لدينا طرازان من الذبحاء الدينيين في منطقتنا: الذبيح البكر، فاتح الرحم، وذبيح الولد الأصغر والأحب. ممثل الطراز الأول إسماعيل. ونعثر عليه في التقليد الإسلامي، لكنّ التقليد التوراتي طمس معالمه. أما الطراز الثاني، فلدينا منه الذبيح إسحق في فلسطين، والذبيح عبدالله في مكة في الجزيرة العربية. الأول معروف في العالم كله، والثاني معروف عند العرب والمسلمين أساساً. وذبح هذين الاثنين ذبحاً رمزياً على علاقة بالآبار والماء السفلي. ذبح إسحق على علاقة بـ «بئر سبع»، رغم أن محرري التوراة المتتابعين حاولوا نفي علاقة إسحق بـ «بئر سبع»، بينما علاقة الذبيح عبدالله بـ «بئر زمزم» واضحة تماماً. فقد ذبح عبد المطلب ابنه من أجل ماء زمزم وسقاية الحجيج: «إن سقيت الحجيج ذبحت لك بعض ولدي». وقد عرض لهذين الذبيحين بتوسع في كتابي «عندما سحقت حية موسى: نشوء اليهودية في فلسطين في العصر الفارسي».

كارافاجيو ـ «التضحية بإسحق» (زيت على كانفاس ـــ 104 × 135 سنتم ــ حوالي عام 1603)

غير أنّ لدينا ذبيحاً ثالثاً مشابهاً في الضفة الشرقية لنهر الأردن، وهو ابن الملك المُؤابي مِيْشَع. لكن رواية التوراة التي حوّلت قصته إلى قصة سياسية، ضلّلتنا عن هذا الذبيح. وحسب هذه الرواية، فقد كان مِيْشَع ملك مُؤاب خاضعاً لملك إسرائيل، ويؤدّي له جزية من مئة ألف خروف، ومئة ألف كبش، بصوفها، سنوياً. لكنْ عند مُوت آخَاب ملك إسرائيل، عصى ملك مؤاب ميشع على ملك إسرائيل. فجرى شنّ هجوم مُنسّق من قِبَل إسرائيل ويهودا على مملكته، وكاد مِيْشَع أن يخسر المعركة، لولا أنه أقدم في اللحظة الأخيرة على التضحية بابنه على الأسوار، ما أدّى إلى انسحاب المهاجمين: «وخرج الملك يَهُوْرَام في ذلك اليوم من السامرة، وعدّ كل إسرائيل. وذهب، وأرسل إلى يَهُوْشَافَاط ملك يهوذا يقول: قد عصى عليّ ملك مُؤاب. فهل تذهب معي إلى مُؤاب للحرب؟ فقال: أصعدُ. مثلي مثلُكَ. شعبي كشعبِكَ، وخيلي كخيلِكَ. فقال: من أيّ طريق نصعد؟ فقال: من طريق برّيّة أَدُوْم. فذهب ملك إسرائيل وملك يهوذا وملك أَدُوْم، وداروا مسيرة سبعة أيام. ولم يكن ماء للجيش والبهائم التي تبعتْهم. فقال ملك إسرائيل: آه، على أن الرب قد دعا هؤلاء الثلاثة الملوك؛ ليدفعهم إلى يد مُؤاب. فقال يَهُوْشَافَاط: أليس - هنا - نبي للرب، فنسأل الرب به؟ فأجاب واحد من عبيد ملك إسرائيل، وقال: هنا أَلِيشَع بن شَافَاط الذي كان يصبّ ماء على يدي إِيلِيَّا. فقال يَهُوْشَافَاط: عنده كلام الرب. فنزل إليه ملك إسرائيل ويَهُوْشَافَاط وملك أَدُوْم. فقال أَلِيشَع لملك إسرائيل: ما لي ولكَ! اذهب إلى أنبياء أبيكَ وإلى أنبياء أمّكَ. فقال له ملك إسرائيل: كلا. لأن الرب قد دعا هؤلاء الثلاثة الملوك؛ ليدفعهم إلى يد مُؤاب. فقال أَلِيشَع: حيّ هو ربّ الجنود الذي أنا واقف أمامه، إنه لولا أنّي رافع وجه يَهُوْشَافَاط ملك يهوذا، لما كنتُ أنظر إليكَ، ولا أراكَ. والآن فأتوني بِعَوّاد. ولمّا ضرب العَوّاد بالعُود، كانت عليه يد الرب، فقال: هكذا قال الرب: اجعلوا هذا الوادي جِبَاباً جِبَاباً. لأنه هكذا قال الرب: لا ترون ريحاً، ولا ترون مطراً، وهذا الوادي يمتلئ ماء، فتشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم. وذلك يسير في عيني الرب، فيدفع مُؤاب إلى أيديكم... وفي الصباح عند إصعاد التقدمة، إذا مياه آتية عن طريق أَدُوْم، فامتلأت الأرض ماء. ولمّا سمع كل المُؤابيين أنّ الملوك قد صعدوا لمحاربتهم جمعوا كل متقلّدي السلاح فما فوق، ووقفوا على التُّخُم. وبكّروا صباحاً والشمس أشرقت على المياه، ورأى المُؤابيون مقابلهم المياه حمراء كالدم، فقالوا: هذا دم! قد تحارب الملوك، وضرب بعضهم بعضاً، والآن فإلى النهب، يا مُؤاب. وأتوا إلى محلّة إسرائيل، فقام إسرائيل، وضربوا المُؤابيين، فهربوا من أمامهم، فدخلوها، وهم يضربون المُؤابيين. وهدموا المُدُن، وكان كل واحد يُلقي حجره في كل حقلة جيّدة حتى ملأوها، وطمّوا جميع عيون الماء، وقطعوا كل شجرة طيّبة... فلما رأى ملك مُؤاب أن الحرب قد اشتدّت عليه، أخذ معه سبعمئة رجل مُستلّي السيوف؛ لكي يشقّوا إلى ملك أَدُوْم. فلم يقدروا. فأخذ ابنه البكر الذي كان مَلَكَ عوضاً عنه، وأصعده مُحْرَقَةً على السور. فكان غيظ عظيم على إسرائيل. فانصرفوا عنه، ورجعوا إلى أرضهم» (الكتاب المقدس، الملوك الثاني 3: 4-27).
وكما هو واضح، فقصّة ملك مِيْشَع - هنا - تشبه قصّة الذُّبحاء من حيث تعلّقها بالماء. فالنص مائيّ، من أوّله إلى آخره:
- لم يكن ماء للجيش والبهائم التي تبعتْهم.
- اجعلوا هذا الوادي جِبَاباً جِبَاباً [أي آباراً].
- لا ترون ريحاً، ولا ترون مطراً، وهذا الوادي يمتلئ ماء، فتشربون أنتم وماشيتكم وبهائمكم.
- وفي الصباح عند إصعاد التقدمة، إذا مياه آتية عن طريق أَدُوْم، فامتلأت الأرض ماء.
- أكثر من ذلك، فإن هناك طمّاً للآبار، ودَفْنَاً لها، كما هو الحال في قصّة إسحق وقصّة عبدالله: «تطمّون جميع عيون الماء». فَطَمُّ الآبار ثيمة مركزية في قصّة الذُّبحاء.
فوق ذلك، فإن المؤابيين رأوا أن الماء يشبه الدم: «ورأى المؤابيون مقابلهم المياه حمراء كالدم، فقالوا: هذا دم». وبالفعل، فإن الماء في قصص الذبحاء يدفع ثمنه دماً. لذا يختلط فيها الماء بالدم اختلاطاً تاماً.
ذبح إسحق على علاقة بـ«بئر سبع»، رغم أن محرّري التوراة المتتابعين حاولوا نفي ذلك


