عندما وُصف بـ «موليير لبنان»، ردّد عمر الزعني (1895 ــــ 1961): «ولماذا لا يكون موليير هو زعني فرنسا؟». هكذا كان «ابن البلد» ــ لقبه الأحبّ ـــ يضع «لبنان أولاً»، فعلاً لا قولاً، وتطبيقاً لا ترديداً على الألسن فقط كما يفعل سياديّو هذه الأيام. أحد أعظم الهجائين بين شعرائنا، هجاء الحق لا هجاء الابتزاز، «شاعر الشعب» و«فيلسوف النكتة» و«موليير الشرق» و«فولتير العرب»... ألقاب كثيرة طبعت مسيرته، إلا أنه بعيداً عنها، يبقى الزعني بحق رائد فن «المونولوج الشعبي في لبنان» وصوت المهمّشين، أنشد للعتّالين والكناسين والسائقين، حاملاً حكايات الناس على بحور شعره، فكان الغوّاص الأقدر على التقاط آلام الموجوعين وتغليفها بطابع السخرية حيناً، والتورية أحياناً.
بورتريه لعمر الزعني (عن صفحة «تراث بيروت» على فايسبوك)

مَن استطاع التقاط نبض الناس ووجعهم كما فعل، شمّر عن ساعديه كاشفاً عورات انقسام المجتمع بين غنى فاحش وفقر مدقع، انتقد انتفاخ الأغنياء وازدياد الفقراء فقراً، أشار إلى مكامن الخلل وتفشّي المحسوبيات وتغلغل الجشع والطمع. قلما نجد فناناً لبنانياً استطاع إيجاز تاريخ بلد وتطوّر مراحله السياسية المتعاقبة بأغانيه، فاستحال وثيقةً بصريةً سمعية ترصد التأريخ الاجتماعي والسياسي لفترات تأسيس الجمهورية اللبنانية. متمرد ثائر، ومناضل سياسي، كتب تاريخ بيروت بأغانيه، بيروت الأسواق والخيل والليل، بيروت بدايات القرن الماضي التي وقف التاريخ عندها رابضاً في مكانه، فلم تتحرك قيد أنملة. كما كانت، بقيت، ومواطن الخلل التي فكّكها الزعني شعراً، تناسلت أوجاعاً لغاية اليوم. لا مفرّ من استعادة الزعني هذه الأيام لكشف صعوبة المأساة التي نحياها.
كان والده مختاراً لمحلة الظريف، متبحّراً في الدين، ومتصوّفاً بارزاً يتبع الطريقة الشاذلية، يملك متجراً للحبوب في محلة مينا القمح في مرفأ بيروت. ولد عمر في محلة زقاق البلاط، وفي سن الثامنة، أدخله والده الكلية العثمانية لصاحبها الشيخ أحمد عباس الأزهري. هكذا، انضم إلى زملائه الأديب عمر الفاخوري، الشاعر عمر حمد، الأخوان محمد ومحمود المحمصاني، محمد عز الدين، عبد الله المشنوق، رياض الصلح، عبد الغني العريسي، والدكتور مليح سنو. ثم التحق عمر بفرقة المدرسة الموسيقية، وظل فيها حتى تخرّجه عام 1914. عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، سافر إلى حمص ملتحقاً بالمدرسة الحربية التي تخرّج فيها برتبة ضابط إداري. عيّن مديراً للإعاشة الخاصة بالجيش في الشام، وظلّ في عمله طيلة الحرب العالمية، متنقلاً بين الشام والقدس وبئر السبع في فلسطين. لم يعد إلى بيروت إلّا مع نهاية العهد العثماني عام 1918. بعد عودته، عمل مديراً على رأس الكلية الإسلامية عام 1919، ومدرّساً للموسيقى في «المدرسة الأهلية» لصاحبتها ماري كسّاب، وكاتباً في محكمة البداية في قصر العدل. لكن رحلته الحقيقية مع الشعر، بدأت مع قصيدة «الحجاب» التي انتقد فيها ما دارَ من معارك لفظية في مصر بين أنصار الحجاب وأنصار السفور:
«الدنيا قايمة والشعب غافل
راحت بلادكم ما حدّ سائل
شوفوا البلايا، شوفوا الرزايا
والشعب قايم على الملاية»
في بدايته، استخدم الاسم المستعار «حنين»، خصوصاً مع زمالته الأولى لمناضلي الاستقلال، ثم أتت مرحلة الانتداب الفرنسي لتبدأ مسيرة الزعني الفعلية بنقله هموم الإنسان في أسلوبه الشعبي المتفرّد والمتمرّد على الواقع، فأنشد في إحدى المناسبات في «سينما كريستال» مفاجئاً الجميع:
«حاسب يا فرنك، يا فرنك حاسب،
فهّمنا فين بعدك ساحب،
ما خلّيت لا مُحبّ ولا صاحب،
أهلك جفوك والأجانب:
فرحانين، شمتانين،
ناويين محوك، ما بناسب،
يا فرنك، دخلك حاسب»
سريعاً، أصبحت «يا فرنك» التي انتقد فيها محاولة فرنسا إنقاذ عملتها المتدهورة على كل شفة ولسان، وبدأت التساؤلات عن صاحب هذه الروح المتوثّبة لقول الحق وسط علّية القوم بحضور رئيس الجمهورية شارل دباس، ورئيس مجلس الأعيان الشيخ محمد الجسر وغيرهما، ولتبدأ خطواته الفعلية في عالم الشعر والفن رغم معارضة والده على تركه عمله في القضاء قائلاً له: «يا ضيعانك ويا خسارة عِلمك يا عمر، صرت مهرّج».
ثارت ثائرته على شارل دباس بعدما أمرَ باعتقاله، ليصبح أكثر عنفاً وقسوةً نقديةً، ولكن مع القليل من التمويه، فأنشد منتقداً «الريس شارل دباس» في الأغنية التي أطلقته نجماً في سماء الفن:
«بدنا بحرية يا ريس
صافيين النية يا ريس
بزنود قوية يا ريس
أبداً ما تحلّس يا ريس
البحر كبير يا ريس
بحرية حمير يا ريس
فرحان كتير يا ريس
لأنك ريس يا ريس
بس قاعد صورة يا ريس
وبالاسم ريس يا ريس
الموج جبال يا ريس
قطّـاع حبال يا ريس
ما كان عالبال ريس
تتنصب ريس يا ريس»
باعت الأغنية اكثر من 25 ألف أسطوانة متربّعة في الصدارة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، لتصبح إحدى أشهر أغاني الزعني في مسيرته وأيقونةً انتقاديةً ردّد كلماتها الشعب اللبناني كلما تأزمت أوضاع الحكم في لبنان وما أكثرها.
أُعجب الموسيقار محمد عبد الوهاب بالأغنية، وبقيت في باله ألى أن زار لبنان طالباً سؤال عمر الزعني إن كانت الأغنية من ألحانه أو مقتبسةً، في دليل على إعجابه الكبير بها، لتدور عجلة السنوات ويعود نغم أغنية الزعني مباشرة إلى ذاكرة عبد الوهاب عندما طلب منه روبير خياط تلحين أغنية لوديع الصافي.
أول فنان يدخل السجن بسبب أغنيته «جددلو» التي قدّمها في زمن زعيمَي عهد الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح

