انطلق خورخي ماريو بيدرو فارغاس يوسا (1936)، من فضاء اليسار، متحمساً للثورة الكوبية وما أطلقته من آمال بتحرّر بقيّة شعوب الجنوب من سطوة هيمنة الإمبراطوريّة الأميركيّة، فاعتبرها «نقطة تحوّل أيديولوجية في التاريخ» و«وعداً باشتراكية لا-طائفية تسمح بالانتقاد، والاختلاف، وحتى الانشقاق»، ورأى في إنجاز الزعيم الكوبيّ فيدل كاسترو «مغامرة بطولية، وسخيّة». الكاتب البيروفي الشهير وأحد أهم الروائيين الأحياء إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، ذاعت سمعته مع نشر «زمن البطل» (1963)، رواية مثيرة للجدل انتقد فيها سياسة الطغمة العسكريّة الحاكمة في بلاده، فمُنعت، وأحرق الجنود ألف نسخة منها وصلت إلى العاصمة ليما. واصل يوسا بعدها تسجيل هواجس المجتمع البيروفي بنفس يساريّ رغم أجوائه البرجوازيّة، فكتب «البيت الأخضر» (1968)، و«حديث في الكاتدرائيّة» (1975) التي كرّسته روائيّاً عالميّاً، ونجماً في سماء الحداثة الأدبيّة خلال السبعينيّات من القرن الماضي، رغم أنّ قوّته الأساسيّة – وفق النقّاد – تظلّ في مساحات النّقد الأدبي والمقال الصحافيّ.
(جيرار روندو)

كان يوسا وقتها مقيماً في أوروبا، بدايةً في مدريد حيث حصل عام 1958 على منحة دراسيّة، قبل أن ينتقل تالياً إلى باريس التي نشر منها مجموعته القصصية الأولى (1959) متأثراً بفيلسوف الوجوديّة جان بول سارتر. وبقي في عاصمة الأنوار حتى عام 1980 حين عاد إلى بلاده قبل انتقالها إلى الحكم المدنيّ بقليل، محمَّلاً بطموحات لتولّي دور سياسيّ مستفيداً من أنّه أصبح أشهر مواطن بيروفيّ عند الإعلام الغربي.
ارتكاس يوسا نحو اليمين كما يليق ببرجوازيّ متغربِن اكتمل عندئذ، فأصبح يطلق التصريح تلو التصريح في الدفاع عن «الديموقراطية الليبرالية» و«سيادة القانون» و«الصحافة الحرة»، سعياً إلى الحصول على رضى النّخب البرجوازيّة البيروفيّة وراعيها الأميركيّ. ترشّح بالفعل إلى الانتخابات الرئاسية عام 1990 كمرشّح عن ائتلاف «الجبهة الديموقراطية» اليمينيّ مبشراً بإصلاحات ليبراليّة المزاج، لكنّ البيروفيين خيبوا آماله، فخسر أمام ألبرتو فوجيموري.
تَحَوّل يوسا السياسيّ من اليسار إلى اليمين، تزامن مع تحوّل آخر تمثل في الانتقال من أسلوبٍ مرتبط بالحداثة الأدبية التقدميّة إلى منهج ما بعد الحداثة العابث، ما فتح له بوابة الجوائز الغربيّة، فحصل على «جائزة سرفانتس» الإسبانيّة عام 1994، و«جيروساليم» العبريّة عام 1995، و«نوبل للآداب» عام 2010. لكنّ موهبته الساطعة في ترسيم هياكل القوّة ومقاومة الأفراد لها بقيت دائماً فوق التصنيفات وأهمّ من الجوائز.
يوسا في خريفه، وبينما يعدّ الخطى نحو عقده العاشر، قرّر أن يقدّم مرافعة في تفسير انتقاله من النقيض إلى النقيض عبر مجموعة مقالات عن المفكرين والكتّاب الليبراليين الذين يقول إنّهم ساعدوه خلال السنوات الخمسين الأخيرة في «إصلاح» عقله من «أوهام» الاشتراكية الأولى، جمعها في كتاب «نداء القبيلة» (النسخة الإنكليزية صدرت بداية عام 2023). قبيلته الأيديولوجيّة المختارة هذي شملت آدم سميث مؤلف «ثروة الأمم» وصاحب فكرة أنّ محرّك التقدّم ليس الصراع الطبقي كما يذهب ماركس بل «الطبيعة البشرية» المدفوعة بالعلاقة الجدليّة بين الرغبة في تحقيق المصالح الذاتية وملكات التفكير والأخلاق المرتبطة بالعقل، كما فريدريش هايك فريدريش فون هايك كبير منظري السوق الحرة، الذي زعمت مارغريت تاتشر أنه أكبر ملهميها ولوّحت بكتابه «جذور العبودية» يوماً قائلة: «هذا ما نؤمن به»، إلى جانب كارل بوبر، اللاجئ اليهوديّ من ألمانيا النازيّة ومؤلف كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الذي يعدّ بمثابة هجوم شامل ضد الماركسيّة وصاحب نظريّة حماية الديموقراطيّة عبر فرض قيود على الإعلام، وأشيعا برلين، المفكّر الصهيونيّ البريطاني من أصل روسيّ والليبرالي نصير «إسرائيل»، وخوسيه أورتيغا إي غاسيت، المفكر الليبرالي الإسبانيّ المعارض لكل القوميّات الشوفينّيّة والدوغمائيّات الأيديولوجية، كما الفرنسيَّين ريمون آرون وجان فرانسوا ريفيل اللذين اشتهرا بنقدهما اللاذع لنجوم الفلسفة الفرنسيّة اليساريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
يقول يوسا إنّ قبيلته تلك ساعدته في التعامل مع الصدمات الأيديولوجيّة، ومكّنته بعد أربعين عاماً في التيه في صحراء اليسار من تطوير فلسفة جديدة ورؤية مغايرة عن العالم «تضع الفرد قبل القبيلة، أو الأمة، أو الطبقة، أو الحزب، وتدافع عن حرية التعبير كقيمة أساسية لممارسة الديموقراطية». لكنّه بالطبع لن يقول لنا إنّها كانت بشكل أساسي مدخلاً لاعتراف الغرب المجزي به. «نداء القبيلة» إعلان نهائيّ من يوسا باكتمال قوس الرّدة.