ما جاء على غلاف «المقدمة في فلسفة الدين» (طبعة جديدة ـ دار النهار ـــــ 2022) لأديب صعب، وصف أمين جداً للكتاب، إذ يعرض كتابات الفلاسفة عن الدين باعتماد المصادر الأصلية، وينسج فلسفة دين خاصة بالمؤلف. طبيعي أن تلخِّص الكتب البحثية مواقف مؤلفين حول موضوع الكتاب، إلى حد أن حسْن التلخيص هو من الشروط الأولية للتأليف. وهذا شرط لا تجيده كثرة من الكتّاب. ومن المزالق الشائعة عدم العودة إلى الأُصول، بل اعتماد المراجع الثانوية التي يأخذ واحدها عن الآخر على نحو تضعف معه كثيراً مصداقية العمل الأكاديمي. أما الفلسفة التي يشيّد أديب صعب عمارتها في هذا الكتاب المفصلي، فيمكن وصفها، في أحد جوانبها، بأنها «فلسفة بدائل». ذلك أنه بعد رسمه منهجاً لموضوعه في الفصلين الأولين، يرسي فلسفة الدين على تاريخ الأديان وتاريخ الفلسفة، متناولاً بموجب منهجه المسائل الرئيسية في هذا الموضوع الدقيق. وستقوم هذه المراجعة على التذكير بالنظريات السائدة في كل مسألة والنظريات البديلة التي يقدمها المؤلف.


المسألة الأولى، المحورية، في فلسفة الدين هي وجود الله. طبيعي ألّا يأخذ الفلاسفة وجود الله كأمر مفروغ منه؛ وهذا يفسر نشوء البراهين الفلسفية. من كبار الفلاسفة الأقدمين الذين طرحوا مناقشات وبراهين في هذا المجال أرسطو؛ ومن الذين تأثروا به الفارابي وابن سينا وابن رشد في الإسلام ثم توما الأكويني في المسيحية. وفي القرن الثامن عشر، قدّم الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم حججاً ضد هذه البراهين، بلغ فيها التفكير التشكيكي ذروته. وما لبث إيمانويل كانط أن تبع خط هيوم، مقدماً مناقشات إضافية. لكن فيلسوف ألمانيا لم يرفض النتيجة مع رفضه عملية الاستنتاج (والتعبير من أديب صعب)، بل ذهب إلى أن حقيقة وجود الله تفرض نفسها إذا شئنا تبرير المبادئ الأولية التي ترتكز إليها العلوم، وكذلك تبرير الأخلاق. من جهته، أيّد صعب الخط القائل بأن شعور الإنسان بمخلوقيّته ومخلوقيّة كل شيء في العالم، يحمل معه شعوراً بالخالق أو المبدأ المطلق الذي يسير الكون وفقه. وفي بحثه عن المغالطة التي تقوم عليها المناقشات الفلسفية على وجود الله، وجد أنها تكمن في اتّباع «طريق التعليم» التي تحاول قلب «طريق الكشف» رأساً على عقب، والأحرى توحيد الطريقين. وهذا يعني أن مسألة وجود الله مسألة «صوفية» بامتياز، بمعنى أنها تنتمي إلى نطاق التجربة أو الخبرة الدينية.
المسألة الثانية هي التجربة الدينية. إذا كان لله أن يظهر على الإطلاق في حياة الفرد، فهذا يحصل في نطاق التجربة الدينية. هنا ينتقد صعب المفكرين الذين يسمّيهم «ذرّية ديفيد هيوم الفلسفية»، خصوصاً فلاسفة التحليل اللغوي. من هؤلاء أنطوني فلو الذي يصنِّف، خطأً، الكلام على التجربة الدينية ضمن المحاولات الفلسفية للبرهان على وجود الله، فيتكلم على البرهان من التجربة الدينية. ويرى فلو أن البرهان يجب أن يحصل قبل التجربة، لا أن يُبنى عليها. أما صعب فينفي أن يكون هناك «برهان» من التجربة الدينية. ويرفض نظرة فلو، التي يسمّيها «سكونية»، إلى التجربة، قائلاً إن تجربة الإنسان لا تحصل على هذا النحو المفتعَل. لذلك كان من الخطأ السؤال عن العنصر الذي تكون له الأولية: برهان وجود الله أو التجربة. فوجود الله، بالنسبة إلى المؤمن، ليس سبباً ولا نتيجةً للتجربة، بل هو متداخل معها على نحو حركي، غير سكوني. وحضور الله يكتسب أبعاداً جديدة مع التجربة.