كل شيء يشير- إذاً- إلى أن الماء هو البطل الأساسي للقصّة. وكما هو جَليّ، فإن المياه التي تدفّقت هي المياه الجوفية، وليست المياه العلوية، مياه المطر. ذلك أن أَلِيشَع قال لهم: «لا ترون ريحاً، ولا ترون مطراً. وهذا الوادي يمتلئ ماء». وماء تأتي من دون ريح ولا مطر هو ماء جوفي قادم من أعماق الأرض. عليه، فقد جرى حفر للحصول على المياه السفلية، وجمعت في الآبار، أي الجباب: «اجعلوا هذا الوادي جِبَاباً جِبَاباً». لكنّ قَلْباً ما قد حصل للقصّة في اعتقادنا. فمَن يُفترَض أن يجمع الماء في جباب، هو مِيْشَع ملك مُؤاب، إذا استندنا إلى قصة الذبيحين عبدالله وإسحق. ذلك أن المُضحّي بابنه هو مَن يحتاج إلى الماء، وهو مَن يحفر الآباء، ومَن يدفع ثمن مائها لمالك الماء السفلي. إبراهيم فعل ذلك. وعبد المطّلب أيضاً. والملك مِيْشَع يضحّي بابنه، كما ضحّيا بابنيهما، من أجل التمتّع بالماء والآبار. لكنْ؛ لأن أيدي المحرّرين عبثت بالسفر بشدّة، فقد بدا كأن إسرائيل ويهودا هما مَن حفر الآبار. والحقّ أن الإله يهودا- يهوه هو ممثّل الماء السفلي، أي صاحبه. بذا فهو ليس بحاجة إلى حفر الآبار.
وهكذا ذبح ميشع ملك مؤاب كما فعل عبد المطّلب العربي مع ابنه عبدالله، وكما فعل إبراهيم مع إسحق. لقد دفع ميشع الثمن، فتدفقت المياه في الوادي. ولو لم يكن الأمر ذلك، فلماذا ينسحب جنود يهودا لأن عدوّهم ذبح ابنه؟ لقد انسحبوا لأن ثمن الماء قد دُفع عبر التضحية بالابن. والذَّبْح هنا رمزي، بالطبع. ذلك أن الذبيح يُستبدل كبشاً، في نهاية الأمر. لكن قصّة ذبح مِيْشَع لابنه مختصرة - إضافة إلى أنها مُحرّفة - ولا تتطرّق إلى موضوع الكبش.
وقد نأينا هنا عن الاستشهاد بمسلّة الملك مِيْشَع، التي يُفترَض أنها تتحدّث عن الموضوع نفسه؛ لأن كل الدلائل تشير - من وجهة نظري - إلى أنها مزوّرة.

* شاعر وباحث فلسطيني