يقدم الكاتب والناقد نصار إبراهيم نصه الروائي الأول بعنوان «حنظلة الراكض على حافة البحر» («دار خطوط وظلال» الأردنية) ليتوزّع على سبعة أجزاء، لكل جزء عنوان محدد، وتأتي الخاتمة بخمس عشرة وصية أسماها الكاتب «سوناتا». يحيل النص في وهلته الأولى، إلى كونه سيرة ذاتية. لكن بعد استهلال سريع، يقف القارئ أمام عمل روائي «محكم ومفكك» بأسلوب ذكي؛ يشتغل ويعيد ترتيب أولويات «السردية» الفلسطينية منذ إرهاصات تشكلها الأولى؛ وعلى لسان حماتها التاريخيين؛ بدءاً بالأمير طرباي الحارثي وصولاً إلى ظاهر العمر وانتهاءً بغسان كنفاني.يحفر الكاتب في التاريخ الفلسطيني، بحثاً عن خطاب محدد، ليجعله ثيمة النص الأساسية، ونعني السردية الفلسطينية. يقدم الكاتب عملاً روائياً أركيولوجياً- بالمعنى الفوكوي– فيحفر في التاريخ للعثور على عبارات/ منطوقات ذلك الخطاب النادر عبر التاريخ، فهذا شأن الخطابات. يقوم الكاتب بعملية الإفصاح عن هذا الخطاب، على لسان من يحوزون شرعية قوله وبثه، ولذلك كان حنظلة والشيخ الكنعاني؛ وفي الخلفية شهداء سجن عكا والقسام وغسان كنفاني، كما استحضرت الأسطورة والأديان لحياكة النص بأسلوب بديع.
يدور فضاء النص مكانياً في وحول «جغرافيا مركزية» هي فلسطين التي تمثلها عكا، فيما يمتد عمر النص عبر آلاف السنوات منذ الإله بعل وصولاً إلى حنظلة في يومنا هذا.


تتصف الذات المتكلمة بكونها «مزدوجة» تتكون من فلسطين الموئل وتلك المفقودة. وهي حنظلة الطفل ذي العشرة أعوام والشيخ الكنعاني؛ التي هي– ربما- ذات الكاتب؛ طفلاً ومراهقاً ورجلاً عركته السنون، مقدماً حواريات «وعيه الذاتية المحتكمة للموضوعي» ـــ إن جاز التعبير ـــ أو رواية الوطن بأسره، كأداة بناء وعناصر بنية للنص. تميز النص بإيقاعه «الراكض» الذي لا يثير الملل أو التشتت. رافقت الموسيقى النص دوماً؛ حتى إنّ الكاتب قد وظف «مقام الصبا» في عنوان حكايته الأخيرة، ليبوح مقام الصبا –الفريد- بمقدار تفرد النص، أو بتفرد حنظلة والشيخ - وقد يكونان ذات الكاتب أو الوطن - إلى جانب تميز مقام الصبا بحزنه منقطع النظير، ليكون الحزن لحناً وثيمة تخيم على النص.
تحشد لوحة الغلاف رموز النص، فنرى سور عكا والبحر والفدائي وحنظلة؛ إلى جانب ثلاثة أهرام ونقش غامض كأنه شيفرة النص بأسره. تغطي ثلث اللوحة المتبقي «غيمة» بقع داكنة اللون؛ تظهر وفقاً لزاوية النظر أو اليقين، فإما أن تُرى كأنها تداهم المشهد لطمسه، أو أن المشهد يدحرها كما تدحر الريح سحابة صيف.
بخلاف «حنظلة» الواقف في زاوية رسومات ناجي العلي، يركض حنظلة في النص على حافة البحر! فلم يركض؟ومن تراه يُسابق؟! وحافَةُ الشَّيءِ.. طرَفُه وجانبُه، فيقال: على حافَة الهاوية. وحافة البحر هنا.. أرض فلسطين! والأرض لغةً تعني: البر والبحر، وتقابلها السماء. وهكذا يجمع الكاتب البر والبحر لتكتمل فلسطين.
يورد الكاتب كلمة البئر في العديد من سياقات النص، لأن البئر منبع الحياة للفردوس الذي يدور حوله النص. وكذا يكون البئر، مكمن الأسرار والذاكرة والوعي فيكون الواهب للحياة بمائه السلسبيل، وبوعيه الكامن. هكذا يريد الكاتب أن ينشل من وعي البئر المخبوء لنرتوي منه، فكل آبار النص تمتلئ بالماء الزلال.