ويذهب فلو بالمنطق الشكلي المنفصل عن التجربة إلى حد التطرف، إذ يشترط، لإمكان البرهان على وجود الله، العثور على حالات تبرهن عدم وجوده. وهذا يكشف عن محدودية نظرية المعرفة التجريبية عند هيوم وأتباعه، تلك النظرية التي تبدأ بالمعرفة ومنها تنتقل إلى الوجود، فتنكر وجود ما لا ينسجم مع قواعدها المسبقة. هنا يأتي أديب صعب بنظريته البديلة التي تقول بخطوط متعددة للمعرفة تبعاً لموضوع المعرفة. فالله موضوعاً للمعرفة مختلف عن العالم المادي كموضوع. من هنا تنتفي تهمة «الذاتية» الملصقة بالدين لا من هيوم وذرّيته فقط بل من المفكرين الدينيين والمؤمنين الذين يتبنّون النظرة التجريبية للمعرفة «الموضوعية»، لكن يزعمون أن الدين يتجاوزها نحو النطاق «الذاتي» من المعرفة. في نظرية صعب البديلة، تتعدد «الموضوعيّات» بتعدد الموضوعات؛ وبناءً على هذا، تتعدد «الذاتيّات»، أي موقف الذات من الموضوع. كما يغدو مفهوم العقل نسبياً، تابعاً للمعقول: فالمعقول في الرياضيات، مثلاً، غير المعقول في العلوم الطبيعية وغير المعقول الديني. لعل أحد مصادر الخطأ في النظرة التجريبية إلى الدين فهم الدين بمعناه «الضيّق»، حسب مصطلح المؤلف، انطلاقاً مما يمارسه المؤمنون في أيام العبادة أو من بعض الخبرات التي يدّعي بعض المؤمنين حصولها لهم، كالأصوات والظهورات والرؤى. لكن مع نظرة صعب الإبيستيمولوجيّة (المعرفية) البديلة، تأتي التجربة الدينية بمعناها «الواسع» كما يسميه. هنا يغدو نطاق هذه التجربة حياة المؤمن كلها وقد وُضعت في ضوء الإلهيّ أو المقدَّس.
انطلاقاً من التجربة الدينية بمعنييها الضيّق والواسع، ينتقل المؤلف إلى المسألة الثالثة، هي الخوارق والعجائب والمعجزات. بعد عرضه نظرية ديفيد هيوم المنكرة لهذه الظواهر في ضوء تعريفها على أنها «خَرق للقانون الطبيعي»، يقول إنه ما دامت العجيبة ظاهرة دينية، فليس في الظواهر الدينية تمييز بين «قانون طبيعي» و«قانون إلهي». هنا يطلق عبارته الشهيرة: «المعجز هو القانون الطبيعي قبل أن يكون ما يخرق القانون: إنه فعل الخَلْق قبل أن يكون فعل الخَرق». هكذا يقلب النظرة الشائعة رأساً على عقب. وإذا كان القانون الطبيعي، الذي هو في نظر صعب «العجيبة الكبرى»، يصنَّف في باب «الإعجاز» وينتمي إلى الدين بمعناه الواسع، فخرق القانون، أي «العجيبة الصغرى» حسب مصطلحه، يصنَّف في باب «الخوارق»، وينتمي إلى الدين بمعناه الضيّق. وإذ يحدث خرق للقانون، فهنا يتدخل الله في قانونه بالذات لحكمةٍ منه، وهي حكمة لا يحدّها عقل الإنسان. لذلك لا يجوز أن يجعل بعض الناس من حصول الخوارق شرطاً للإيمان بالله.
انتقالاً إلى المسألة الرابعة، وهي السؤال حول الشرّ، يستعرض صعب الحلول الفلسفية المختلفة لها، مصنفاً إياها تحت: الحل الإلحادي الذي يجد في الشر دليلاً على عدم وجود الله؛ والحل الذي اقترحه الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت مل في القرن التاسع عشر، والقائل بـ «الله الصانع»، أي بأن الشر جاء لا من الله بل من طبيعة المادة التي عمل عليها لصنع العالم؛ والحل الثنائي مع ماني القائل بإلهين: إله الخير وإله الشر؛ والحل الأفلاطوني الآبائي الذي تبناه أُوغسطين والقائل بعدم وجود الشر ككيان إيجابي قائم في ذاته، وأن الشر انتفاء للخير (لا-كيان)؛ والحل الذي طرحه شوبنهاور، والقائل بأن الخير انتفاء للشر، والحل الذي طرحه لايبنتز بأن هذا العالم أفضل العوالم الممكنة، وأن الشر من مميزاته. حيال هذه الحلول المختلفة، لا يبحث صعب عن حل آخر انطلاقاً من السؤال نفسه: المصالحة بين قدرة الله المطلقة وحبه لخليقته من ناحية ووجود الشر من ناحية أُخرى، بل يتجاوز السؤال نفسه ويطرح نظرته البديلة في ضوء العمل الإنساني وسط قطبَي المحدودية والحرية. برأيه أنّ ما فاقم مسألة الشر تصنيف المفكرين كل أنواع المحدوديات في خانة الشر، في حين أن الكثير منها حيادي لجهة الخير والشر.
