كتابٌ مُمتعٌ طالعنا به الباحث الفلسطينيّ محمّد نعيم فرحات «كَمين غسّان كنفاني: كيف تعقّب النصُّ تاريخه وأدركه» (العائدون ـــ 2022). فالقارئ للنصّ، يصطدم بجملة تأمّلاتٍ فكريّة، تطرح سؤال إمكانية قراءة تراث غسّان كنفان (1936 ـــ 1972) الأدبي والفنّي والسياسي على ضوء نقدٍ سوسيولوجيّ. فهذا النمط مفقودٌ داخل المكتبة العربيّة المعاصرة، وإنْ وُجد فعلاً، فإنّ حضوره خفيفٌ وباهت وعامّ، كونه لا يفحص النصّ الأدبي ويُشرّحه سوسيولوجياً، بقدر ما يظلّ سادراً أمام عتبة العلاقة وتقييم النظريات وسُلطة المفاهيم، من دون تفكير الباحث في تكييف وتوليف هذه النظريات الاجتماعية الغربيّة مع النصّ الأدبي العربيّ. لا تحضر السوسيولوجيا هنا، باعتبارها علماً له مفاهيمه ونظامه وقوانينه، بل فقط ككتابةٍ تهجس بالاختلاف وأسئلة التجريب، وتُقدّم نفسها كخطابٍ نقديّ مُوزّع بين نظريّة معرفيّة ومُعاينةٍ تحليليّة، تقرأ تراث كنفاني على ضوء نقدٍ اجتماعيّ، يُحرّر فعل القراءة من الاجترار.

وإذا كان محمّد نعيم فرحات توفّق في مسعاه النقدي، فلأنّه باحثٌ خَبر البحث السوسيولوجي وتشبّع بمَعارفه ومفاهيمه ونظرياته واستبطنها استبطاناً، ما يجعله يتشرّب النصوص ويغوص في شذراتها ونتوءاتها ويُسافر بها وفيها، ثمّ يعود مُحمّلاً بسيلٍ من أفكارٍ مُختلفة واكتشافاتٍ مُذهلة، لما تُوفّره العلوم الاجتماعية من أدواتٍ وطرق وآليات في تقديم قراءة مُغايرةٍ للنصّ الأدبيّ، إذ إنّ الأدب العربي المعاصر اليوم، قد استنفد مادّته في ما يتّصل بقراءات نقديّةٍ تقليدية، حائرة بين زخرفة ووصفٍ وفداحة مدحٍ. غدت هذه القراءات تتطلّع صوب تحصيل معرفةٍ فلسفيةٍ، بها تُجدّد نبعها وتجعلها تخوض في مسالك مُبهمةٍ ومُنعرجاتٍ مجهولة، ظلّ النقد المعاصر بمنأى عن التفكير فيها، رغم ما تُتيحه من حداثة مُفرطةٍ في فهم النصوص الأدبيّة العربيّة. إنّ مُعضلة النقد المعاصر، أنّه يتيمٌ من الناحية المعرفية، وذلك يعود إلى أسبابٍ أكاديميّة، إذْ لا يعثر الباحث داخل مُختبراتٍ علمية أدبيّة على موادّ فلسفية وأنثروبولوجية وسوسيولوجية، طالما يعتبرونها دخيلة على الحقل الأدبيّ، رغم أنّ ما يوجد في الأدب من فلسفة، أكثر ممّا يوجد في الفلسفة أحياناً. فالعائد إلى الأدب الفرنسيّ، سيما في كتابات الفيلسوف جان بول ساتر، سيعثر على تشريحٍ دقيقٍ لأفق هذه العلاقة بين الفلسفة والأدب، بعدما حوّل رواياته ومسرحياته إلى كُتبٍ فلسفية، تفرض مُعاينة متأنّية حتّى لا تكون مجرّد كُتبٍ للتسلية والاستجمام.
لم يذهب محمّد فرحات على هذا المنوال، لكنّه ظلّ فكرياً قريباً منه. فالكتاب يستبدل النقد التقليدي الوصفي بآخر تفكيكيّ/ جدلي/ سوسيولوجي. تغدو المعرفة طريقاً لتحرير كتابات غسّان كنفاني من تاريخيّتها وتقديم صورة طباقية مُزدوجة للكاتب في علاقته بفعل المُقاومة ومفهوم المنفى والسرديّة الفلسطينيّة ككلّ. لذلك، نجزم بأنّ ثمّة وعياً معرفيّاً مسبقاً، يُظلّل سيرة صاحب «الفلسطينيون والمنفى»، ويكمن بدرجةٍ أولى في استيعابه مآزق النقد المعاصر وضرورة تحريره من الجمود والزجّ به في مناخاتٍ مُختلفة، يغدو فيها فكراً نقدياً مُشرّحاً للنصّ وقادراً في آنٍ على التّماهي مع كتاباتٍ فلسطينيّة أخرى «مهجوسة بفلسطين وبأسئلتها الكبرى» لما يُضمره الكتاب من وعي غير مباشر على مُستوى تأمّل «النشيد عند محمود درويش، ووضوح الوعي الصّارم عن إدوارد سعيد، ومساهمات أخرى لفلسطينيّين كُثر تزامنت في آفاق مُتعدّدة» حسب تقديم الناقد الفلسطينيّ فيصل درّاج.