سأل عبد الوهاب عن الشاعر الأكثر تميزاً شعبياً في الأغنية اللبنانية، فاختار من بين الأسماء ميشال طعمة، ليكتب له أغنية على أن يأخذ مطلعها من «بدنا بحرية يا ريس» لعمر الزعني ويتجنّب أي غمز أو لمز سياسيين، ويكتفي بالجانب العاطفي والوجداني. وهكذا كان: ولدت أول أغنية بين «موسيقار الأجيال» والصوت الصافي من بذرة أغنية عمر الزعني. يسجل التاريخ الفني اللبناني لعمر الزعني بأنه أول فنان في هذا الوطن، يدخل السجن من أجل أغنية عندما غنى «جددلو» في زمن صديقيه زعيمي عهد الاستقلال الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح. أغنية حملت القدر الأكبر من السخرية والاستهزاء برئيس الجمهورية الطامح لتجديد ولايته وسط معارضة شعبية واسعة، خصوصاً بعد تدخّله في الانتخابات النيابية لضمان كتلة نيابية واسعة تؤيد تعديل الدستور لإتمام مهمة التجديد. ففي حقل نقابة الصحافة اللبنانية عام 1949 في فندق «النورماندي» في بيروت، افتتح الزعني وصلته بكلمة «موزيكا» التي اشتهر بها وأصبحت لازمته في حفلاته، ثم بدأ ينشد:
«جدّدلو ولا تفزع... خليه قاعد ومربع
بيضلّ أسلم من غيرو... وأضمن للعهد وانفع

تاري حساب السرايا... غير حساب القرايا
في الزوايا خبايا ... وفي الخبايا بلايا
بين سوء النية... والمطران فقس المدفع

وجه عرفناه وجربناه... وعرفنا غايتو ومبداه
ووافق هوانا هواه... قدام خصمو يا محلاه
ما دام ظهرت نواياه... ما عاد في مانع يمنع

لا تخاف إلا من الطفران... الطفران غلب السلطان
أما المليان والشبعان... من لقمة زغيري بيشبع
هوي بأمنيتو ظفر... ومدامتو شبعت سفر»

