بعد رحلة تيه طويلة امتدت نحو ربع قرن، قرّر الروائي التونسي حسّونة المصباحي العودة إلى بلاده عام 2004. وبعد خمسة عشر عاماً أمضاها بين مدينتَي بنزرت شمال البلاد والحمامات، اختار العودة إلى القرية التي ولد فيها في أرياف مدينة القيروان. هناك أقام بيتاً في المكان الذي ولد فيه، مستحضراً صورة والدته زهرة المحفوظية التي خلّدها في بعض قصصه. نسّاج الحكايات الذي كتب الحياة اليومية للفلاّحين في سهوب القيروان، كان منذ بداياته كاتباً منشقّاً «خان أجداده في كل شيء إلا في حبّهم للتيه والترحال». منذ مجموعته القصصية الأولى «حكاية جنون ابنة عمي هنية»، بدا المصباحي مختلفاً عن أبناء جيله وعن مدوّنة السّرد التونسي بل العربي. في «حكاية جنون ابنة عمّي هنية»، و«السّلحفاة»، و«ليلة الغرباء»، و«الأميرة الزرقاء»، و«هلوسات ترشيش»، و«الآخرون»، و«أشواك وياسمين»، و«يوميات ميونيخ»، و«كتاب التيه» وغيرها من العناوين في القصّة القصيرة والرواية والترجمة تحضر، سيرته الذاتية وسيرة أبناء جيله الذين اصطدموا بالسلطة، ودخلوا بالعشرات، دخلوا السجون وعاشوا مرارة التجربة وعذاباتها.حسونة المصباحي الذي كان منذ البداية، يفكّر بصوت عال تنقّل بين كبرى الصحف والمجلات العربية على مدى أربعين عاماً، لكن الصحافة لم تستنزف افتتانه بالكتابة التي أخلص لها كما لم يخلص لشيء آخر. في هذا الحوار يتحدّث عن رحلة «تيهه» وأسرار العودة إلى «الزياتين» التي أوصى بأن يدفن تحت زيتونها، وعن المشهد الروائي في تونس والعالم العربي.

عشت حوالي ربع قرن مُتنقّلاً بين مدن أوروبا وقضيت معظمها في ميونيخ، وتحديداً في بافاريا، كيف عشت هذا الانتقال من أوروبا إلى قريتك في سهوب القيروان؟
ـــــ منذ بداية مسيرتي الأدبية وأنا دون سنّ العشرين، كنت مُدركاً أنّ الأفق التونسي لن يكون كافياً لكي أكون كاتباً بالمعنى الحقيقي للكلمة. لذا ابتعدت عن المؤسسات الرسمية التابعة لوزارة الثقافة لأجد نفسي مع فتية من «المنشقين» كان بالقاسم التليلي الملقب بـ«فيلسوف التعاسة»، وخالد النجار من أبرزهم، ومن أوسعهم تجربةً وثقافة. الاثنان سافرا إلى المشرق العربي ليعودا منه بمعرفة عن التيارات الفكرية والأدبية التي كانت فاعلة في الثقافة العربية مشرقاً ومغرباً... هكذا تمكنت بفضلهما من تعميق ثقافتي من خلال القراءات، متأثراً بتجارب المجددين من قصاصين وروائيين وشعراء من أمثال أدونيس، وبدر شاكر السياب، وجبرا إبراهيم جبران وغسان كنفاني، ويوسف إدريس، والطيب صالح... كنت في سن العشرين حين قررت السفر إلى المشرق العربي عام 1973.

