استلحقته فكرة «لبنان الكبير» من الجغرافيا والتاريخ... في هذه المنطقة الرمادية على خارطة الأدب اللبناني، قُدر لأدب يوسف حبشي الأشقر أن يرى النور. مرحلة على حدّ قول المفكر الإيطالي غرامشي لم يُدفن قديمها بعد، ولم يظهر جديدها، وبينهما عالم كامل غير محّدد فلسفياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً، وإنما هو جدلية صعبة في محاولة اجتراح مفاهيم جديدة لقيم قديمة، ومساءلة الله والحب والانتماء والدين عبر كتابة تصنع قيمها وتحيك جلدها بنفسها. كتابة لم تخرج من طابعها الريفي والأسئلة الوجودية والروحانية الكلاسيكية في المجموعات القصصية الأولى «طعم الرماد» (1952)، و«ليل الشتاء» (1955) و«شقّ الفجر» (1956)، ليتطور بعدها العالم الروائي لحبشي الأشقر وتحتدم فيه كل أنواع الصراعات الفكرية والنفسية والفلسفية وتناقضات الهوية والفرد والجماعة والأسئلة القلقة، لتتجسد كلها في أعماله الروائية الثلاثة الكبرى: «أربعة أفراس حمر» (1964)، ثم «لا تنبت جذور في السماء» (1971) و«الظل والصدى» (1989)...
عالم أوضح الروائي بعضاً من معالمه في حوار مع مجلة «الطريق» عام 1981: «الروائي راءٍ يخلُق، وكل رؤية تفترض نظاماً، وكل خلق يفترض سياسة، وكلاهما ممكن دون موقف فكري فلسفي حقيقي. الرؤية والخلق عند الروائي هما دائماً مختلفان عن العالم، وإلا لما نسخ الروائي عالماً يعرفه، وهذه الرؤية الخاصة لا بد أن تكون في خلقها مبرّرة للعالم الجديد المخلوق، أو للعالم القديم الموسّى به أو المطلوب تدميره». في قلب هذه الرؤية «الغرامشية»، كانت «كفرملات» القرية الافتراضية في «لا تنبت جذور في السماء» أشبه ببين- بين، أو برزخ أو بوابة هاديس في الميثولوجيا اليونانية بين عالمين. قرية لا تشبه القرية الرحبانية الغارقة في طمأنينتها اليوتوبية، ولا تتصل بالكامل بالمدينة التي أرادتها حداثة بيروت الستينيات فهرسةً ضخمة للأمكنة والخرائط المبعثرة وحياة ليل ومسرح وملاهٍ وحانات وتسكّع. توجب على الأدب ولا سيما الشعر والرواية وباقي الفنون، أن تقاربها بلا أقنعة، وأن تختبرها بالأعصاب لا بالاستعارة، والارتطام بها من دون قناع ترميزي أو أسطوري: كانت «كفرملات» يوسف حبشي الأشقر كشرفة تطل من علُ على هذه المدينة أو كحدقة منظار تراها وترصدها بحذر من دون أن تلمسها. كانت تهيئ لهذا الانقلاب المديني من خلال خلخلة قيم الأمس، وتمهّد لمجموعات متناحرة لم يكتمل وعيها الريفي لدخول المدينة وصنعها ضمن منظومة علاقات إنسانية أكثر تعقيداً. خلخلة ثقافة كانت تصعيداً مثالياً للهواجس الطائفية والمذهبية التي بذرها تاريخ التخلف في الوعي الباطني لهذه الجماعات العاجزة عن الانتماء إلى ما هو أوسع من المتحد البدائي القبلي-الطائفي «لأن قصته لا تأخذ بمبدأ التطابق مع المحتمل والحقيقي، في عالم الواقع الذي يقوم على عدم القبول بخيانة الصديق، وخيانة المرأة، وعدم القبول بفحش الراهب وسكْر المتزوج، وعدم القبول بالولد العاق والفتاة المستهترة، وعدم القبول بالنوم نهاراً والسهر ليلاً، وعدم القبول بجذور تنبت في السماء. أما مع الأشقر، فالمقبول عرفاً مرفوض، والمرفوض عرفاً مقبول، لأن نمطاً جديداً من العلاقات الإنسانية يأخذ بالتشكّل عبر هاجس الكتابة الذي يستحوذ عليه من خلال فضّ بكارة المحرّم، والمنبوذ، والمدهش، والغريب»، كما يقول موريس أبو ناضر في كتاب «الأدب اللبناني الحي» (دار النهار ــــ 1988).