أصبحت الأغنية على كل شفة ولسان من الصالونات الراقية وصولاً إلى أسواق الخضار، فتلقفتها المعارضة وعمدت إلى توزيعها كالمناشير في اليد في أسواق الطويلة وسرسق والبازركان وغيرها، لتعذّر نشرها في الصحف تجنباً للعقوبات. شكّلت الأغنية حالة شعبية غير مسبوقة أجّجت غضب السلطة اللبنانية على الزعني، فألقت القبض عليه، وتحوّلت محاكمته إلى مهرجان شعبي اختلط فيه المعارضون بالموالين مع تجلي موهبة الزعني وسرعة بديهيته وإجابته على أسئلة القاضي شعراً. ومما قاله عن زوجة الرئيس: «ست لور نزلت ع البور ومعها أور «ذهب» وركبت البابور لا مين يحاسب ولا مين يراقب... ليش؟ علشان الأور وكرمال ست لور»، ليصدر بعدها القاضي الحكم بسجنه ستة أشهر قضى منها 43 يوماً في سجن الرمل في بيروت بعد إصدار بشارة الخوري مرسوماً جمهورياً بالعفو عنه.
لا تزال كلمات الزعني تحفر عميقاً في الذاكرة السياسية اللبنانية، بل لا تزال ابنة اليوم والساعة، فالوعود الانتخابية التي تصبح هباء منثوراً بعد إسقاط ورقة المقترع في الصندوق، ردّد لها الزعني: «أول بند من الأربعين... بخلي السما تشتي طحين... والأرض تنبع بنزين... بس انتخبوني نايب... وبزرع قطن وبزرع صوف... بأرض المتن وأرض الشوف... ما بتصدق بكره شوف... وتفرج عالعجايب». وعن شراء الأصوات، قال: «بيبيع صوته بعشرين ليرة... ويقول يا أهل الغيرة... سرقوا الكون نهبوا الميرة... أكلوا البيضة والتقشيرة... والشعب المسكين عالحصيرة.. ولعل الأبرز في هذا المضمار، وصفه الأشهر للمعضلة السياسية اللبنانية وتعقيداتها: «كيكي كيكي ما بيفهم فيكي لا خبير بلجيكي ولا طبيب مكسيكي».
لم يوفر الزعني مسؤولاً إلا وانتقده. كانت سلوكيّات الجميع وأفعالهم تحت مجهر ومشرط قلم الزعني حتى باتوا يخشون أن يطالهم «طول لسانه». مع ازدياد الضغوط السياسية عليه، انتقل إلى القاهرة حيث فوجئ بالسيطرة الواسعة لسلطات الاحتلال، فأنشد قصيدة لبّدت غيوم علاقته مع المحروسة:
«يا سي عبدو
إزاي تخلي الرومي سيدك
وانت عبده؟»
عقب ذلك بدأت مرحلة جديدة من حياة عمر الزعني الشعرية بانتقاله من نقد الشخصيات السياسية إلى النصح والتقويم والإرشاد في شعره على مواطن الخلل في بنية النظام الإدارية، وتركيزه على هموم البسطاء والفقراء والمعوزين، فكان صوتاً للمهمشين والكادحين والمعوزين، فنظم في هذه الفترة عدداً من أبرز قصائده منها «لا تقول إنك شريف»:
«لا تقول إنك شريف،
قول إني خايف من الجرصة،
وإن كنك لسه نضيف،
أكيد ما صار لك فرصة،
حتى تغش وتقلل دين،
حرمانك مش عن عفة،
ولا عن ذمة ولا عن وجدان».
بعد انتهاء ولاية بشارة الخوري وبعد تنقلاته المستمرة بين «الرملين» منزله في رمل الظريف وسجن الرمل، أصاب التعب عمر الزعني فزهد في سياسياته التي اختتمها بقصيدة نارية
«على أيام الانتداب
عهد الظلم والإرهاب
ما كنت خاف ولا هاب
لا حكومة ولا نواب
اليوم بحسب ألف حساب
صرت أحسب للأدناب»
وتعتبر الفترة الأخيرة في حياته بين عامَي 1951 و1961 حين وفاته وبحسب دراسة ليوسف قاسم، أشدّ الفترات ركوداً وأقلّها إنتاجاً في مسيرة الزعني النقدية السياسية بعد اعتلال صحته وميله إلى الهدوء بعد صخب الحياة التي عاشها، فانكفأ في صومعته يكتب بعضاً من خواطره الاجتماعية ومنها ما لخّص فيها حال أيامه الأخيرة بقوله:
«بسكت بيقولوا قابض
بحكي بيقولوا معارض
لا مريض ولا متمارض
قاعد ببيتي رابض»

* ضمن فعاليات «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 64»، تقيم «دار نسلن» بالتعاون مع «نادي لكل الناس»، ندوةً حول كتاب «عمر الزعني ـــ القصائد الممنوعة» يشارك فيها: محمد كريم، زياد دندن، أحمد قعبور وسليمان بختي. يتخلل الندوة عرض وثائقي «تحية إلى عمر الزعني» (إخراج رنا المعلّم ـــ تقديم نجا الأشقر) مساء اليوم (س:17:00) في قاعة المحاضرات في المعرض المقام في «سي سايد أرينا»