حسّونة المصباحي: الأكاديميون أفسدوا الحياة الثقافية في تونس

وبعد طواف في سوريا، ولبنان، والعراق، عدت إلى بلادي بعدما تيقّنت أن الأفق الذي كنت أبحث عنه، كان شبه مفقود، أو مُهدّداً بالفقدان بسبب طغيان الإيديولوجيات القومية والشيوعية وغيرهما على كل أشكال الفكر والثقافة، والتي كانت بصدد إعداد نيران الحرب الأهلية اللبنانية. كان عليّ أن أنتظر بداية الثمانينيات لكي أستعيد جواز سفري المحجوز لأسباب سياسية كي أنطلق إلى باريس، ثم إلى مدريد التي كانت تتعافى آنذاك من الفترة الفرانكية القاتمة. تلك السفرة التي استمرت شهراً ونصف شهر، أقنعتني بأن الأفق الذي كنت أبحثُ عنه موجود في أوروبا. لذا لم ألبث أن تركت بلادي من جديد لأكون في مدريد، واستوكهولم، وباريس، ولندن، وروما، وميلانو، وجنيف، وفي مدن كثيرة أخرى لأشعر بعد كل زيارة إلى هذه المدينة أو تلك، بأنّي أتجدد، وأن الآفاق المعرفية والفنية التي أطمح إليها، تتّسعُ أمامي فكما لو أنني أولد من جديد. وأظن أن إقامتي الطويلة في العاصمة البافارية هي التي عمّقت تجربتي لا في الكتابة والمجال الفكري فحسب، بل في الحياة أيضاً. ومنها أدركتُ أنّ الوحدة هي مصير كلّ من يطمح ليكون كاتباً حقيقياً. وفي الوحدة لم أكن أقرأ وأكتب فقط، بل كنت أتعمّق في ذاتي سابراً أغوارها، وكاشفاً نواقصها وعيوبها. وهذا ما كان بإمكاني أن أفعله لو كنت في تونس لأن الوسط الثقافي يعيش على وتيرة النميمة والأحقاد والصداقات المزيّفة والعلاقات المشبوهة. لذلك كنت أتعجّب كلما زرت تونس، كيف يمكن للشعراء والكتاب أن يجدوا وقتاً للكتابة والقراءة والحال أنهم يعيشون في الشارع أغلب الوقت ولا يعودون إلى بيوتهم إلا في ظلام الليل. وفي ميونيخ، أنجزتُ أعمالاً قصصية وروائية أشعرتني بأنّي أصبحت الكاتب الذي أطمح أن أكون. بعض رواياتي مثل «هلوسات ترشيش» و«وداعاً روزالي»، تُرجمت إلى لغة لتنال الأولى جائزة «توكان» التي تُمنح لأفضل عمل أدبي من قبل مدينة ميونيخ (2001). وصدرت في مُجلدين مختارات من قصصي مترجمة أيضاً إلى اللغة الألمانية، وقد استقبلها النقاد بكثير من الإعجاب. كما أنّي كتبت «يوميات ميونيخ» التي سجّلت فيها خواطري وأفكاري خلال السنوات الأخيرة التي سبقت عودتي النهائية إلى تونس. وفي «كتاب التيه»، جمعتُ النصوص التي كتبتها من وحي رحلاتي إلى مدن عربية وأوروبية مثل طنجة، واستوكهولم، وإسطنبول، والمدن الأندلسية (غرناطة، إشبيلية، قادش، وقرطبة). وأظن أن إقامتي في ميونيخ هي التي جعلتني أقتنع أكثر من أيّ وقت مضى، بأنه يتوجّب على الكاتب الحقيقي أن يكون مُلمّاً بجميع الفنون، وعارفاً بالموسيقى والمسرح والسينما والفنون التشكيلية. تعكس العديد من قصصي ورواياتي تأثيرات هذه الفنون، خصوصاً السينما. وأعتقد أن عودتي إلى تونس كانت قراراً حكيماً من جانبي. في مطلع الألفية، وتحديداً بعد عملية الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية (2001) شعرت بأنّ الغرب سيشهد تغيّرات كثيرة، وسيجد العرب أنفسهم في مواجهة موجات جديدة من العنصرية، والعنف والتّبخيس. كما أنّي شعرت بأنّ مرحلة ميونيخ بلغت أقصى حدودها بحيث باتت شبيهة بأفق شبه مسدود. لذا كان يتوجب عليّ أن أبدأ مرحلة جديدة في حياتي ومسيرتي الإبداعية. ولعلّي عبّرت عن ذلك أفضل تعبير في الفصل الأخير من سيرتي الذاتية التي حملت عنوان «بحثاً عن السعادة». ولا أبالغ حين أقول بأنّ عودتي إلى قريتي بعدما بنيْتُ بيتاً جميلاً وسط حقل من الزيتون واللوز، كانت مُثْمرة للغاية، إذ إنّها أتاحت لي السكينة الروحية، ووفّرت لي آفاقاً جديدة في الكتابة والحياة، وأنقذتني من ذلك التعفّن النفسي المريع الذي يستبدّ بالمغترب، خصوصاً عندما يشيخ ويتعب، وقد عبّر عنه الكاتب الألماني الكبير زيبالد في روايته البديعة «المهجّرون». عدت إلى قريتي لأحتفي بعيد ميلادي السبعين. وفي هذه السن، يُستحسن أن يكون التفكير في الموت مُتساوياً مع التفكير في الحياة، بل الأفضل أن يكون مُتجاوزاً له. لذا اخترت المكان الذي سأُدفن فيه، وهو بين شجرتَي زيتون. وسيكون رأسي إلى الغرب، وساقي إلى الشرق. كما أعددت الشاهدة التي ستكون على قبري، وعليها هذان البيتان لأبي العلاء المعري:
«علّلاني فإنّ بيضَ الأماني فنيتْ
والظلام ليس بفان
إن تناسيتما ودَادَ أناس
فاجْعلاني منْ بعض من تَذْكران»
وسيكون في بيتي مكتبة تحتوي على آلاف الكتب في جميع مجالات المعرفة، هي كل ما جنيتُ من رحلاتي عبر العالم، أنا الذي خُنتُ أجدادي في كل شيء إلا في الترحال والتيه...

في قصصك ورواياتك، تحضر دوماً سيرتك بأشكال مُختلفة، إلى أي حدّ يمكن للروائي أن يتخلّص من سيرته في الكتابة؟
-هذا السؤال يتكرر دائماً هنا في العالم العربي. أمّا في الغرب الذي ابتكر فنّ الرواية مُشيراً إلى مُوسّسيْها الكبيرين، الإسباني سارفانتس والفرنسي رابليه، فلم يعد هذا السؤال مطروحاً. ولعل فلوبير هو أفضل من أجاب عليه قائلاً: «مدام بوفاري هي أنا». أظن أنّ الروائي حاضر دوماً في عمله الأدبي بأشكال مختلفة ومُتعددة. فهو الراوي، وهو الكاشف عن مصير شخصياته، وعن أوضاعها النفسية والاجتماعية. وهو الشبح الغامض الذي يتسلّل إلى صفحات الرواية بين وقت وآخر. وهو المراقب لأحداث عصره. وهو المطلّ علينا بين الحين والآخر من بين صفحات روايته تماماً مثلما يفعل هيتشكوك في أفلامه. حين نقرأ ملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة»، يتبين لنا أن شبح هوميروس ليس غائباً عنهما. واضح أن هاتين الملحمتين كانتا ثمرة تيهه الطويل بين جزر اليونان، مُستمعاً إلى قصص المغامرين في البحار وعلى اليابسة، وإلى المحاربين الذين يَغْفون ماسكين بسيوفهم استعداداً للمعركة القادمة. لم يكتب روائي عظيم مثل فوكنر سيرته الذاتية لكنه حاضر بقوة في جميع روائعه الروائية. وفي المقدمة البديعة التي خصّصها لترجمته لروايته الشهيرة «الصخب والعنف»، أشار الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا، إلى أنّ فوكنر ترك الجامعة ليعيش سنوات، مُتسكّعاً في الشوارع، مُتنقّلاً بين الحانات الشعبية ليستمع إلى حكايات الزنوج الذين كانوا يقاسون أفظع أنواع الاستغلال والمهانة. غير أن ذلك لم يكن يمنعهم من الرقص والغناء، ومن التهكّم على أنفسهم وعلى مصيرهم الشقي. وحكايات الزنوج، والمهمّشين، والسكّيرين، والمشردين هي التي كانت المادة الأساسية للعديد من روايات وقصص فوكنر، ومنها ابتكر أسطورة الجنوب الأميركي. ولا نتردّدُ في القول بأنّ شخصية القنصل البريطاني الذي يمضي يوماً كاملاً في السكر والهذيان في قرية مكسيكية بائسة ليموت في النهاية ميتة بشعة شبيهة بـ«موت كلب»، هو مالكوم لاوري نفسه صاحب رائعة «تحت البركان» الذي قتله الشراب هو أيضاً. وهناك روائيون تحضر جوانب من سيرهم في قصصهم ورواياتهم مثلما فعل همنغواي على سبيل المثال لا الحصر. وفي أكثر من مرة، أشار ماركيز إلى أنه يُدين لجدّيه بالكثير من الحكايات التي كانا يرويانها له وهو طفل دون سنّ العاشرة، لتُشكّلَ تلك الحكايات في ما بعد المادة الأساسية للعديد من قصصه ورواياته. وفي «صورة الفنان في شبابه»، و«أوليس»، يطلّ علينا جيمس جويس من خلال شخصية ستيفان ديدالوس، الفنّان الشاب المتمرد على ثقافة بائدة، وعلى مجتمع جمّدته التقاليد والخرافات الدينية. ولا يمكن أن يكون نجيب محفوظ الذي كتب سيرته الذاتية مُتأخّراً من خلال فصول مُكثفة وبديعة عن «ثلاثيته»، وعن العديد من رواياته الأخرى. وهل يمكن أن تكون شخصية مصطفى سعيد غريبة تماماً عن شخصية الطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»؟. ولا يُخفي أن سيرة هنري ميللر الذاتية هي المصدر الأساسي لكل أعماله الروائية. وأنا أعترف بأنّي حاضر منذ أولى مجموعاتي القصصية «حكاية جنون ابنة عمي هنية»، في جلّ ما كتبت من قصص وروايات. وصحيح أنّي أكون مُتخفياً أحياناً خلف هذه الشخصية أو تلك، لكني أكون حاضراً بقوة في قصة مثل «السلحفاة» التي أروي فيها فصلاً من طفولتي المُعذبة في الأحراج الوعرة الفاصلة بين منطقة القيروان ومنطقة الكاف على الحدود مع الجزائر. وقد تكون لي بعض سمات شخصية عبد الفتاح خليل في «هلوسات ترشيش»، أو ميلود في «وداعاً روزالي»، أو يونس في «يتيم الدهر». ولِم لا، فأنا عشت حياة ثرية وَسَمَتْها تجارب مريرة، ومحن مُوجعة وتنقلات عبر العالم، واضطرابات خطيرة. أوَليست الرواية كغيرها من الفنون، تستندُ إلى أن صاحبها مُتمرس بحياة يعيشها بالطول والعرض، ومن مآسيها يتعلم كيف يعيش وكيف يموت؟

عدد كبير من الأكاديميين التونسيين توجّهوا إلى كتابة الرواية بعدما ارتقوا في مسارهم الأكاديمي، كيف ترى هذه الظاهرة؟