من جملة يوسف حبشي الأشقر «الحرب لم تضف شيئاً إلى أفكاري، كنت قبلها أؤمن بالعبثية وانهيار جميع المطلقات. كنت أؤمن بذلك فكرياً حتى حدود اليأس» يمكن الدخول إلى عوالم أبطاله حيث الموت هو غواية اليائس والمطلق الوحيد الذي يتصالح فيه أبطاله مع ذوات عاجزة عن تحقيق المطلق في العالم، ويمكن فهم التوتر الدرامي ومنشئه في الجدل المستحيل بين السماء والأرض، حيث السماء ترفض أن تصير أرضاً. في فرسان يوسف حبشي الأشقر المنكفئين على ذواتهم خيبةً من العالم ما يشبه خطأ و«عفن ما في مملكة الدنمارك» في مسرحية شكسبير. خطأ يجعل صورة العالم تخرج من أعماق هؤلاء الأبطال مكسورة كشعاع في الماء. من هذه النزعة المسيحية النيتشوية في جوهرها، يمكننا الدخول إلى عالم «اسكندر الحمّاني» الداخلي في «لا تنبت جذور في السماء» في التردد بين خطوة يخطوها نحو «الآخر» ليصنعا معاً مدينة لا تبنى إلا بضيافة الغريب أو تجاوز الحلم اليوتوبي والاستقرار في المطلق الوحيد الذي تدين به الجماعة والانشداد إلى خطاب يسوّر الأهل والملّة والميليشيا في فكرة انعزالية تتخيلها الجماعة نقية لا تشوبها شائبة وضرورية لاستمرارها وبقائها ودرء الخطر القادم عليها من أي فئة دم مختلفة: «ماذا أعطاني بلدي لأعطيه كُتباً؟ لا شيء. لا شيء. أولاً أنا لست مستعداً أن أرمي بلآلئي للخنازير، ثانياً بلدي مستنقع مياه آسنة لا يمكن حتى للزمن أن يجعل مياهه صالحة حتى للغسيل» يقول اسكندر ويردف: «لن يكون في لبنان أحزاب، وربما يكون هذا لمصلحة لبنان». كما يمكننا أن نفهم غرق «يوسف الخروبي» في «أربعة أفراس حمر» وهو يحتج على عالمه القديم، إذ إن السباحة التي هي أقرب إلى الوعي النقدي الذي يخلق المساحة الآمنة مع العالم الجديد أو الآخر لم تتوفر شروطها بعد. الغرق هو الوجه الآخر للاشتباك السلبي والغرق في الدم والموت والكراهية المتبادلة، والحرب التي كانت تجثم على أعماله كشبح مخيف. نقرأ مثلاً في «المظلة والملك وهاجس الموت»: «الجثث على الطريق، المقاتلون يمشون عليها، يفتشون عن مشاريع جثث أخرى، في تدشين الكنائس قتل، في استذكار البطولات قتل، البيوت على الأكمات أُحرقَت، الصواريخ دخلت غرف النوم، وغرف الأكل، وغرف المتعة، الرصاص أجراس تقرع، يهرب الناس من جنازات المطعونين. كل شيء يغلو أيام الحرب، إلا الحياة، تقول أمي».
الوجه الآخر للتجديد عند يوسف حبشي الأشقر هو خلخلة بنية السرد الكلاسيكية والتحرر بالكامل من آثار الواقعية الاشتراكية التي كانت السمة البارزة لروايات تلك المرحلة، إذ إن اللغة التي تتقدم بدون مقدمات، وتتوقف بدون نهايات، وتمتزج بلغة شعرية ممزوجة بالحلم والتخيل والتشظّي، فاجأت حتى العملاق المصري نجيب محفوظ الذي كان في أوج المرحلة الواقعية في كتاباته، إذ يروي الناقد المصري غالي شكري: «كانت قد صدرت له روايته الثانية «لا تنبت جذور في السماء» التي فرحت بها فرحاً شديداً، وأعطيت نسختي إلى الأستاذ نجيب محفوظ، فقرأها وقال لي: كيف لا نعرف هذا العبقري؟ إنه روائي فذّ. فأعطيته الرواية الأولى، فقرأها أيضاً، وكرَّر: كيف تظلمون مثل هذا المبدع العظيم؟ فهو غير معروف عند القارئ المصري»، إذ إن يوسف حبشي الأشقر غالباً ما كان يصف نفسه بـ «شاعر مصيّع»، أي ضلّ طريق الشعر، وهذا ما نعثر عليه في أكثر من مقطع: «فجأة رأى الأفراس الحمر تركض وحدها مع كرسي الحوذي، والحوذي على الكرسي وهم مصلوبون في عربة تمشي وحدها، بلا خيل، بلا حوذي، ولا قائد، ورأى هاوية تنفتح على مترين أمامهم، فقفز من الباب، عرقانَ، خائفاً، تعبانَ، وفتح عينيه على عتمة في الغرفة، رهيبة». كما أنّ هناك ضربات سوريالية يتحرر فيها الأشقر بسلاسة من الواقع ومنطقه ويسطع فيها برق من اللاوعي والرغبة في ملامسة المستحيل، يمكننا أن نعثر على ذلك في مقطع آخر: «اليوم، كالرجل سيدخل من هذا الباب، وأتمنّاه، ولن يكون لي. عمره كله كان كالطفل يدخل، وكالرجل يخرج. كيف تراه يخرج اليوم؟ سأراه يدخل الآن، سأنظر إليه يجلس.
