يدور كتاب «مرايا التحوّلات الرقميّة والتمثّلات الذهنيّة للذكاء الاصطناعيّ» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر) في فلك التحوّل الرقمي ويحاول معالجة بعض المواضيع من زوايا مختلفة تعكس رؤى مستقبلية للمجتمع من خلال ظهور الذكاء الاصطناعي؛ أي النظام الجديد الذي يقلب ركائز مجتمعنا رأساً على عقب.يرى مؤلف الكتاب غسان مراد أنّ الثورة الرقمية أثّرت تدريجاً في جميع ميادين الحياة، ولامست معظم أبعاد العلوم والقطاعات المختلفة، وغيّرت أساليب الباحثين في جمع البيانات ومعالجتها ونشرها. كما يقدم لنا خيوطاً جادة لاستيعاب المفاهيم الرئيسية التي تتعلق بالتحولات الرقمية والذكاء الاصطناعي من خلال طرح الموضوع خطوة بخطوة انطلاقاً من شرح آليات عمل الدماغ وصولاً إلى أكثر المواضيع جدلاً (اللغة العربية في عصر التقنية وتداخل الحضارات، الإعلام الرقمي، الخ). يعطينا غسان مراد مفاتيح لفهم تحديات عالم الغد بشكل أفضل، فالتحوّلات تطرق أبواب معظم القطاعات، ما يدفعنا إلى البحث عن براديغمات جديدة لفهم التطور الحاصل. كما خُلقت مفاهيم جديدة ومتعددة تغلغلت في المجالات كافة وهي تسهم في فهم المتغيرات الناجمة عن الرقمنة في المجتمع الحديث؛ فالمفاهيم الشائعة التي تتعلق بالمنهجيات العلمية تتبدل مع دخول الرقمنة إلى الإنسانيات. والتغيير ليس عملية فهم المتغير فقط، لكن أيضاً فهم الأداة التي أدّت إلى ذلك.


يشرح لنا مؤلف الكتاب كيف أن التخلّص من الأمّيّة المعلوماتيّة بات أمراً ملحّاً في العالم الحالي المتسارع؛ فكل شيء بات قابلاً للتحوّل الذي يؤسس للحضارة الإنسانية الرقمية: تنظيم العمل وإدارته، وطريقة الاستهلاك، والقيم الاجتماعية والثقافية، والمناهج التعليمية، وأيضاً طريقة استهلاكنا للوقت... كل هذه التحولات أصبحت في صميم مجتمعنا الحديث، إذ يتغير العالم بسرعة فائقة، ومع ذلك فإننا نعيش من يوم إلى آخر من دون أن ننتبه إلى ذلك. يطرح الباحث رؤى نقدية تجاه الثورة الرقمية، إذ يصف بموضوعية الخطر الذي يكمن في التحرك نحو «ثقافة أحادية» رقمية.
يحاول مؤلف هذا الكتاب تخفيف حدة التخيلات التي تدور حول الذكاء الاصطناعي والتحديات التي تنتظرنا من خلال زيادة الوعي العام بالمشاكل القادمة من جهة (قوة الخوارزميات، الاستيلاء على الإنسان من قبل الآلات، سباق المجتمعات إلى محاكاة التغيير معرفياً وأداتياً وإلى تأمين بنية تحتية رقمية، استعباد الإنسان والتلاعب بالأفراد، الأخبار المفبركة، وما إلى ذلك) وكذلك من خلال تلطيف هذه الرؤى المستقبلية المتشائمة والتنبؤ بمستقبل أكثر إشراقاً من جهة أخرى (مستقبل العلوم الإنسانية، اللسانيّات الحاسوبيّة والترجمة الآلية، خوارزميّات الذكاء الاصطناعي في حَوْسَبة اللّغة العربيّة...). يسلّح القارئ برؤية واسعة إلى حد ما لماهية الذكاء الاصطناعيّ، ولا سيما لمشاركته في مجتمعاتنا البشرية، إذ يصبح التحول الرقمي حقيقياً وعفوياً عندما يكون المجتمع بأفراده قابلاً للتعامل مع الرقمنة بوصفها حقيقةً تستدعي الركون إلى قواعدها. والأشخاص الذين يعرفون كيفية الاستعداد والإفادة من هذه التطورات سيخرجون الفائزين على عكس المترددين الذين يتأرجحون بين القبول والرفض من دون اتخاذ القرار المناسب، وهو فهم تحديات هذه التغييرات وتعلم كيفية الاستعداد لهذا التحول الكبير. وما يمنعنا من الاستسلام الأعمى لكل ما هو رقمي ولكل الشكوك المقلقة التي تولّدت عن قوة أجهزة الكمبيوتر هو «الوعي»/ الإدراك.
هذا الكتاب هو دليل حقيقي، يساعد في بناء ركيزة فكرية صلبة قادرة على فهم ما يحصل وما سيحصل، من خلال إبراز صورة واضحة وعميقة لماهية الثورة الرقمية وما أحدثته من تغييرات في المجتمع، واتخاذ موقف بشأن وسائل التواصل التي نتجت منها، من خلال عرض بعض ما يمكن أن يشكل تهديداً مباشراً وغير مباشر للأفراد من جراء التغيرات الناتجة من الرقمنة، والشعور الجديد الذي تثيره في البشر.
هذا الكتاب المرجعيّ المُتشعّب يبيّن أن التحول الرقمي هو عبارة عن تمثل للمعرفة مقروناً بفعل وممارسة. بناءً على ذلك، يتم تحديد المفاهيم الأساسية انطلاقاً من الدماغ والفكر، وصولاً إلى دور اللغة الأم الذي تؤديه في مواكبة هذا التطور. إننا نعيش في عالم متغيّر ومتزايد التعقيد، كما أن تحديات الغد الأساسية تؤتي أكلها؛ فالذكاء الاصطناعي في طور تنظيم تغيير عميق في أنماط الحياة.
يطرح الباحث رؤى نقدية تجاه الثورة الرقمية


إذاً، يعرض هذا الكتاب معايير ومفاتيح لفهم عالم الغد وبنائه، وتتمثل أهدافه الرئيسية في طرح رؤية تصف ما يتغير في تجربتنا في العالم، ولا يرتبط التحول الرقميّ بالضرورة بالتكنولوجيا الرقمية، بل يرتبط بحقيقة أن التكنولوجيا الرقمية تمكّن الناس من حل مشكلاتهم التقليدية باستخدام الحلول الرقمية، فلا يمكن إيجاد حلول لتساؤلات جديدة من خلال مفاهيم قديمة.
يسلط المؤلف أيضاً الضوء على القضايا الأكاديمية، ويعرض أهميّة إدخال المعلوماتيّة إلى كليّات الآداب والعلوم الإنسانيّة، فلكي تواكب اللغةُ العصرَ، يرى الكاتب أنه من المهم تدريس العلوم والمعلوماتيّة باللّغة العربيّة وتدريس المعلوماتيّة كعِلمٍ في العلوم الإنسانيّة وكذلك إدخالها في مناهج التعليم الأساسيّ.
وأخيراً، يتوجه هذا الكتاب إلى القراء بكلّ مستوياتهم من خلال استخدام لغة سلسة المفردات، رشيقة التراكيب، قريبة الفهم بعيدة عن التقعّر والتصنّع في إطار أسلوب بسيط ومباشر ومتماسك وواضح الأفكار والأهداف؛ فالغاية الأساسية تكمن في جذب القارئ إلى عالم من الفائدة ومنحه تأثيراً من غير تكلف أو تعقيد من أجل ملامسة كلّ من ذائقته ومستواه.