في العقود الأخيرة، انتهت الرواية الإسبانية إلى مكانة شاحبة مقارنةً بأعمال كتّاب أميركا اللاتينية الكبار أمثال ماركيز وكارلوس فوينتس وماريو فارغاس يوسا وروبيرتو بولانو، ممن سحروا العالم بروائعهم الخالدة. لكن إن كان ثمة استثناء وحيدٌ لهذه القاعدة، فلن يكون سوى كاميلو خوسيه ثيلا (1916-2002 ـــ حاز نوبل للآداب عام 1989) الذي يعدّه كثيرون أعظم روائيّ إسبانيّ منذ سيرفانتس.

كتب ثيلا بغزارة وجرأة في عدد من الأنواع الأدبيّة. كان شاعراً ومترجماً (عن الرّوسيّة)، إلا أنّ أهمّ أعماله تظل رواية «خليّة النحل» (The Hive) التي اضطر إلى نشرها بعد تعديلات في بيونس آيرس (الأرجنتين) عام 1951 على إثر صدور قرار بمنع طباعتها في إسبانيا ديكتاتوريّة فرانكو. لم تكن تلك أولى معاركه الخاسرة مع الرقابة في بلاده، إذ حُرمت باكورته «عائلة باسكوال دوارتي» (La familia de Pascual Duarte) من طبعة ثانية. وبعد منع «خليّة النحل» من النشر، حُظّر على الصحف الإسبانية ذكر أيّ شيء يتعلّق به أو بأعماله، ليستمر ذلك قائماً حتى عام 1966. رغم موقف ثيلا القائل باستحالة نقل المناخات الحقيقيّة للأعمال الأدبيّة بين اللّغات، فإن «خليّة النحل» تُرجمت إلى لغات عدّة. لكنّ نسخها بالفرنسيّة والإنكليزيّة ــ على الأقل ـــ تعرّضت لاجتزاء وتحرير بهدف تجنّب مقص الرقابة الأدبيّة في باريس ولندن، وتلك كانت حينها صارمة ورجعيّة وشديدة الحذر تجاه استعمال التعابير البذيئة. لذلك، فإن طبعتها الجديدة الصادرة أخيراً بالإنكليزية (مجلّة نيويورك ريفيو أوف بوكس ـ ترجمة البريطانيّ جيمس ووماك) تعدّ أوّل ترجمة كاملة وتامّة بدون تحرير للنصّ الذي لا يفتقد إلى الصراحة أو الفجاجة في تصوير انحطاط المجتمع الإسباني خلال الفترة التي تلت إسقاط الجمهوريّة والحرب الأهليّة (1936 – 1939).
يستعصي ثيلا على التصنيف ضمن مدرسة أدبيّة واحدة، لكن ذلك لم يعنه أبداً وقال إنّه لا يمانع في أن يُموضعه القرّاء حيث يشاؤون، فـ «ما كُتب قد كُتب». يضع النقّاد «خليّة النحل» في خانة الواقعيّة، إلا أنّ ثيلا اعتبرها نصاً متقلب المزاج، وأقرب للفوضى، «تماماً كما هي الحياة في مدينة عشوائيّة مفتقدة للنظام». على أنّ ثمة مشتركاً لا خلاف عليه بين كتاباته: شغبها الظاهر، شراستها البالغة، تهوّرها المتعسّف، ومفرداتها القذرة، وبذاءتها المخجلة، وقدرتها على الاستفزاز والإزعاج. لكنّ وراء كل هذا الصخب، هناك دوماً إعادة رسم كرنفالي للمجتمع الإسباني ضمن لوحة هائلة تلتقط أدق تفاصيل الكابوس السورياليّ الذي يكتنف مساعي ناسه في خضم صراعهم مع الحياة من أجل الحياة. كأنّ ثيلا ليس إلا غويا (الرسّام الإسباني الشهير)، وقد بعث في إسبانيا فرانكو روائياً على ما يقول بول ويست. يتمتع بطاقة عجيبة لتشييد الجمال المبهر من حجارة القبح وأدوات السخافة، وتوجيه أعلى مستويات النقد السياسيّ من خلال بذاءات سوق شعبيّة للخضار.
تدور أحداث «خليّة النحل» على مدار بضعة أيام في مدريد عام 1943، بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب الأهلية الإسبانية عندما كان نظام الجنرال فرانسيسكو فرانكو المدعوم من الغرب يمارس أبشع أشكال القمع على مجتمع مكسور وجريح ومريض. تتبع الرواية نهجاً تجريبياً غير مألوف لحينه في السرد الإسبانيّ حيث النصّ يبدو كتجميع لشرائح من واقع مجزّأ، وتتابعاً بدون خطّة واضحة لمقاطع حواريّة قصيرة وعفويّة مستلّة من قلب الحياة اليوميّة. الشخصيّات كثيرة (أكثر من 300)، والطبقات جميعها حاضرة (من الثري الباحث عن اللّذة العابرة إلى المتسول المشرد الذي لا يجد سقفاً يؤويه). لكن ثيلا لا يخبرنا الكثير عن خلفيّة المتحدثين. يتوقع من القارئ أن يراهم من خلال الكلمات التي يقولونها، والطريقة التي يتحدثون بها، وما يتحدث به الآخرون عنهم. في الحقيقة، فإن تفاعلات الشخصيّات غالباً ما تكون ذات مغزى وحيوية حتى يبدو العمل بمجمله كأنّه فيلم وثائقي عن الحياة في مدريد في لحظة تخلّ حيث الفقر والتدهور الأخلاقي، والنفاق واجتماع الأضداد في نفوس أبناء مجتمع ذلك الوقت. ثيلا هنا ليس مهتماً بالمدينة ذاتها أو بمعالمها، بل ينصرف تركيزه إلى مشاعر ناسها، وتلك التمثلات اللانهائيّة التي يظهر بها بؤس البشر على السطح في المجتمعات المهزومة.
«خليّة النحل» سجل توثيقيّ لمرحلة مفصليّة من التاريخ الإسبانيّ. في زمن غلبة أدب البلدان الناطقة بالإسبانية، فإنّها تتكفّل منفردة بتمثيل إسبانيا عند الحديث عن عمالقة أدب الرّواية المعاصر. يا له من انتصار حاسم ونهائيّ – وإن متأخر - لكاميلو خوسيه ثيلا على الرّقابة

* The Hive (New York Review Books Classics), by Camilo José Cela (Author), James Womack (Translator) 2023