خلخل بنية السرد الكلاسيكية وتحرّر من آثار الواقعية الاشتراكية التي كانت سمة روايات تلك المرحلة

سأراقب عينيه وشفتيه ووجهه ويديه، وأرى في تعبيرها كلها انتعاش الحلم، بعثه بثياب أعرفها، الحلم الذي كالانتفاضة، والذي لا دخل لي أنا فيه». ويمكننا أن نعثر أيضاً في قلب المونولوغات الحوارية الكثيرة والطويلة التي تقطع الطريق أحياناً على السرد المتدفّق، على تأملات فلسفية عميقة، على النقيض من تلك السوريالية: «قبل أن أترك المزرعة أطللت عليها، فخيّل إليّ أن في الأشجار بعض اليباس، وإن كل ذلك البناء لم يكن سوى خراب. فحوّلت عنها وجهي وقد وثقت بأن كل بنيان، كل إكمال لعمل الله، هو هدم لما يبنيه الله».
بعد ثلاثين عاماً على غياب يوسف حبشي الأشقر، لا بد من غربلة نقدية لتلك المرحلة الرمادية في الفن القصصي والروائي اللبناني التي نظر إليها اليمين اللبناني في أوج مشروعه بحذر لتمردها الذكي على فولكلوره وسردياته وقناعاته الراسخة، وارتاب منها اليسار (لم تحظ كتابات يوسف حبشي الأشقر سوى بصفحات قليلة من النقد في كتاب عفيف فراج «دراسات» الصادر عن جريدة «السفير»»)، إذ إن «أنسي» البطل الآخر ينضم إلى حزب شيوعي يتحسس في عقيدته الشمولية رسوليةً كونيةً، فيتصور الحزب سلماً بين الأرض والسماء، لكن الحزب لا يرتقي إلى مستوى المطلق: يخرج أنسي بالعمّال في تظاهرة عمالية مستقلة عن إرادة الحزب، ليكون هو في حاجة إلى الثورة، لكن الثورة ليست في حاجة إليه، فيصدح بخيبته المدوية «لا الكتابة غيّرت إنساناً، ولا الأحزاب غيّرت كلمة من كلمات الناموس الكبير، ناموس التباهي والكذب والنكران».
لا بد من إنصاف جيل يوسف حبشي الأشقر وفؤاد كنعان وغيرهما من النسيان وتحديد مساهمة هذا الجيل في الرواية اللبنانية الحديثة وما تسلل إلى وعيها الباطني من إرهاصات هذا الجيل القلق الذي جعل القارئ لا يطمئن إلى عاداته النفسية والاجتماعية والثقافية، بل يترك منطقة الراحة ويطرح الأسئلة المخيفة التي كانت تحوم الغيوم في سماء بيروت عشية الحرب الأهلية، ويتحول إلى كاتب يشارك هذا الجيل في زَلزلة القديم والجرأة على المجهول والمجتمع التجاري الفريسي حيث الوعي شقيّ والمعرفة عذاب كما كانا لفاوست. أمور في صلب الحداثة التي استبعدت هذا الجيل من مختبرها: «مع أنني أعرف أن التردد مصدر القلق، وأن الأشياء ليست ملكنا إلا بقدر ما نهبها مما هو لنا، أو مما هو لنا، أدفع إلى النظر إليها بعينَيْ طفل لم يلعب، وشابّ لم يله، ورجُل لم ينضج، وأمضي مأخوذاً ألاحق أحلامي بها وعنيداً أحاول استنفادها، ومتى أعطيت لي هربتُ من تحقيقها، وتركتها كالجسد الشهي الذي حرّكتُه ولم أعطه اللذة، وكالمجرم يحوّم في مكان جريمته، أدور حولها لأتذوقها، إذا تذوقتها، باردة، فاسدة، مفسودة، آسنة».



