رغم انغماسه في الكتابة الشعريّة والمقالة الصحافيّة، ظلّ الشاعر والكاتب السوريّ علي سفر من المُهتمّين بشؤون السينما العربيّة ومُتخيّلها. ذلك أنّ كتابه الجديد «حبر الشاشات المطفأة: تحرّي أحوال السينما السورية ونقدها» (دار موزاييك، 2022) يُعيد للكتابة النقديّة ابتهاجها من خلاله نسج علاقة خفيّة مع الصورة السينمائية ووسيطها النقدي. ولم يكُن ذلك كنوعٍ من التباهي الذي يجعل الكاتب يخبط في ضروب مُختلفة من الإبداع الفنّي، بل يُضمر في طيّاته عشقاً يُمارسه صاحب «سينما على قارعة الرصيف» (2021) تجاه الفرجة السينمائية. فهذا العشق هو ما دفع علي سفر للعودة إلى السينما وشحذ ترسانته المفاهيمية وبسط الريبرتوار السينمائي الذي تشبّع به خلال مرحلة عمله داخل الصحافة السوريّة. أمر يُفسّر مدى ارتكاز الكاتب على نقدٍ عاشق يخلو من الكتابة التقريرية الجافّة التي تقف سادرة عند عتبات الصورة السينمائية، عاملة على إسقاط الكثير من نظريات فلسفة الفنّ.

كتاب سفر ينطلق من عدّة سينيفيلية شخصية، جعلته طوال سنوات، يتمتّع بخبرةٍ في اختيار أفلام المُشاهدة وطرق وميكانيزمات الكتابة عنها، منذ انتسابه الباكر إلى «المعهد العالي للفنون المسرحية» في دمّر، غرب مدينة دمشق، بعدما اكتسب صاحب «طفل المدينة» (2012) على مدار أربع سنوات، خبرةً في الكتابة النقديّة، ستجعله منذ ثمانينيات القرن العشرين، مُكرّساً في عددٍ من الجرائد والمجلاّت العربيّة الخاصّة بالشأن الفنّي. ورغم الانشغال الصحافي اليوميّ الذي قاد علي سفر إلى المقالة السياسيّة، فإنّ السينما بدت في كتابه كأنّها جُرحٌ غير مؤجّل. بين فينةٍ وأخرى، يُطالعنا بمقالة في النقد السينمائي من خلال مراجعاتٍ عامّة تقرأ الفيلم على ضوء أبعادٍ سياسيّة واجتماعية، وهو النّمط النقدي نفسه، الذي يطبع كتابه الجديد حول السينما السوريّة ومُتخيّلها ونقدها.
يستهلّ صاحب «يوميات ميكانيكية» (2013) كتابه بالحديث عن فاعلية النقد السينمائي في سوريا، وإلى أيّ حد استطاعت الكتابات الأولى خلق مشروعٍ نقديّ، رغم افتقاره إلى منهجٍ مُحدّد قادرٍ على تخليص هذه الكتابة من غوغائيتها والزجّ بها في تخوم الفكر، وإنْ كان الرهان على هذه الطريقة غير مُتحقّقة بعد، لكون النقد السينمائي في العالم العربي يغلب عليه الانطباع والانفعال، بما يجعله مجرّد كتابةٍ عادية. فهو لا يستلهم ملامحه التفكيكية من العلوم الإنسانية والاجتماعية، بما يجعله خطاباً مؤسّساً على فكرٍ يُعوّل عليه، بقدر ما تظلّ الكتابة واقفة أمام سُلطة الحكاية وتقديم معلوماتٍ عامّة عن الممثلين. غير أنّ مُجمل المُلاحظات الدقيقة التي وصل إليها علي سفر، لم ترتبط بالسينما السوريّة وأحوالها فقط، لكنها مُعطى عامّ مُرتبطٌ بنقدٍ سينمائيّ عربيّ، لم يعثر على هويته الجماليّة بعد. رغم التراكم الكمّي الذي حققه، يبدو هذا النقد اليوم غير قادرٍ على تجاوز محنته المعرفية والخروج من المراجعات العامّة، صوب كتابة تحفر مجراها عميقاً، بما يجعلها فكراً يُجدّد نفسه من خلال الفيلم وصُوَره المُتخيّلة، بدل اعتباره من لدن الفنّانين والمُخرجين وكُتّاب السيناريو مجرّد وسيطٍ بين السينما وجمهورها. يقول «فمراجعة واقع النشاط النقدي السينمائي منذ أن ظهرت أولى الكتابات السورية عن السينما، تكشف أنّ قضية تخصصية تهم مجموعة من المهتمين ضمن فضاء مهني وفني محددين، ستتسع في الحالة المحلية لتصبح جزءاً من قضية أكبر، ترتبط بالوضع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في البلاد».
مراجعاتٍ عامّة تقرأ الفيلم على ضوء أبعادٍ سياسيّة واجتماعية


وإنْ كان يعتبر الكاتب أنّ المنهج يُعدّ مدخلاً حقيقياً لتطوير النقد السينمائي، فإنّنا نرى العكس حين يتعلّق الأمر بالسينما. فالنصّ الأدبي يختلف عن العمل السينمائي الذي يفرض مُعاينة دائمة وطريقة مُختلفة من التحليل بين فيلمٍ وآخر. لهذا فإنّ اتباع المنهج، قد لا يجدي نفعاً إزاء بعض الأفلام العالمية المُركّبة، التي تفرض تعدّداً في الرؤى والمنطلقات. ذلك أنّ الاعتماد على بعض المعارف مثل الفلسفة والأنثروبولوجيا، يمنح للناقد حظوة رمزيّة تجعله يُعمّق تحليله ويقود فعل الكتابة إلى مُنحدراتٍ عصيّة على القبض. هنا تغدو الكتابة أشبه بالماء، وهو يحفر مجراه في الصورة وتتغذّى الكتابة بما ينطبع في ذاكرتها من سياقاتٍ ومعارف وأفكار ومفاهيم. من ثمّ، وبطريقة مواربة يطرق صاحب «الفهرس السوري» (2018) العديد من الموضوعات المُتّصلة بالشأن السينمائي كالصورة والنقد والإنتاج والأيديولوجيا والبرامج التلفزيونية وسواها من الموضوعات التي تتفرّع عن الإشكالية الرئيسية للكتاب: السينما في مواجهة النقد. وعبر هذه الثنائية، بذل علي سفر مجهوداً طيباً في البحث عن المعلومة والحفر في تاريخ الإنتاج السينمائي السوري، لا للقبض على ملامحه الفنّية وأبعاده الجماليّة، إنّما لتفكيكه وهدمه من الداخل، ثمّ إعادة بنائه من جديد وفق مُعطيات العمل الصحافي وأسئلته القلقة.
في كتابه الجديد، يبدو علي سفر كأنّه يُريد استعادة ماضٍ دمّره مفهوم الزمن نفسه. يروم إلى الصورة للبحث عن طفولة السينما السوريّة المنسيّة بين ركام الكلمات. فهذه الكتابة النوستالجية العاشقة يُمكن اعتبارها وثيقة هامّة للباحث في تاريخ النقد السوري وسينماه، لكنّها ليست كتابة تاريخيّة محض، فعلي غير مُنشغلٍ بهذا النّمط من الكتابة. هو على وعي تامّ بأنّ كتابه عبارة عن «كتاب شخصي» كما يقول، فرضته ملاحظات ذاتية تراكمت طيلة سنوات داخل العمل الصحافي، المكتوب منه والمرئي.