بقدر ما تبدو قراءة «الوجه الآخر للظل» شيّقة سردياً بقدر ما هي رواية صعبة ومتطلبة، تحتاج إلى يقظة وربط وتركيب جراء ما تحمله من وفرة في الإشارات وثراء في الإحالات، في توظيف لا يصيب مرماه دون دور محسوب للقارئ. فالرواية هذه، بالدرجة الأولى، رواية أسلوب أخذ من التلميح والإيحاء غايته ووسيلته في الوقت عينه، فلا بد من تقفّي الأثر كي تتحوّل الإيماءة المرمية إلى بلاغ. فمثلما أن الغمز مثلاً ليس بالضرورة دلالة على الانسجام، فإن وجه الرواية هذه، بالأساس، مرهون لظلّه. هي بالدرجة الثانية، فضاء مفتوح، ينتظر من القارئ لحظة دخوله كي ينغمس فيها، كي يصبح شخصية من شخصياتها، أو امتداداً لها، لئلا تكتمل. كأن غاية المؤلف من هذه الرواية الغرائبية هو التعامل معها بوصفها استعارة، والتوغل فيها كما تفترضه طبيعتها، أي بغرائبية، لأجل الإفصاح عن رؤية ميتافيزيقية تخصّه. رشيد الضعيف في حكايته هذه، يهمس همساً خافتاً بأسرار في أذن القارئ ويتوقع منه الإصغاء، ويطالبه بالنسج بالإبرة والخيط ما ورد من تلك الهمسات بغية تخييط النسيج، لأن انكشاف الأسرار يعني فهم الحكاية التي بدورها تشترط التشبيك، أي القراءة كمهمة تشبه فعل الحياكة. يروي للقارئ قصة تلهب خياله، ليس من شأنها المؤانسة والإمتاع، ولا الضحك على عيب أو هفوة، وهي طبعاً، لا تساعده على النوم، إنما تؤرقه وتتحداه لتدمغ بعبرتها، وهي عبرة مؤلفها، فيهِ. فهو، إذاً، يتحايل على القارئ ويتقرب منه في آن. يتعبهُ. يورّطه في عالمه. يُقدم له حكاية من باب الخيال ليقول له حكايته الخاصة تجاه الحقيقة والعالم. القصة برمّتها أشبه بغشاوة تخفي مفاهيم، ومواقف مُضمَرة كامنة ضمنياً، في كتابة لا تعلن عن نفسها جهاراً كما اعتادت أن تفعل. على أن «الوجه الآخر للظل» هي أيضاً، الوجه الأدبي الآخر لمؤلفها. وجه بانت بعض ملامحه في عمله «الأميرة والخاتم»، لكننا اعتقدنا أنها مجرد ظلال عابرة، متغيّرة وقد سقطت سهواً، وأنها ليست انعكاساً للوجهة الثانية للوجه. يبدو أن الضعيف في آخر عملين له، مطارد بإرث ثقافي ترعرع في كنفه وخرج عليه، استقى منه لغته فيما ركن أسلوبياً وتركيبياً على نقيضه، وهو يلعب، أو يلاعب هذا الإرث، اللعبة نفسها التي يلعبها مع القارئ: حركة مفعمة بالمد والجزر، حرقصة حذقة، ممرّراً يده (على التراث) بملاعبة ناعمة تخلق، بلمستها، أثراً. على هذا النحو، يستغل النزعة الأسطورية في الأدب لتمرير وجهة نظره المتفردة، ويوظف الموضوع العام لتبيان موضوعه الخاص. بهذه الحيلة يخلخل، يصبح موضوع الرواية موضوع إسناد، أي يتحول الى جدار دعم للبناء السردي، بينما المعنى المرجو يمكث بشكلٍ مستتر، قابعاً في الطابق السفلي من الرواية.
تحضر الأسطورة في «الوجه الآخر للظل» ويغيب معها الجنس. لكن غياب الجنس هو غياب عرَضي، لأن الملكة التي حملت من أثر غيمة بواسطة فراشة غطت على بطنها، هو أمر مستحيل، غير مقنع حتى في فضاء الميثولوجيا. أمر جعل الملك يغتاظ لأنه عجز عن التصديق، هكذا أضحى الجنس الحبكة الأبرز من حبكات الرواية، وبالتالي، يكون حاضراً، ولكن بالظل. هذا الالتباس القائم مع ثيمة الجنس، كفيل بإيضاح خيار الضعيف المستحدث الذي حلّ معه في الشكل والموضوع، والأهم أن هذا الالتباس، يمثل اختزالاً مفرطاً لفهم لغة الضعيف هنا، حيث انعكاس الشيء لا يعني نفي الأصل، أو أن ما يظهره الانعكاس هو نسخة وهمية عن صورة الشيء، بل إنّ غياب الشيء هو الذي يستدعي حضوره.