على قبره تضيع النجوم
تعود به الذاكرة إلى مطعم «فيصل»، في ذلك الزمان، كان بيدر يدخل هذا المطعم كلما تيسّر الحال، في زاوية منه كان يرى رجلاً غريب الملامح، لا يعرفه. فنجان قهوة أمامه، سُبحة في يده، غليون في فمه، قليل الحركة، بعيد عن النظريات السياسية التي كانت تدور حوله لتغيير العالم. مكان آخر كان يراه فيه هو شارع الحمراء، في تلك الآونة كان هذا الشارع ملتقى الوجوه، بين هذه الأمواج البشرية كان يتمشى، كما لو أنه غائب في طواحينها. في آخر المطاف، كان ينتهي به الأمر في مقهى «الهورس شو» أو مقهى «الإكسبرس»، يبتعد عن الواجهة، فيجلس على مقعد في الداخل حيث يكون وحده وسط رؤوس بلا ملامح. في هذا المقهى أو ذاك، كان أهل الثقافة يلتقون: الصحافي والأديب والناقد والشاعر والفيلسوف: عن هؤلاء جميعاً كان هذا الرجل يبتعد، لأنه يعرف أن الكلام يكثُر عندما يغيب الفِعل، وأن الصراخ يعلو عندما يكبر الفراغ. وهكذا مرّت الأيام في خلالها كان بيدر يتساءل في نفسه عن هوية هذا الرجُل إلى أن جمعته به الصُّدفة في نادي انطلياس الثقافي. كانت المناسبة أمسية شعرية. في هذه المناسبة، تطلّع بيدر إلى يمينه، فرآه، لم يكن بعيداً عنه، عرف أنه يوسف حبشي الأشقر. كان بيدر يقرأ الشعر، وكان يوسف يرافقه بمحبة، ربما لأن القصائد تزدحم برائحة الأرض، برائحة البلوط والصنوبر، برائحة التراب والمطر والجذور، برائحة ضيعته «بيت شباب». وانتهت الأمسية دون أن يتعرف بيدر شخصياً إليه، رغم رغبته العميقة في ذلك. طبعاً، كان بيدر يعرف أن يوسف روائي طليعي، وأنه في هذا المجال منطقة جديدة، خميرة وعلامة. ولكن لم تكن هذه المعرفة كافية، هو يريد أن يعرف يوسف الإنسان، ذلك أن جميع الكتب، جميع الآراء والنظريات تظل رمادية باهتة.
وشاءت الأقدار أن يصعد بيدر إلى «بيت شباب» ويقيم فيها. وفي أحد الأيام جاءه رياض فاخوري، وقال له إن يوسف مريض، وهو طالع لزيارته. فطلع بيدر معه إلى البيت في رأس الضيعة. في البيت كان يوسف على مقعد طويل إلى يسار الباب. على طاولة صغيرة عند رأسه فنجان قهوة وسُبحة. ودار الحديث. ما يذكره هو أن الحديث جرى في مناخ دافئ، كما لو أن الواحد يتحدث مع نفسه. لكن الأهم هو الشعور الذي أحسّ به بيدر في نهاية الزيارة. أحسّ أنه يعرف يوسف من زمان، ربما في حياة سابقة. أحسّ أنه مع صديق في زمن يعزّ الصديق. في مرور الأيام توالت اللقاءات دون مواعيد مسبقة. أوقات هذه اللقاءات كانت عادة في المساء، على حسب المزاج والحاجة، لكنها صارت ضرورة حياتية كالنجوم في ليالي السفر: من السياسة إلى غلاء المعيشة، من الصحافة إلى الشعر والأدب، من المدنية المعاصرة إلى جذور الأرض القديمة. لكن في لحظات مشرقة، في لحظات الانفتاح الكبير، كان الحديث يخترق أسوار العالم النهاري إلى مناطق الليل، مناطق الأسئلة الكبيرة حول الوجود البشري، معنى الحياة وحتمية الموت. هنا كان صوته يتغيّر، يصير أكثر جدية، أكثر اقتضاباً، يشير إلى عبثية الحياة وفراغها. والموت؟ إنه البوابة الأخيرة إلى الظلمة؟ والله؟ والحياة الثانية؟ والقيامة؟ هذه كلها مواضع الإيمان. هكذا كان يوسف يحكي، وبيدر يستمع، وفي النهاية كان صمت كبير يخيّم على يوسف، ربما لأنه كان يلمح تخوماً بعيدة عن بيدر وعن أحاسيسه في ذلك الوقت. قبل ظهورها في البساتين والشجر، تنشر الفصول رائحتها في الهواء، المُزارع يشم هذه الرائحة، الصياد يشمّها وطائر الوعر. وكذلك بيدر، بدأ يشم التحول في جسد يوسف، في أحاديثه بدأ يوسف يلهث على غير عادته، في صعوده الدرج بدأ يستند إلى السياج، وفي حياته اليومية بدأ ينكمش.
