أخرجت البنت ثديها الكبير من فتحة صدر فستانها، ووضعته في فم أبيها. أبٌ عجوز، بلحية وقورة، لكنّه قويّ كحصان، بعضلات مفتولة، ورأس حليق، ولباس قديم، يشبه لباس سكّان روما القديمة في التّماثيل.الأب يرضع، والبنت تراقب بوّابة الزّنزانة بارتعاب.
المفترض في القصّة هو أنّ الأب سجين محكوم بالإعدام، بالموت جوعاً، أن يبقى هناك دون طعام أو شراب، حتّى الموت. هذا هو حكم الآلهة.
بدا الحرّاس أقلّ قسوة من الآلهة، لم يمنعوا ابنته من زيارته ساعة في النّهار، فقط كانوا يفتّشونها جيِّداً، قبل أن يتركوها تدخل الزّنزانة، مستغلّين الفرصة أثناء تفتيشها لتلمّس نهديها الكبيرين، كعميان. تظلّ صامتة ومبتسمة رغم ذلك ابتسامة متجمّدة كي يتركوها تمرّ.
حين يغلقون باب الزّنزانة عليهما، ويتوارون جنب الحائط كي يثرثروا، تخرج نهدها المتعب، وتضع حلمته الحمراء في فم الأب كأنّها أمّه. لكنّه كان يرضع أكثر ممّا يمكن أن يرضعه طفل، ويحسّ أحاسيس غامضة أثناء الرّضاعة، يقمع بعضها بسرعة؛ كأن يرى المرء في خياله صورة شيطان أثناء الصّلاة الخاشعة.

بارتولومي إستيبان موريّو مُرِيُّو ـــ «مَحَبَّةٌ رُومانيَّة» (زيت على قماش، 1670)

مرّت شهور وشهور، والآلهة تنتظر أن يموت العجوز جوعاً، والحرّاس ينتظرون أن يجدوه في الصّباح جثّة هامدة، يحملونها على خشبة، ويلقونها في حفرة في ساحة السّجن دون تابوت، ودون صلوات.
لكنّ العجوز لم يمت بعد شهر، ولا بعد شهرين، لم يمت أبداً! بل ظلّ قوياً كحصان، وعضلاته ظلّت مفتولة كدافعي العربات.
انتشر في السّجن عدد لا بأس به من الشائعات: أنّ العجوز قدّيس حقيقيّ، وأنّ الملائكة المجنّحة تأتيه بطعام من السّماوات كلّ ليلة، وأنّ الآلهة ندمت ندماً كبيراً، فسامحته، ومنحته شرف المعجزات، وأنّ من يلحق به أذى أكثر فالشّياطين ستفسد عليه حياته وحياة عياله.
جاء الحرّاس بخشوع في ذلك الصّباح، فتحوا زنزانته فأحدث بابها صريراً عميقاً، ركعوا قرب قدميه، وطلبوا منه المغفرة بمهانة.
لم يفهم ما بهم! رجوه بخنوع وذلّ أن يغادر الزّنزانة والسّجن، فهو حرّ طليق، وذلك بأمر الآلهة كلّها.
في كوخه عند طرف الغابة، كانت البنت تُرضع طفلها على ضوء اللّمبة الشّحيح، كان هو حزيناً مغموماً طيلة المساءات، رغم نجاته، يراقبها بصمت.
حليبها الّذي سرى في عروقه وفي روحه حوّله من أب إلى طفل، أراد أن يرضع، أراد أن يلعب وأن تهدهده حتّى ينعس وينام، أن يمسك نهدها الإلهي اللّيّن بأصابعه المرتعشة، أن يلقمه، أن يعضّ حلمتها بفمه الخالي من الأسنان كفم رضيع ويلهو بها بلسانه الجافّ، ناظراً بشرود إلى السّقف، نصف نائم، ونصف مستيقظ. أراد أن يبكي، أن يقول لها:
— يا أمّي... يا أمّي...
وكانت هي، بين الفينة والأخرى، تحيطه بنظرات مشفِقة.

* قصة مستوحاة من قصة الشابة التي أرضعت والدها السجين المحكوم بالإعدام في سجون روما حتى أنقذت حياته، القصة التي ألهمت عدداً كبيراً من الرسامين والفنانين.

* كنْلُو/ المغرب