جعل الكاتب من البحر رمزاً أساسياً وثيمة نسبية، فالنص وحنظلة يركضان على حافته، وغسان كنفاني بحار كنعاني يبحر فيه؛ وهو باب لتسلل القراصنة. والبحر يعرف بإغرائه ومجهوليّته، يجلب الخيرات والحياة، وكذلك الخراب والموت. أما عكا التي يدور حولها جُل النص؛ فتربض على حده متحدية صامدة؛ وقيل قديماً: «لو عكا بتخاف من البحر، ما سكنت على الشط». وكذلك، يراود حنظلة يافا عروس البحر وتقف المرأة وجيفارا على شواطئه في غزة. هكذا؛ تمتد الجنة الضائعة بين البر والبحر.
يكرر الكاتب ذِكر أشجار ونباتات فلسطين للتأكيد على خيرات الجنة المفقودة، وعلى قدسية الشجرة -والزيتونة خصوصاً- فهي تحيل في النص إلى قرية الشجرة وهي بلد حنظلة، أصل الوجود والارتباط بالأرض، تشترك في رمزيتها تلك مع رمزية المرأة، هي الجنة.
تدور حكايات النص حول سير الرجال، لترد المرأة غير معرفة، الصبية والمرأة على شواطئ البحر. تغيب المرأة ظاهرياً -على مستوى المنطوق- باستثناء ورودها في سياقات حول الرجال (آني ولميس في حكاية استشهاد غسان). يمكن القول بأنّ فلسطين والشجرة والربة عناة ومريم العذراء، كلها دلالات على قوة حضور المرأة التي تحتضن النص برجاله جميعاً.
لا يكل الكاتب من استحضار العمل الفلاحي ورموزه (المحراث والمخلاة والحراثة والقمح والحصاد) لينتهي إلى أن فلسطين؛ فضاء ريفي بامتياز، فكيف تكون جنةً إن لم تكن فضاءً ريفياً.
يكرر مدن فلسطين التي غيبتها النكبة، ويورد اسمها مرتبطاً بالأشجار، وهي عنوان المواجهة وموضوع الاستعادة. خلال تكرار أسماء مدن فلسطينية بعينها مثل عكا وحيفا ويافا وغزة، لوحظ أنّ مدينة القدس قد ذُكرت 13 مرة في النص، فيما تم ذكر مدينة عكا مثلاً 63 مرة، كأن الكاتب يريد التأكيد أن منبع التقديس يأتي من الدور، من حيث التحدي والمقاومة، أو أن القدس مسلمة لا حاجة لكثرة التأكيد عليها.
يمتد عمر النص عبر آلاف السنوات منذ الإله بعل وصولاً إلى حنظلة


تغيب البادية من جغرافيا النص (تحتل الصحراء المساحة الأكبر من فلسطين) فيما ذكرت الصحراء خلال سياقات تغلب عليها «السلبية» مثل: الخزان وأبو الخيزران أو بكونها أرضاً خراباً، رغم أن الصحراء «مضارب ثابتة» يتحرك أبناؤها في حدودها، وقد قدمت حكايات بطولات في ذات فترة وقائع حكايات النص مثل: هبوب الريح الترابين في بئر السبع وسرحان حسين العلي من «عرب الصقر» في بيسان.
أريد للمخيم أن يكون منفياً وفضاء نفي وجودي، وأداة تحكّم وضبط ومراقبة للتخلص من الفلسطيني اللاجئ وهو في حالة «الإنسان العاري» على حد تعبير جورجيو أغامبين، فإذا بالمخيم يتحول من مقبرة ورماد شعب فلسطين، إلى العنقاء ومنبع الوعي المقاوم ومكتبة وأرشيف الرواية الفلسطينية. قام الكاتب بنفي «الآخر الغاصب»، فلا اسم له؛ ومن لا اسم له؛ لا وجود له، لعنة وفق ميثولوجيا القدماء. كما استخدم كلمة «قراصنة» -بصيغة النكرة- لوصف القادمين من البحر. وكذا كان وصفهم «بالضباع». وظف الكاتب التاريخ والأسطورة والدين والموسيقى، إلى جانب ثيمات ورموز كالخيمة والسيف والبارودة والبرتقال والزيتون، بصورة جمالية غير تقليدية تجمع الخيالي بالحقيقي الموثق. مقدماً 15 سوناتاً، يستهل كلّاً منها بكلمة «الوطن» كأنه يختتم «بياناً سياسياً» ليعيد ترسيم مفهوم الوطن؛ الذي أصبح ضبابياً أخيراً.
يقر البعض استخدام الهوامش في النصوص الأدبية، لكن كان من الأفضل؛ ألا يُضمن الكاتب أي هوامش في النص، فأقل ما يتوجب على أي قارئ لنص كهذا، هو البحث عن الإجابات بنفسه. قد يؤخذ إيغال النص في الأيديولوجيا المباشرة؛ لكننا أمام فحوى نصي تطلب هذا النمط من المُباشرة؛ كي لا يتورط في أي شكل من أشكال المواربة أبداً.