كان يرفض الذهاب إلى الطبيب.، لماذا الطبيب، وهو يعرف كلّ شيء؟ لكنه فعل ذلك في النهاية بسبب أوجاعه. في انحداره إلى الشتاء الكبير كان رفاقه: شكيب ونديم وبيدر يزورونه استمراراً. كانوا يتظاهرون بأن الحالة طبيعية. لكن، ما الفائدة، والأوجاع تلتهب في خلايا الجسد؟ ورغم هذا، بقي متماسكاً كما لو كانت الحالة طبيعية بالفعل. في انحداره إلى الشتاء الكبير، ما عاد يتحدث عن الموت، فالقريب من الموت لا يعود يرى الموت، عيناه تتسمّران على ما هو أبعد من الموت. هل هناك أراضٍ أبعد من الموت؟ وحده يوسف يعرف الجواب الآن. في انحداره إلى الشتاء الكبير، راح يوسف يسرع في الهبوط إلى أنهار بلا عودة. هذا ما شعَر به رفاقه في زيارتهم الأخيرة له، عبثاً كانوا يحاولون الوصول إليه، صار بعيداً، هناك خلف الأسوار. وحده الظلّ كان يتحرك أمام عيونهم. في الخامس من شهر آب، ترك يوسف «مستشفى رزق». في طريقه إلى ضيعته كان يحلم بالوصول إلى بيته، إلى مقعده تحت الصنوبرة، بالسهر مع الرفاق تلك الليلة. لكن الأحلام تسبق الجسد، فيما هو يتطلع من السيارة صوب البحر، سكت القلب، توقف عن الحركة، وانحنى الرأس واتّكأ على الكتف.
سمع بيدر بالخبر (من رياض فاخوري)، فلم يجنّ، لم يصرخ، لم يمزّق ثيابه، حتى ولا دمعة في العين رغم شدة الزلزال وعنفه، تلقى الخبر بهدوء كما لو أنه حجَر، فالأحداث الكبيرة تأخذ وقتها حتى تصل إلى القلب وتزيحه عن مساره. ومضى الوقت، ربما ساعة، ربما ساعتان، تمكّن بيدر خلاله من لملمة شظاياه، وضع على وجهه قناع التماسك والقدرة، صعد إلى مكان الفجيعة، وما إن وصل إلى المكان حتى تناثر القناع، تناثر الجسد، تناثر الوجود.
بعد ذلك نزل رفاقه الثلاثة إلى «مستشفى سرحال»، دخلوا غرفة البرّاد، لم يكن وجهه يوماً بهذا الصفاء، طويلاً تطلّعوا إليه، لم يبتسم كعادته، لم يعرفهم، كيف يعرفهم وهو لم يبقَ من أهالي هذه الأرض. وفيما رفاقه جامدون كأعمدة من ملح، تقدّم رجلان، واحدٌ أمسك به من جهة الرأس، والآخر أمسك به من جهة الرِّجلين، ثم أدخلاه التابوت، أغلقاه، أحكما إغلاقه، كما لو أنهما يخافان من لصوص يسرقونه في الليل.
رافقوه إلى الكنيسة. في الكنيسة تخيّل بيدر معجزة القيامة، تخيّل غطاء التابوت يرتفع. تخيّل يوسف ينهض، ودون أن يتطلع حوله يحمل سريره ويمشي. في الكنيسة كاد بيدر يصرخ: «ها هو أليعازر، فأين السيّد، أيها الكاهن؟»، لكنه لم يفعل، كان لسانه حطبة. وانتهى الجنّاز، يوسف على الأكتاف، الأبواب الدهرية تنفتح، ثم تنغلق إلى الأبد، صداها إلى آخر الأرض. جرس الكنيسة يدق، على «بيت شباب» يسقط الضباب، يطمر البيوت والشجر.
على قبره،
كل ربيع تموج البراعم،
كل صيف يستريح الظل،
كل خريف يرتجف الورق،
كل شتاء تنطفئ الشمس.
على قبره 
كل ليل تضيء النجوم.
فؤاد رفقة ـــ «أمطار قديمة» (2003)