بعد الشر، يأتي الخير، والخير موضوع الأخلاق. والترابط وثيق جداً بين الدين والأخلاق، إلى حد أنّ كل الأديان جعلت من السلوك أو العمل مختبراً للإيمان. يتناول صعب هذه المسألة الخامسة من زوايا ثلاث: الدين والأخلاق واحد (إيمانويل كانط، لودفيغ فويرباخ)؛ الدين سيّء للأخلاق (فردريك نيتشه، برتراند راسل)؛ لكل من الدين والأخلاق استقلاليته (جورج إدوارد مور). في النطاق الأول، يذهب صعب إلى أن ثمة معادلتين، يسمّيهما: «الدين أخلاق»، وهو موقف كانط الذي سلّم بوجود الله، لكنه لم يرَ في الدين سوى المحتوى الخُلقي؛ و«الأخلاق دين»، وهو موقف فويرباخ الذي أنكر وجود الله وأحلّ الأخلاق مكان الدين. وعندما يأتي إلى معالجة نيتشه وراسل للموضوع، يبيّن المغالطة التي وقعا فيها، إذ اعتبرا أن الدين يقزّم الإنسان في عين نفسه في حين أن الدين، كما يلاحظ صعب، يطلب من الإنسان أعلى ما لديه. من هنا نفهم وصف الأخلاق الدينية بأنها «أخلاق أبطال وقديسين». أما أُطروحة الاستقلالية، فيعدّلها بالتمييز بين «الدين الطبيعي»، أي دين الفطرة والعقل، و«الدين الموحى» الذي يأتي عن طريق الرسل والأنبياء، فيقول إن الأخلاق، مع الدين الطبيعي، تصير طريقاً إلى الله، بناءً على توحيد صوت الضمير بصوت الله.
المسألة السادسة، الأخيرة، من مسائل «المقدمة في فلسفة الدين» تتناول الحياة الثانية وخلود النفس. هنا يبتكر صعب عبارة «الوجه الآخر للحياة» تسميةً للموت وما وراءه، لئلا يتبنى موقف الفلاسفة القائلين بخلود النفس. إذ يشير هذا إلى أن النفس خالدة بطبيعتها، في حين يذهب الموقف الديني إلى أن الله وحده يضمن بقاء النفس بعد الموت. والفصل غني جداً بعرضه ومناقشته نظرات فلسفية كثيرة في البرهان على خلود النفس. وبعد انتقائها وعرضها بدقّة، يقول صعب إنها قد تشير، بقوّة أحياناً، في اتجاه البقاء بعد الموت، لكنها تبقى قاصرة عن تقديم برهان أكيد. ويختم الفصل بقوله: «أن تكون هناك حياة ثانية وعالم آخر حقاً، أمرٌ متوقف كلياً على ذاك الذي جعل هذه الحياة وهذا العالم هنا على الأرض ممكنَين». ويبرز رأي هيوم وأتباعه في هذا الموضوع أيضاً، وهو رأي ينكر بقاء النفس أو الروح بعد الموت بإنكاره حقيقتها ووحدتها. فما نسميه النفس، حسب هيوم، هو أحداث متتابعة، كماء النهر، لا تستقر على حال، إذ ليس هناك «جوهر» – سواء أكان مادياً أم غير مادي – تحصل له الأحداث. بل كل ما هناك هو الأحداث المتعاقبة. ويؤيد فيلسوف أُكسفورد غيلبرت رايل هذا الموقف بإعطائه مثَل جامعة أُكسفورد: إذا زار سائح بلدة أُكسفورد وطلب إلى الدليل أن يريه جامعتها العريقة، فهو سيأخذه في جولة على الكلّيات والأبنية والمتاحف التابعة للجامعة. لكن من الخطأ، يتابع رايل، أن يطلب السائح إلى دليله، بعد مشاهدته هذه كلها، أن يريه الجامعة. فالجامعة ليست سوى مجموع كلياتها ومتاحفها وأبنيتها. في رد صعب على هذا المنطق، يقول إن ما يجعل من الأبنية جامعة هو الهدف أو المعنى الذي تخدمه. فقد تكون هذه الأبنية وحدات في منشأة عسكرية أو صناعية أو سياحية؛ عندئذٍ تستمد هويّتها من أحد هذه الأهداف. فما يشكّل الكل الواحد ليس مجموع الأجزاء، بل الهدف الواحد الذي تخدمه هذه الأجزاء.