ـ اسمحْ لي بأن أستعين بهذه المقولة للمفكر الكبير جورج شتاينر الذي كان أيضاً أكاديمياً مرموقاً، حاضراً في أشهر الجامعات في العالم: «لكن لا بد من أن أعترف بأن الجامعة همّشتني دائماً، وكنت مرفوضاً من قبل المُتَنَفّذين فيها، إذ إنني أظهرت منذ البداية اختلافاً جوهرياً، مُعلناً أن أعظم أستاذ في الجامعة لا يمكن أن يكون مُبدعاً بالمعنى الحقيقي للكلمة. هو مجرد ساعي بريد مثل ذاك الذي في فيلم ميكائيل رادفورد الجميل عن بابلو نيرودا. هو يحمل رسائل. لكنه لا يكتب. ونسيان هذا الاختلاف، يُعتبر خيانة يرتكبها أساتذة الجامعة. وأنا لا أقبل أن يذهب الغرور بهؤلاء ومعهم النقاد بعيداً إلى حدّ أنهم يسمحون لأنفسهم بالتشبه بالمبدعين». هذه المقولة لن يحبها أشباه الأكاديميين عندنا في تونس لأنهم لا يمتلكون ولو ذرة من معارف جورج شتاينر، بل أنا على يقين أنهم لم يَطّلعوا على مؤلفاته القيمة في مجالات مختلفة. ومقولته تؤكد ما صرّحت به مراراً عديدة بأن الجامعيين التونسيين يملكون شهادات تُخوّلهم الحصول على وظيفة، لكنها لا تخوّلهم أن يكونوا مبدعين حقيقيين. وهم في جلّهم بلا موهبة وبلا دراية بفن الرواية التي تتطلب تجربة عميقة في الحياة، ومعرفة واسعة بآداب العالم. كل الروايات التي أصدرها هؤلاء مواضيع إنشائية مطوّلة وثقيلة تكاد تكون خالية من كل ما يمتّ إلى فن الرواية بصلة. وأبدأ بأشهرهم، أعني بذلك مثلاً شكري المبخوت الذي نال حظوة كبيرة في السنوات الأخيرة، وهو فرض بقوة الدعاية، وبحكم وظيفته كعميد لجامعة منوبة رغم ضعف روايته «الطلياني» ولغتها التقريرية والإنشائية. والعجيب أنّ المبخوت يزعم أن روايته هي عن اليسار التونسي في بداية السبعينيات والثمانينيات. والحال أنه لم ينتسب إلى اليسار أبداً.
يعتقدون أنّ الرواية هي مواضيع إنشائية جاهزة مثل الهجرة السرية، والإرهاب الأصولي، والجنس الرخيص

وعندما كان اليساريون في السجون، أو المنافي، كان هو مجرد طالب لا هدف له سوى الحصول على شهادات جامعية. بعد تخرّجه، أصبح أستاذاً جامعياً، ثم عميداً لجامعة منوبة. وحالما انهار نظام ابن علي، ركب موجة الثورة وأصدر «الطلياني» زاعماً أنها الرواية الأولى عن اليسار التونسي، ومُتجاهلاً جملةً وتفصيلاً روايات أخرى سبقتها تفوقها على جميع المستويات، بل لا يمكن أن تُقارن بها أصلاً. والحقيقة أنّ المبخوت لم يكن يسارياً في أيّ يوم من الأيام. ولو كان كذلك، لما سمح له نظام ابن علي الديكتاتوري بأن يكون عميداً لجامعة منوبة. لذلك، جاءت روايته المذكورة مُحمّلة بصورة وهمية عن اليسار بما ما كان يُشاع في المقاهي والنوادي ومُتبّلة بشيء من الجنس والإغراء الرخيص والمُبْتَذل. وقبل المبخوت، اعتقد جامعيون خطأً أن تقليدهم لمحمود المسعدي، سيسمح لهم بأن يكونوا روائيين مشهورين. وكان محمود طرشونة من أول هؤلاء. إلا أن الروايات التي أصدرها ظلت في رفوف المكتبات لعزوف القراء عنها. والحقيقة أن الجامعيين ثقلاء في لغتهم، وأسلوبهم، وتفكيرهم، وسطحيون بلا تجربة وبلا دراية بفن الرواية. لذلك أفسدوا الحياة الثقافية والإبداعية في تونس ولا همّ لهم سوى الحصول على الجوائز الرفيعة.

