جنوح رهط من اليساريين نحو تبنّي أطروحات مغرقة في الرجعية ومواقف عنصرية ليس بالأمر الجديد في التاريخ السياسي المعاصر، خصوصاً على الساحة الفرنسية. في هذه الساحة، برزت ظاهرة «الفلاسفة الجدد» في أواسط سبعينيات القرن الماضي التي شكلت بداية لموجة انتقال مجموعات من المثقفين اليساريين إلى معسكر اليمين العالمي بقيادة الولايات المتحدة لمقاومة «التهديد الشمولي» المتجسد في الاتحاد السوفياتي وحلفائه، بذريعة أنه الخطر الأمضى على «الإنسان» وحريته. بعد عمليات11 أيلول (سبتمبر) 2001، تجددت هذه الموجة مع التحاق زمر وأفراد من المثقفين الغربيين، والعرب، مع «أسلحتهم وأمتعتهم» وفقاً للتعبير الفرنسي المعروف، بخندق «الهيمنة الحميدة الأميركية»، للتصدي لما عرف بأنّه «شمولية إسلامية». شبكة متطرفة معولمة كـ «القاعدة» صُنِّفت على أنها أشد خطورة على شعوب المعمورة من منظومة السيطرة الغربية السائدة منذ قرون!
رسمة «شارلي إيبدو» التي أثارت الجدل وكتب عليها: زلزال في تركيا... لا داعي حتى لإرسال الدبّابات

أسبوعية «شارلي ايبدو» كانت بين المنضوين تحت راية الحرب الكونية على «الإرهاب»، وأعادت صياغة خطها التحريري وجميع مواقفها على قاعدة هذه الأولوية. لا يمكن فهم الرسم الأخير الخاص بالزلزال الذي وقع في تركيا والتعليق المصاحب له، «لا حاجة لإرسال الدبابات»، الذي نشر على صفحاتها، وجميع الرسومات الأخرى التي سبقتها، والتي أثارت جدلاً واسعاً في العقدين الماضيين، خارج هذا السياق العام الفكري والسياسي. أصل المشكلة، بنظر «شارلي ايبدو»، ومعها تيار عريض من الأنتلجنسيا الفرنسية والغربية، هو الإسلام وتعاليمه التي تحض على «التعصب والانغلاق والعنف»، وتحول أتباعه في بلدان الغرب إلى «خلايا نائمة» إرهابية جاهزة للانقضاض على أبناء «المجتمعات المضيفة» في اللحظة المناسبة. لا ضير بالنسبة إلى هؤلاء من استعادة الخطاب الكولونيالي العنصري عن الإسلام الذي اعتمد في حقبة التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر لإسباغ سمة «المهمة الحضارية» عليه. ينبري اليوم المدافعون عن حق الأسبوعية «الساخرة» بالشماتة بضحايا الزلزال، بالتذكير بـ «حرية التعبير» المقدسة في المراكز الإمبريالية وبينها فرنسا. لا بد من التوقف بداية عند مقولة «حرية الرأي» العتيدة، في بلد قدم رئيسه قبل ثلاث سنوات مشروعاً لقانون يجرم العداء للصهيونية باعتبارها صيغة مستحدثة للاساميّة، وهي جناية يعاقب عليها القانون الفرنسي. وبالنسبة إلى الحرب في أوكرانيا للمثال لا الحصر، يمارس هذا البلد إرهاباً فكرياً-سياسياً حقيقياً بحق أي رأي معارض أو حتى نقدي لسياسة باريس الحالية حيالها. في الواقع، وعلى الرغم من الانقسامات السياسية والاجتماعية الداخلية التي تشهدها فرنسا، فان حرية الرأي تتراجع، بخاصة إذا تعلق الأمر بقضايا هي محط إجماع أيديولوجي- سياسي صاغه ما يسميه الخبير بيار كونيسا، في كتابه الهام «تسويق الحرب»، المجمع الفكري-العسكري، أي شبكات مراكز الدراسات والباحثين التي تتولى بلورة المفاهيم والمقولات التي تبرر التوجهات المعتمدة من قبل الفئات الحاكمة، والتي يجري ترويجها من خلال أجهزة الدعاية الإعلامية. يتوازى انحسار مساحة حرية الرأي وطغيان الأيديولوجيا السائدة مع انفلات خطاب الكراهية من عقاله بشكل غير مسبوق في «بلاد حقوق الإنسان»، كراهية المسلمين أساساً، ولكن كراهية الروس والصينيين كذلك في الفترة الأخيرة. آخر نموذج لهذا النمط من «حرية التعبير» هو المقابلة التي أجراها المتفلسف ميشال أونفري مع الكاتب ميشال ويلبيك في مجلة «الجبهة الشعبية»، وهي مقابلة بالغة الدلالة، «توقع» فيها الثاني قيام مواطنين فرنسيين بـ«عمليات مقاومة» على حد تعبيره، عبر استهداف مقاه ومطاعم للمسلمين في فرنسا. تحريض علني على القتل بدوافع عنصرية لم يواجه بأي إجراء قانوني، ولا حتى بإدانة شكلية من قبل التيار الرئيسي في النخبة السياسية وأبواقها الإعلامية! لا داعي لتصوّر ردود الفعل الرسمية والشعبية لو صدر كلام مشابه من أي جهة تجاه اليهود الفرنسيين! تنمو في فرنسا المنحدرة، التي يتآكل نفوذها بسرعة كبيرة في «حديقتها الخلفية» السابقة في المغرب العربي والقارة السمراء، عصبية بيضاء يجري التعبير عنها بلغة منمّقة على المستوى الرسمي، كحديث ماكرون عن «انفصالية إسلامية»، وبأشكال أكثر فجاجة من قبل اليمين المتطرف أو من قبل نشرة متخصصة في تعميم الكراهية كـ «شارلي ايبدو». لا يمكن فهم الرسم المنشور فيها خارج هذا الإطار العام.