نلاحظ أن معظم «بدائل» صعب جاءت في إطار الرد على ديفيد هيوم وأتباعه من التجريبيّين والتحليليّين. وخلاصة ما سعى إليه في «المقدمة» هو بديل معرفي يستوعب التجربة الدينية. من هنا نفهم قوله بأن الدفاع عن وجهة النظر الدينية غير ممكن إلا بعد تصفية حساب فكري مع ديفيد هيوم. وها هو قد فعل. ويلاحظ اللاهوتي الإنجيلي جورج صبرا هذا الإنجاز بإعجاب، إذ يقول: «من أهم ما في «المقدّمة» نقد أديب صعب للفكر التجريبي عند الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم وأتباعه، علماً أن هيوم يُعتبَر شبحاً مهيمناً على الفكر الديني الفلسفي. نقد صعب لتجريبية هيوم عمل جريء، أكان ذلك في مناقشته الخبرة الدينية أم العجيبة أم الوجه الآخر للحياة» («وحدة في التنوع»، ص 242).
ينتقد صعب المفكرين الذين يسمّيهم «ذرّية ديفيد هيوم الفلسفية»


ثمة مسائل إشكالية دقيقة يقترح لها أديب صعب حلولاً بديلة، منها تعليم الدين، فيدعو إلى تعليمه في المدرسة بإثارة قضاياه التاريخية والفلسفية، ومنها الدراسة العلمية التاريخية لأديان العالم وتحليل المفاهيم الكبرى التي يدور عليها الدين مثل مفهوم الإعجاز ومسألة الشر والعلاقة بين الدين والعلم وبين الدين والأخلاق، مع إحالة التعليم الديني العقائدي على مؤسسات خاصة خارج المدرسة تنشئها الطوائف لهذا الغرض.
يقف أديب صعب بين قلة ضئيلة من الفلاسفة العرب الذين تلقّوا علومهم العالية في الغرب، لكنهم خلّفوا نظاماً فكرياً من إبداعهم الشخصي، لا من إبداع المدارس الفكرية والكتب الغربية. زكي نجيب محمود مثلاً، وهو من أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين، كان ذا فضل كبير على الفلسفة العربية لجهة القضايا التي طرحها وعالجها بعمق وبلغة جليّة تختلف عن لغة المعميات في العلوم الإنسانية، وعلى الخصوص الفلسفة. ووسّعت أفكارُه مساحةَ الخط التنويري في عصره. إلا أن محمود عاد من لندن ليؤلف كتباً تبنّى فيها مقولات الفلسفة التحليلية البريطانية التي درس على أعلامها، ومنها كتابه الشهير «خرافة الميتافيزيقا». ومن المثقفين العرب اللبناني عادل ضاهر الذي كتب في فلسفة الاجتماع والسياسة، ونشر عام 2008 كتاباً في فلسفة الدين بعنوان «الفلسفة والمسألة الدينية». إلا أن هذا الكتاب، على جدّيّته، لا يحمل أي نظرة نقدية للمؤلف، بل يتبنى آراء الفلاسفة التحليليين من «ذرّية هيوم الفلسفية».
الكتب العربية في فلسفة الدين قليلة جداً، والكثير منها مترجَم. وعلى أهمية الترجمة، خصوصاً في سبيل ترسيخ موضوع جديد في ثقافة معينة، إلا أن التأليف الأصيل هو الذي يصنع المشهد الثقافي. وإذا كانت الكتب المترجمة إلى العربية في فلسفة الدين ضئيلة، فالكتب المؤلَّفة نادرة. ويكفي أديب صعب أنه صاحب كتب خمسة متكاملة في هذا الموضوع المهم، يتوّجها كتابه «المقدمة في فلسفة الدين». كتب تجعل من صاحبها فيلسوفاً عربياً معاصراً، صاحب منهج وبناء فلسفي خاصَّين به.