جوائز خليجية عديدة تُمنح للكُتّاب كل عام، ما هي الإضافة التي حقّقتها للأدب العربي؟
ــ عندما كانت هذه الجوائز غير متوفرة، كانت الثقافة العربية في جميع جوانبها أفضل حالاً. وكثير ممن صنعوا مجدَ الثقافة العربية خلال القرن العشرين، والأسماء كثيرة، لم يحصلوا على جوائز بمثل هذه القيمة المادية، بل منهم من مات فقيراً، بل مُعدَماً أصلاً. لا أنكر أن لهذه الجوائز مردوداً مادياً ومعنوياً هاماً للغاية. غير أن اللجان المشرفة عليها هي التي أفسدتها بالمؤامرات والدسائس والمجاملات ليستفيد منها أحياناً مَن هم بلا قيمة أدبية أو فكرية، وليلتهمها روائيون مُزيفون، وشعراء انتهازيون يبيعون ويشترون بحسب مصالحهم، وباحثون من الدرجة الثانية، ومُترجمون يجهلون روح اللغات التي يزعمون أنهم يمتلكون ناصيتها... وأكبر دليل على ذلك أن مثل هذه الجوائز الخليجية أفسدت الثقافة العربية هو أن جلّ الروايات التي تحرز مثل هذه الجوائز لا تلقى استحساناً من قبل دور النشر الغربية. بل ترفض نشرها حتى عندما يكون ثمن ترجمتها مدفوعاً مُسبقاً. لهذا أرجو من المؤسسات الثقافية في البلدان الخليجية أن تقوم بمراجعة جذرية لسياستها في هذا المجال الحيوي، وأن تُعيّن لجاناً حقيقية، لا عصابات مافيوزية بلا ضمير وبلا كفاءة معرفية وبلا روح أخلاقية أو إنسانية. من دون هذه المراجعة، ستكون هذه الجوائز بمثابة اللعنة على الثقافة العربية، وتبخيساً للمبدعين الحقيقيين.

هناك توجه كبير نحو كتابة الرواية كأنّ الأمر أصبح موضة، أي هل الجوائز هي الدافع لكتابة الرواية؟
ـــ الإقبال المحموم على كتابة الرواية في مختلف البلدان العربية بعدما كان مُقْتصراً على مصر وحدها، بدأ في التسعينيات من القرن الماضي. لذلك كتبت في تلك الفترة مقالاً في جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان: «الهوَسُ العربي بالرواية»، أشرت فيه إلى أن هذا الهوس قد يكون مُضرّاً بفن الرواية، وقد يؤدي إلى أن تصبح الرداءة قاعدة لا استثناء لأن النقد الجاد لذلك السيل الهادر من الروايات يكاد يكون غائباً. فإن حضر، فهو مُجامل أو مُتسرع بحيث يمتنع صاحبه في غالب الأحيان عن التعمّق لكشف جوانب الضعف في هذه الرواية أو تلك. وفي غياب النقد الجاد والمسؤول، تنتشر الرداءة بشكل مُريع، ويُسمح لأشباه الروائيين بتصدر المشهد، ونيل الجوائز الرفيعة، وتغييب المبدعين الحقيقيين لفنّ الرواية. وهذا ما حصل ويحصل راهناً. وقد زادت الجوائز الخليجية في تحريض الجميع على كتابة الرواية ليقتحم الميدان أكاديميون جوف، وشعراء من دون موهبة في مجالهم، وكُتاب من الدرجة الثانية يعتقدون أنّ الرواية هي مواضيع إنشائية مطولة حول مواضيع جاهزة مثل الهجرة السرية، والإرهاب الأصولي، والجنس الرخيص، وغير ذلك من المواضيع... والآن نحن نعيش رداءة طاغية تحجب عنّا كل ما هو جميل وأصيل في فن الرواية العربية، وتفرض علينا أن يتصدّر المشهد من لا علاقة لهم أصلاً بهذا الفن الرفيع. والعديد من الروايات التونسية والعربية المشهورة أتوقف عن قراءتها قبل أن أكمل الصفحات العشرين الأولى لثقلها، وللغتها التقريرية، ولأسلوبها الجاف ولطغيان التكلف والتّصنع عليها.