«دبّابات» شارلي
عن أيّ دبابات يتحدث التعليق المصاحب للرسم؟ حاول البعض ــــ لنفي الخلفية العنصرية الحاقدة عنه ـــــ التأكيد بأن المقصود هو المقارنة بين ضحايا الحرب في أوكرانيا وضحايا الزلزال، وهو تفسير بمنتهى البلاهة بطبيعة الحال. فما هي الفكرة التي يراد إيصالها من خلال مثل هذه المقارنة، وعبر التعليق المشار إليه؟ إذا وضعنا جانباً التبريرات الجوفاء للرسم، من نوع «أنه في أوكرانيا وتركيا، هناك الكثير من الموتى»، ومتابعة بالحد الأدنى للأخبار تكفي لمعرفة ذلك، فإن ما لا شك فيه أنّ غاية «شارلي ايبدو» منه مختلفة تماماً. شعارات من نوع «أرسلوا الجيش» أو «أرسلوا الطيران والمدرعات» كانت ترفع باستمرار من قبل ما اصطلح على تسميته في فرنسا «الحزب الاستعماري»، أي أنصار الاستعمار الأكثر حماسة وصحفهم وقياداتهم، كلما واجه هذا البلد احتجاجات أو مقاومة من قبل الشعوب المستعمرة.
أصل المشكلة، بنظر «شارلي ايبدو» هو الإسلام وتعاليمه التي تحضّ على «التعصب والانغلاق والعنف»

المعنى المقصود من قبل أسبوعية كراهية المسلمين كشعوب، وليس الإسلام كدين فقط، هو أنه لا حاجة إلى إرسال الدبابات الفرنسية والغربية لأن الزلزال تكفّل بالمطلوب، أي بنشر الموت والدمار بينهم. لكن هناك حقيقة أخرى يعكسها هذا الاحتفاء بالموت الجماعي والشماتة بالضحايا، وهي أن «الطبيعة» قامت بما لم تعد فرنسا قادرة على فعله، وهو شن الحروب وتحمل تبعاتها، نتيجة لتراجع قدراتها، وهزائمها المتتالية على مسارح العمليات الخارجية، وآخرها هروبها المذلّ من منطقة الساحل في مواجهة المجموعات السلفية الجهادية المسلحة. ومراجعة تاريخ فرنسا المعاصر منذ بدء انحسارها كقوة استعمارية في النصف الثاني من القرن العشرين، تظهر الصلة العضوية بين هذا التطور ونشوء وصعود اليمين المتطرف في داخلها، وانتشار الأطروحات الفاشية في مجتمعها، والميل المتزايد إلى اختراع عدو داخلي يصنف تهديداً وجودياً.

نوستالجيا الاستعمار والفاشية
ينسى كثيرون أنّ أبرز حزب لليمين المتطرف في فرنسا، واسمه اليوم «التجمع الوطني»، و«الجبهة الوطنية» في الماضي، أسّس من قبل أنصار «الجزائر الفرنسية»، الرافضين لجلاء الاستعمار عنها بعد هزيمته من قبل جبهة التحرير الوطني الجزائرية. نقل هؤلاء حربهم إلى الداخل الفرنسي ضد المهاجرين الجزائريين وأبنائهم وأحفادهم، قبل غيرهم، باعتبارهم طابوراً خامساً.

لا ضير بالنسبة إلى هؤلاء من استعادة الخطاب الكولونيالي العنصري عن الإسلام الذي اعتمد في حقبة التوسع الاستعماري في القرن التاسع عشر

لقد نجح هذا الحزب، بعد عقود عدة على تشكيله في التحول إلى لاعب مركزي على الساحة السياسية، والى كسب تأييد قطاعات وازنة من الفرنسيين لأطروحاته عن «التهديد الإسلامي»، ونظرية «الاستبدال الكبير»، أي حلول المهاجرين وأبنائهم مكان «الفرنسيين الأصليين، لأسباب عدة بينها تبني شرائح من «المثقفين» لها والمساهمة في بثها. انحدار فرنسا كقوة استعمارية كان ولادة للأنوية الأولى للفاشية، لكن استمرار الانحدار، نتيجة للتغييرات البنيوية الجيوسياسية والجيو ــ اقتصادية على الصعيد الدولي، وأهمها صعود دور اللاعبين غير الغربيين واتساع نفوذهم على حساب سطوة ونفوذ الغرب، وما ينجم عن ذلك من تأجج للتناقضات السياسية والاجتماعية في داخله، هي التي تفضي إلى انزياحات لأوساط متسعة من مجتمعاته ونخبه نحو اليمين المتطرف. وكلما تزايد إدراك الفرنسيين والغربيين لضمور تأثيرهم ووزنهم على المستوى الدولي العام، ولعجزهم عن تغيير اتجاه هذا المسار التاريخي، كلما ستعلو الأصوات الداعية إلى وحدة «القبيلة الغربية البيضاء»، وإلى «تطهيرها» من الدخلاء والمتسللين، للحفاظ على «نقاء» هويتها، للتصدي بفعالية أكبر لـ «الآخرين» غير الغربيين. «شارلي ايبدو» هي الوجه البشع لشيخوخة فرنسا، ولنوستالجيا الاستعمار التي تسكنها، والتي تعبّد الطريق أمام صعود الفاشية.