في «الوجه الآخر للظل»، يغيب الشخصي فيحضر الذاتي. تغيب الـ«أنا» عند الضعيف، ويحلّ مكانها الراوي العليم. والأخير وهو الراوي الغائب، مسرف بالوصف والحكّاء من الخارج كأنه على مسافة، يخبُر الحكاية من الألف الى الياء بحركة دائرية تنتهي من حيث تبدأ. نقرأ في البداية أن الأرض تشقّقت فجأة وتدفّق ماء المحيط وفصل بين قارتين (قارة أفريقيا عن شبه الجزيرة العربية وقارة آسيا) فكان البحر الأحمر. وفي هذه الأقاليم جرى العديد من الأحداث، منها قصة الملك والملكة. ومن ثم تأتينا النهاية، بتراجيديا وفاة الملكة التي سببت أحداثاً أبوكاليبسية، حيث إن لحظة فنائها طاولت محيطها من بشرٍ وطبيعة، فأحدثت موتاً ودماراً وخراباً، إلا أن «العالمين في ذلك الزمن بأن الأرض مستديرة، قد ذكروا بأن البحار تريد الانقضاض على اليابسة في كل لحظة، لكن دوران الأرض حال دون ذلك». كأن المراد التعبير عنه من هاتين اللحظتين، الأولى والأخيرة، هو ترجمة غير حرفية لمقولة «من التراب وإلى التراب نعود»، كأن الضعيف يطرح، ضمن سياقين اخترعهما، لمبدأ الوجود، ويعلله بأن الأصل هو الماء. والماء باعتباره قرين المرآة، هو حمّال أوجه، وفي «الأميرة والظل» هو الصانع للقارات وهو الناهي لها. إلا أن دوران الأرض، كما جاء في الرواية، وقف بوجه هذه الرغبة. تبدو هذه الرغبة تدميرية، «صاحبة قوة عمياء» على حد توصيف شوبنهاور للإرادة، ويبدو أن لا خلاص سوى بمزاجية دوران الأرض على أساس أنّ «الأرض دارية بما تحتضنه» كما ختم الضعيف. لكن ما هو موضوع المعرفة عند الأرض؟ بما هي تدري؟ ولكن لماذا يشعر القارئ بأن الحكاية المقروءة هذه، وبالرغم من غرائبيتها، تبدو كأنها، بعناصرها وخيوطها، مألوفة للغاية، فيما جوهر الغرابة يكمن في السياق (الأسطوري لا المقدّس) وفي عدم ورود أسماء؟
يوقظ الضعيف في أسلوبه هذا، الموروث اللاوعي عند القارئ ويعبث فيه، كما أنه أيضاً، يعبث مع صاحبه. يعيد الضعيف طبخ الروايات المقدّسة في قالب أدبي، في رواية يبدو صاحبها شديد الحرص على قول حميم لديه، يتعلق بسرديات كبرى تطاول منبع الشر، وشكل الخلاص، وعبثية العالم. ليست النماذج التي وردت في الرواية كالجن، أو الطبيعة الغاضبة، أو فكرة الحبل بلا دنس، أو حتى موت الملكة الذي سبّب الأثر نفسه الذي سببه المسيح عند موته حيث سقط الهيكل وكاد العالم أن ينتهي تناصاً مع نصوص الأقدمين، إنما عناصر وظيفية مهمتها حثّ العقل وجعله صاحياً، فاعلاً، «غزارة مُفكِّرة» بحسب تعبير بليز باسكال: يترجم ما يقرأه ويربطه مع ما يعرفه، فتتشكل بذاك البوصلة الدالة على المعنى.