قبل أنْ يستدرجنا الكاتب إلى عوالم غسّان كنفاني الأدبيّة، قدّم لنا تفصيلاً دقيقاً عن ذاتيّة كنفاني ودرجات الوعي التي جعلته كاتباً أيقونياً مُتشبّثاً بتحوّلات الواقع وضراوة التاريخ، إذْ يرجع بشكلٍ أساس إلى «صدقيّته والتزامه ونقديّته ورهافته وجماليّته وصلوحيّته وعموميّته وعمق إدراكه لجوهر التاريخ، وصولاً إلى تحوّله إلى دليل يحكم سلوك الكاتب نفسه قبل أيّ شخص آخر، دليل مُجربٌ وصالح ومناسب وفعّال ومُنفتحٌ على أفق تصعيد وتطوير فسيح، كي يسير عليه المعنيّون بحقول التاريخ وتغيّره، مع ما يتطلبه ذلك من شروط».
يربط الكاتب على مدار فصول العمل، قوّة وعي نصّ كنفاني في علاقته بالجدلية التاريخيّة، وكيف عمل على بلورة خطابٍ أدبيّ واعٍ مُنصهرٍ في التجربة الفلسطينيّة، حيث ينسج النصّ عدّة علامات تماهٍ، بين الخطاب والنصّ والواقع والتاريخ. إنّ فتنة الكتابة الحفرية المُبطّنة تدفع الباحث هنا، إلى رصد أفكارٍ جديدة، تقرأ وتتأمّل بوعي عميقٍ تواشجات النصّ الكنفاني، لا باعتباره أدباً يُلخّص في مُتعة القراءة وحصافة التجربة، إنّما بوصفه خطاباً فكرياً تمتزج فيه السياسة بالأدب والفنّ. هذا الخطاب كما يتجلّى في كتاباته القصصية والروائية، غير معنيّ بفتنة الشكل الجماليّ والقالب الفنّي، بقدر ما ينشغل بشكلٍ هوسيّ ببنية الخطاب وجوهره.
ورغم صعوبة الجزم بأنّ الكتاب ينتمي إلى «علم اجتماع الثقافة» كما يقول صاحبه، إلاّ أنّ بعض المصادر الفلسفية المُستخدمة لكلّ من جيل دولوز ومارتن هيدغر وهيغل، قد تنزع عنه صفة «القراءة» السوسيولوجية، لولا وجود بعض الأطروحات المُوفّقة لكلّ من غولدمان ولوكاتش. ما يعني أنّ الخطاب الذي شُيّد عليه الكتاب يتّسم بـ «التركيب»، ويصعب الجزم بأنّه دراسة سوسيولوجية صارمة بمفاهيمها وأطاريحها، لأنّ شكل الكتابة المجرّد، قد ينزع عن المنهج السوسيولوجي صرامته الإيديولوجية ورصانته المفاهيميّة، رغم أنّ الباحث توفّق إلى حدّ كبيرٍ في استشكال علاقة نصّ غسّان كنفاني ببنية التاريخ وبراديغمه. فعل ذلك من خلال محورين رئيسيين: الأوّل مُرتبطٌ بـ «مقاربة لعلاقة النصّ بالعالم ومكوّنات هذه العلاقة وبعض خصوصيات السياق»، وثانياً، عبر تناول «البنية الدالّة لخطاب كنفاني ومندرجاته المختلفة، لتنتهي عند استعراض الوعي الذي قدّمه الخطاب لتاريخه».
بلورة خطابٍ أدبيّ واعٍ مُنصهرٍ في التجربة الفلسطينيّة


إنّ كتاباته تظلّ مفتوحة على هواجس الجسد في علاقته بمتاهات الواقع. وبالتالي، يُصبح البُعد السياسيّ أحياناً أهمّ من الشكل الأدبيّ. ومن النصوص المعنيّة بالتشريح النقديّ نجد: «شيء لا يذهب»، «منتصف أيار»، «في جنازتي»، «كعك على الرصيف» وغيرها من النصوص المُشكّلة لمجموعة «موت سرير رقم 12»، إضافة إلى جملة نصوصٍ من مجموعة «أرض البرتقال الحزين»، ثمّ «القميص المسروق»، ورواية «رجال في الشمس» و«عائد إلى حيفا»، وأخيراً «أمّ سعد». وقد حدّد الباحث إطاراً زمنياً مُسبقاً لموقعة الأفكار وتأسيس تحقيبٍ تاريخيّ لكتابته بين أواخر الخمسينيات ونهاية الستينيات، باعتبارها تُمثّل في الأدبيّات التاريخيّة «عيش الجماعة الفلسطينيّة للمنفى كواقعة تاريخيّة وحالة وجوديّة شاملة». على هذا الأساس نعثر على النصّ الكنفاني وقد تماهى مع تاريخه ووقائعه، فهو ذو علاقة قويّة ومُتناغمة مع هذه المرحلة بالضبط، على خلفية كون النصّ، لم يُنتج أو يُبدع أو تمّ ابتكاره من المُخيّلة فقط، بل انبثق من مرارة اللحظة التاريخيّة وتأجّج عبر سياقاتٍ مُعيّنة، فتكرّس كخطابٍ أدبيّ صاعدٍ وقويّ له قوانينه البلاغية والفكريّة.