كتابك الجديد «الرحلة المغربية» («دار الحكمة» في مدينة تطوان) صدر في المغرب وسبق أن حزت على «جائزة محمد زفزاف»، هل تعتبر نفسك كاتباً بجناحين تونسي ومغربي؟
ـــ كرّمني المغرب بـ «جائزة محمد زفزاف» الذي كان صديقاً عزيزاً على القلب. وفي خريف هذا العام، أصدرت عن «دار الحكمة» كتاباً بعنوان «الرحلة المغربية» بعدما قمت برحلة طويلة السنة الماضية قادتني في نهايتها إلى الصحراء المغربية لأعيش هناك أوقاتاً سحرية وأنا مثل حبة رمل ضائعة بين المحيط الأطلسي والصحراء المترامية الأطراف. ولم تكنْ رحلتي رحلة مشاهدات، بل رحلة معرفية يتداخل فيها التاريخ بالأدب والفكر، وفيها تحضر شخصيات كبيرة مثل المستشرق ماسينيون الذي اكتشف سحر الشرق في أول رحلة له إلى المغرب وهو شاب تجاوز العشرين بقليل، ومثل سانت أكزوبيري الذي كتب روايته الأولى «بريد الجنوب» في الصحراء المغربية، والمفكر الكبير عبدالله العروي الذي كتب أفضل كتاب عن تاريخ المغرب العربي. كما يحضر أصدقاء رائعون أمثال محمد شكري، ومحمد خير الدين، وإدريس الخوري، وعبد الكبير الخطيبي، وآخرون. يحتوي كتابي أيضاً على تقييم لليسار المغربي في السبعينيات من القرن الماضي. كما توقفت عند محطات أخرى من تاريخ المغرب في القرن العشرين مثل قضية الصحراء المغربية على سبيل المثال لا الحصر.

كنت من أوائل الذين أدانوا ما يُسمى «الربيع العربي»، اليوم بعد مرور 12 عاماً على هذا التحوّل، كيف ترى هذه السنوات وحصيلتها؟
ـ نعم، كنت منذ اليوم الأول ضدّ ما سمّي بـ «الربيع العربي»، وكنت عالماً أنّ الذين سيسيطرون على المشهد السياسي سواء من اليسار أو من الإسلام السياسي، سوف يعملون منذ البداية على تدمير الدولة الوطنية ومؤسساتها لنشر الفوضى والخراب. وهذا ما حصل على مدى السنوات العشر الماضية، إذ دأب كل الذين جاء بهم «الربيع العربي» على تعذيب تونسنا الجميلة، وتخريبها لتصبح مدنها وقراها أكواماً من الفضلات، وليصبح الفاسدون والمرتزقة والمهرّبون والخونة أسياداً يعبثون بالشعب كأنه قرد للفرجة المسلية، ويجبرونه على أن يعيش حياته متسوّلاً الخبز، والدواء والحليب، وغير ذلك. وكل يوم تزداد الأوضاع سوءاً لينطفئ كل بصيص أمل، ولتتحول الحياة اليومية إلى جحيم يدفع الناس إلى الانتحار، أو إلى رمي أنفسهم في البحر للوصول إلى أوروبا، أو يتحولون إلى وحوش ضارية تتقاتل يومياً من أجل البقاء على قيد الحياة. لذلك اعتبرت ولا أزال أنّ «الربيع العربي» كان مؤامرة قذرة دُبّرت في الخفاء لتدمير بلادي، وإعادتها إلى ظلمات التخلف والجهل والخنوع... وقد هاجمني كثيرون، ووصفوني بأوصاف شنيعة لكنّي صمدت، وتحديتهم جميعاً، يساريين وإسلاميين وقوميين، معتبراً إياهم بائعي أوهام وأكاذيب وليس صنّاعاً للتاريخ، ولا بناة للدول، ولا مصلحين لمجتمع.