غير أن الأرض لا السماء، تعلم كل شيء. الأرض تعلم أن الملكة من صُنعِها، وأن الملكة أيضاً، هي ملكة عليها. بحسب اعتراف والدتها، فقد ولدت الملكة بداعٍ وقصد، لسبب مجهول يفوق المعرفة. هي كما يعنون «امرأة ليست كالنساء»، تسير وفقاً لقاعدة مقدّسة مفادها أن جسدها هو السر، وهي أمينة لهذا السر، ولو كلّفها عصيان أوامر زوجها الملك والتبعات الوخيمة لهذا العصيان. هذا أبخس ثمن للحرية. يؤنسن الضعيف الملكة ويعطيها هيئة الكمال البشري بكامل أبعاده. فالملكة متخمة بالصفات الأفلاطونية: الحق والخير والجمال، وكانت الأرض، بكامل قوتها، راعية لها. غير أن الملكة تدوّر على مصيرها في رواية تدور برمّتها حول المصائر. الحرية في «الوجه الآخر للظل» توازي الماء باعتباره المبدأ الأولي، الحرية علّة الوجود، ومن يتحلَّ بها يتحلَّ تلقائياً، بالصفات الأفلاطونية تلك. والملكة الأفلاطونية بما تنطوي عليه من عاطفة جياشة تجاه ابنها، وحساسية مفرطة تجاه كل ما يحيط بها من كائنات وخضار، وشجاعة صلبة، وحدها التي تماهت إلى حدّ الامّحاء، عقب موتها، مع الضوء. تغدو الملكة، عند الضعيف، بما تمثله من نزعة مجرّدة كل التجريد من السلطوية، مليئة بالفضائل، أقرب إلى المتصوّف الزاهد، أو الناسك المتعالي، أو الأبيقوري القديم. بالأحرى، الملكة أقرب إلى القدّيسة، أو تكاد أن تكونها. وكونها هي الأخرى، في الرواية، مثل الجميع، قد ولدت لسبب مجهول، معطوف على القليل من اليقين بأن سبب ولادتها هادف، فقد حقّقت ما حققته فقط من خلال تفعيل إرادتها: بالحفاظ على سرّها والمكابدة لأجله. الملكة إذاً، صاحبة إرادة، وهي طبعاً، حرة، وترعاها الأرض، فكيف يمكن لحلم زوجها أن يجعل من حياتها مساراً وعراً؟ ولكن... هل تكون ملكة إن لم تتزوج ملكاً؟ يلعب الضعيف على الثنائيات (الحضور والغياب/ وجود وعدم/ ظهور وغياب) لتصبح حبكته مصنعاً لحبكات لا تنتهي إلا بمشيئة صانعها.
إذا كانت والدة الملكة لا تعلم سبب ولادة ابنتها، فأحداث الرواية ستُخبر: الملكة في امتحان وجودي. زواجها بمثابة درب جلجلة تتناحر عليه قوتان: الأولى أنثوية، تمثل تصوّراً مكثفاً لكل ما يراه البشر في المخلصين فيما الثانية هي القوة التي يهرب منها البشر منذ فجر ولادة الأقاليم والقارات، هي قوة الملك الأهوج الذي يمتهن البطش بينما يمتهن شعبه تخيل وجه الخلاص أو ظل المخلص. الملكة كبش فداء.
في هذا الجوّ العارم من الفانتازيا الأسطورية، لا يبشر رشيد الضعيف بدعوة أو بمثل عليا. لا يكشط الزيف إنما يجعله منزاحاً، يديره لصالحه ليجيء المعنى مؤجّجاً. هناك عدمية جليّة متأصلة في «الوجه الآخر للظل»، تفضح ميل الضعيف لإظهار البعد القاتم الذي لا يستوي فقط في سلوكيات (بشرية) تمظهرت في وضاعة الأفعى وخساستها، أو في الخوف الذي باستطاعته أن يفعل المستحيل إن تحكَّمَ مثل المجموعة التي أرادت أن تجهز على عديا وتقتله، أو في التعذيب المتوحش الذي أطبق على والدة الملكة، إنما مع حقيقة الوجود بحد ذاته. غير أن هناك صوتاً دفيناً، همسات خافتة تنسلّ أحياناً وتجبر الملك أن يلين، أن يتذكر أن «المُلك ليس ملكاً للملك»، وأن يسجد عندما يخطئ، ولو أنه ملك. من هنا تبدأ الحكاية. فعالم يتحكم بمصائر البشر وأقدارهم، لا بد إذاً، من دوران الأرض أن يقف بوجهه. إلا أن قوة الأرض كما روى لنا الضعيف، تبقى مقرونة بوجود ملكة ترمز إلى الحرية والعاطفة والتعالي، لكي تحافظ على دورانها.